جريمة طرابلس بزمن الإفلات من العقاب: قتل النساء عادة

للقاتل في لبنان مخارج كثيرة للإفلات من العقاب.. ونادراً ما ينال الضحايا حقهم بالعدالة (يحي جبشيتي)
للقاتل في لبنان مخارج كثيرة للإفلات من العقاب.. ونادراً ما ينال الضحايا حقهم بالعدالة (يحي جبشيتي)


جريمة طرابلس بزمن الإفلات من العقاب: قتل النساء عادة

ليست اللبنانية منى الحمصي أولى ضحايا جرائم القتل الأسري، ولن تكون آخرها طبعًا، في بلد تترسخ فيه يومًا بعد آخر منظومة الإفلات من العقاب على نحو خطير، وبلغ حدّ "تشريع" مجتمعي لجرائم القتل علنًا أمام الناس.


لا عقاب.. لا دولة

في بلد آخر، قد تبدو واقعة مقتل امرأة على يد زوجها في الشارع، وبواسطة بندقية، وعلى مرأى أعين الناس نهارًا، جريمة صادمة ومروعة تستدعي تحرك الدولة بكامل أجهزتها. لكن في لبنان، حيث بلغ انحلال الدولة، مع ما تعنيه قضائيًا وأمنيًا وسياسيًا، قعرًا لا يمكن لعاقل تصوره.. يصبح مقتل منى حادثًا عاديًا وطبيعيًا ومتوقعًا.


والسؤال المنطقي الوحيد: من هو أو هي الضحية المقبلة؟

أما كل الأسئلة الأخرى، وعلى عمقها وأهميتها، تبدو خارج المنطق في بلد "اللادولة"، حيث تجد كل أشكال العنف والفوضى مرتعًا "منظمًا" لها. وهكذا، يصبح مقتل منى كما حال أخريات - في بلد يملك تراثًا زاخرًا حول قصص قتل النساء - جريمة تتخطى وضعها في خانة العنف ضد النساء، وهو عنف صار واحدًا من مرادفات "اللا دولة".

جاء مقتل منى بعد يومين فقط من كشف جريمة قتل الشيخ أحمد الرفاعي من بلدية القرقف العكارية. يعني أن القاتل المدعو عيسى سمية، وهو المؤهل متقاعد في قوى الأمن الداخلي – أي عنصر كان مولجًا بحفظ أمننا – لم يردعه نفسيًا، هو القابض على خمسة قاتلين سابقاً، من ارتكاب جريمته. بل فعلها متباهيًا ببندقية صيد "بومب أكشن"، أطلق منها رصاصته على جسد المغدورة منى الحمصي عند مدخل جبل محسن في طرابلس. لم يخف ولم يرتد عن قتلها أمام الناس، وكأن الشارع حصانته التي تضمر ضعفه وعجزه.

يدرك هذا المؤهل المتقاعد، أن للقاتل في لبنان مخارج كثيرة ولو بعد حين، وأن إثبات البراءة ليست شرطًا ملزمًا. وربما المثير للاهتمام في الجريمة، أنها تؤشر إلى تنامي ظاهرة ارتكاب عسكريين متقاعدين أو حاليين لجرائم قتل.


وقائع الجريمة

يروي شهود عيان لـ"المدن" في جبل محسن وقائع الجريمة، ويصفون منى الحمصي بالسيدة الصابرة التي تحملت لأجل أولادها سنوات مديدة من العنف، من دون أن يكون لها القدرة على الخلاص من زوجها، رغم رفعها لدعاوى طلاق.

استمر زواج منى (50 عامًا) من القاتل عيسى سمية نحو 18 عامًا. وقبل نحو ثلاث سنوات، رفعت دعوى طلاق فحرمها من أبنائها، وانتقلت للعيش في منزل عائلتها، التي سبق أن تقدمت بعدة بلاغات وشكاوى حول ملاحقتها وتعنيفها، إلى المخفر، والقضاء والمراجع الدينية بالمنطقة، من دون أن تصل إلى جدوى.

وفيما يبلغ أبناء السيدة منى ما دون 18 عامًا، واصل ابتزازها بهم، وأراد إجبارها على العودة لمنزله لكنها رفضت، وهو الدافع الرئيسي وراء جريمته.

وشاهد العشرات من أبناء جبل محسن لحظة وقوع الجريمة، وقاموا بتوثيقها، إذ أقدم المدعو عيسى سامية ظهر الثلاثاء على إطلاق طلقات نارية من بندقيته نحو رأسها وبطنها وساقها، بعد أن تتبعها خفية أثناء خروجها من منزل عائلتها.

وعند ارتكاب جريمته، صودف مرور عنصر بأمن الدولة تمكن من توقيفه مع أداة الجريمة، فسلمه إلى الجيش اللبناني، ثم أعلنت مديرية التوجيه عن إلقاء القبض عليه، حيث يجري التحقيق معه.

مكث جثمان السيدة المغدورة في المستشفى الحكومي في طرابلس حتى صباح اليوم الأربعاء، بعد كشف الطبيب الشرعي عليها، ثم جرى تشييعها في جبل محسن بمأتم مهيب حضره العشرات من أبناء البلدة.


قتل النساء عادة

أثارت هذه الجريمة غضب اللبنانيين وتحديدًا النساء، وارتفعت الأصوات الحقوقية التي تذكر مرة جديدة أن النساء يعشن خطرًا كبيرًا في لبنان، بفعل غياب القوانين الرادعة التي تضع حدًا للجرائم الناتجة عن العنف الأسري، وغياب العدالة والمساواة التي عززت الثقافة والسطوة الذكورية.

قانونيًا، سبق أن أقر البرلمان اللبناني في العام 2020 تعديلات على قانون "حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري"، بعد مضي 6 سنوات على إقراره في 2014. ومع ذلك، بقي القانون عاجزًا عن تأمين شبكة أمان فعّالة للنساء والأطفال. ورغم أن عددًا كبيرًا من الأحكام صدرت بحق مرتكبي جرائم قتل النساء في لبنان، غير أن معظمها خضع لاعفاءات كثيرة، أو لم ينفذ بصورة مطلقة، أو استغرق وقتًا طويلًا امتد سنوات لصدوره، رغم أن الجرائم تكون وقائعها شديدة الوضوح والمعالم، ويكون مرتكبوها معروفي الهوية.

وعلى الأرجح، ستمضي جريمة مقتل منى بدم بارد على يد زوجها كأن شيئًا لم يمكن، وستطوي صفحتها جرائم مقبلة حتمًا. وكأن ارتكاب الجرائم الفردية، صار تفصيلًا، طالما أن الجرائم الكبرى والجماعية في لبنان، وقعت وباقية ومستمرة من دون محاسبة، ومن دون ملاحقة، ومن دون عقاب. لا بل إن أربابها هم مهندسو نظام الإفلات من العقاب، وزعامة اللا دولة.

تعليقات: