انتعاش الطاقة المائية والنووية إلى جانب ارتفاع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح (Getty)
قبل عامٍ أو نحو ذلك، وعلى أعتاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بدت فكرة اعتماد أوروبا على الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء أكثر من النفط والغاز، وكأنها ضرب من ضروب الخيال. واللافت أن ذلك بدأ يتحقق بفترةٍ وجيزة، فبحلول نهاية عام 2022، تفوقت طاقة الرياح والطاقة الشمسية سويةً على الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء الأوروبية. وتروي أحدث البيانات حول التحول المتجدد في أوروبا قصةً متفائلة حول الأشياء الصعبة التي يمكن أن تنجزها البلدان بشأن تغير المناخ، متى توفرت إرادة سياسية كافية.
تسريع الانتقال إلى الطاقة الخضراء
قبل الحرب الروسية-الأوكرانية، كان ما يُقدّر بـ40 في المئة من الغاز الطبيعي و27 في المئة من واردات النفط إلى أوروبا تأتي من روسيا، وكانت أوروبا تفتقر إلى خطوط الأنابيب والمحطات في المواقع التي يمكن أن توزع الغاز من أجزاء أخرى من العالم، مثل الولايات المتحدة. ثم جاءت العقوبات المفروضة على النفط والغاز الروسيين، وكان لها وقعها الوخيم على الاستقرار، مخلفةً صدماتٍ في الأسعار ونقصٍ في الوقود وزيادةٍ في استخدام الفحم هذا الشتاء.
لكن أسوأ المخاوف لم تقف عند هذه الحدود. إذ وجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطراً كي يملأ الفجوة التي خلفتها العقوبات على الفحم الروسي، وهو الوقود الأحفوري الأكثر تلويثاً، وبينما عاد الفحم لفترةٍ وجيزة، ارتفع توليد الوقود الأحفوري في القارة العجوز العام الماضي بنسبة 3 في المئة.
هذه الصورة السوداوية لا تعكس كل المشهد، فرغم الصعوبات، دخلت الطاقة الشمسية في أوروبا في مسار نمو لا يمكن إيقافه، تلفت إليه مجموعة "إمبر" البريطانية لبحوث الطاقة، بإشارتها إلى تضاعف قدرة الطاقة الشمسية في أوروبا منذ عام 2018، وبأنها في طريقها لتتضاعف ثلاث مرات في السنوات الأربع المقبلة.
ولا بد لنا من الإشارة بأن أسعار النفط والغاز والفحم تمليها تقلبات الأسواق. وتحدث صدمات أسعار النفط والغاز مرة كل بضع سنوات. لكن أسعار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تعتمد على تحسن التكنولوجيا، وتتبع منحنى أكثر قابلية للتنبؤ به، حيث تصبح بمرور الوقت أرخص وأكثر تقدماً. وقد دفعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا الدول الأوروبية لتبني نهج الاستخدام غير المسبوق لتكنولوجيا الطاقة المتجددة وتطويرها وتسريع خطط التخلص من الاعتماد على الغاز والنفط نحو حقبة جديدة من الاعتماد الكامل على الطاقة الخضراء.
بداية النهاية
بينما كانت الأمور تزداد سوءاً على الجبهات، تحولت المنازل والشركات الأوروبية العام الماضي إلى استخدام الطاقة الشمسية على الأسطح بسبب قلقها من ارتفاع أسعار الكهرباء. مضيفين ثلاثة أضعاف الجيغاوات من قدرات توليد الكهرباء الجديدة من الطاقة الشمسية في عام 2022 مقارنةً بالعام الذي سبقه.
كما كان لكفاءة الطاقة لحظتها. وهذا ما تُرجم على الأرض بتقنين استخدام الطاقة، ما انعكس إيجاباً بطبيعة الحال على المناخ وساهم في تخفيض التكلفة. وقد لعبت الإجراءات الطوعية دوراً في خفض الأوروبيين لاستخدام الكهرباء بنسبة 20 في المئة. وكذلك فعلت بعض الجهود واسعة النطاق من قبل الحكومات والشركات، فقامت الدول بخفض الحرارة في المباني العامة، وأطفأت فرنسا الأنوار في وقتٍ مبكر في برج إيفل، وتم تشجيع عامة الناس عبر حملات توعية على استخدام الكهرباء خارج ساعات الذروة.
واستفادت أوروبا من بعض تكنولوجيا المتطورة لخفض استخدام الطاقة. ونشير هنا على سبيل المثال، أن المضخات الحرارية تتطلب طاقة أقل من الأفران والغلايات التقليدية. وكان سوق هذه المضخات في ارتفاعٍ بالفعل في أوروبا قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، وعادت المبيعات لترتفع مجدداً في عام 2022، وتضاعفت في دول مثل بولندا وإيطاليا والنمسا وهولندا.
إنطلاقاً من ما تقدم، تتوقع مجموعة "إمبر" أن يشهد هذا العام بداية نهاية الغاز الطبيعي في أوروبا. مرجحةً أن ينخفض توليد الوقود الأحفوري بنسبة 20 في المئة، مع انتعاش الطاقة المائية والنووية إلى جانب ارتفاع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
أما الولايات المتحدة التي تقف وراء مسار أوروبا المتجددة، فهي ليست بعيدة جداً عن اللحاق بالركب. ووفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، تستعد الولايات المتحدة لإنتاج طاقةٍ من الرياح والشمس بمعدلاتٍ أكبر من الفحم في العام أو العامين المقبلين. ونذكر في السياق أنه في عام 2022، شكل الغاز الطبيعي 38 في المئة من توليد الكهرباء في الولايات المتحدة، والفحم 23 في المئة، مقارنةً بالرياح والطاقة الشمسية معاً بنسبة 14 في المئة من الكهرباء.
استثمارات الغاز في مهب الريح
بطبيعة الحال، سيكون لانتقال أوروبا نحو الطاقة الخضراء تأثيرٌ كبير على أسواق الغاز. فاستجابةً للأزمة التي عصفت بأوروبا بعد الحرب، دعا بعض السياسيين في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى تكثيف البنية التحتية للوقود الأحفوري لإعادة تشكيل طريقة شحن الغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم. وبدلاً من استيراد أوروبا للغاز عبر خط أنابيب من روسيا، ستقوم الولايات المتحدة (أكبر مصدر للغاز في العالم حالياً) بتكثيفه في شكله المسال لشحنه عبر المحيط. وسيتطلب هذا قدراً هائلاً من البنية التحتية والاستثمارات.
تمكنت ألمانيا من بناء أسرع نسخة من هذه المحطات البحرية العائمة التي يمكنها قبول الغاز الطبيعي المسال في سنةٍ واحدة وحسب. ورغم ما بذلته ألمانيا من جهودٍ جبارة، تقول مؤسسة المناخ الأوروبية، أن خطط الاتحاد الأوروبي الضخمة لاستيراد الغاز هي استثمارٌ في المكان الخاطئ. حيث أن إعادة تشكيل نظام الوقود الأحفوري في الاتحاد الأوروبي بالكامل لقبول الغاز الأميركي بدلاً من الروسي سيستغرق سنوات حتى يتحقق.
وبهذا الصدد، يعلق جوليان بوبوف، الباحث البارز في مؤسسة المناخ الأوروبية بالقول "أصبح توليد الغاز واستخدامه غير قادر على المنافسة مقارنةً بمصادر الطاقة المتجددة. وبالتالي، قد تجد شركات الغاز المنكبة على تشييد البنية التحتية أنه بحلول الوقت الذي ستكمل فيه عملها، سيكون التنافس مع مصادر الطاقة المتجددة مكلفاً للغاية".
بعبارةٍ أخرى، لن تساعد هذه البنية التحتية الجديدة للغاز في المدى القريب، وستؤدي إلى ضرر أكبر من نفعها على المدى الطويل. وهذا ما يشرحه مارك كامبانالي، رئيس مركز بحوث "كاربون تراكر" في المملكة المتحدة، بقوله "يتم بناء المنشآت وخطوط الأنابيب والناقلات بناءً على توقعات تتراوح بين 20 و30 عاماً. لكن ماذا سيحدث إذا كان لديهم 10 سنوات وحسب، وهي الفترة المتوقعة لتخلص أوروبا بالكامل من الوقود الأحفوري. ببساطة، لن يرى المستثمرون أبداً العائد الذي اعتقدوا أنهم سيحصلون عليه".
يواجه الاتحاد الأوروبي حالياً تحدياتٍ تتمثل بزيادة سعة التخزين للطاقة الشمسية على الأسطح، واستبدال الملايين من غلايات الغاز والأفران والمواقد في منازل الناس التي تعمل بالغاز بمضخاتٍ حرارية وبدائل تستهلك قدراً أقل من الكهرباء. لكن سرعة التغيير خلال العام الماضي تشير إلى إمكانية التغلب على هذه التحديات. وإذا كان هناك من درسٍ من العام الماضي في أوروبا، يختصره كامبانيل بكلماتٍ قليلة قائلاً "عصر الوقود الأحفوري إلى أفول. لقد ولت أيام حرق الأشياء لتدفئة منازلنا".
تعليقات: