يوسف غزاوي: «حفّارو القبور» للمفكّر روجيه غارودي.. الحضارة التي تحفر للإنسانيّة قبرها


كلّنا يعرف المفكّر والفيلسوف الفرنسيّ الطليعيّ بجرأته وصراحته ونقده للحضارة الغربيّة ممثّلة بالولايات المتحدة الأميركيّة، والأثمان التي دفعها هذا المفكّر نتيجة مواقفه التي تعرّي دول الغرب عبر كتابات بحثيّة عميقة الدلالات وممنهجة علميّاً. كان غارودي واحدًا من دعاة حوار الأديان السماويّة، وقد ناصر قضايا إنسانيّة عدّة في العالم.

الكتاب الذي بين أيدينا، "حفّارو القبور"، ليس جديدًا، لكّنه يُحاكي المراحل كافّة، ولا سيّما الحاليّة منها. يتألّف من مقدّمة وأربعة أجزاء؛ يذكر في المقدّمة سقوط غرناطة الذي مضى عليه خمسمئة عام، هذه المدينة التي كانت تُعتبر آخر معقل للثقافة الإسلاميّة في أسبانيا، والتي شكّلت الجسر الأخير ما بين الشرق والغرب. كانت غرناطة مركزًا مميّزًا لتصدير أنواع الآداب والعلوم والفلسفة إلى كلّ أوروبا لفترة ناهزت القرون الثلاثة. ثمّ جاءت حرب الخليج 1992 لتسجّل اكتمال العمل على تقسيم العالم إلى نصفين، وتقديم النموذج الأميركيّ الحقيقيّ والحيّ للهيمنة والسطوة الغربيّة، وقيام بدعة النظام العالميّ الجديد، وريث النظام الاستعماريّ البائد.. سجّل ذاك العام قمّة الهيمنة الأميركيّة على العالم.. وليست هذه الهيمنة عسكريّة فقط، بل إعلاميّة فرضتها، وتفرضها وسائل الإعلام على البشر..

جاء الجزء الأوّ ل منه بعنوان العالم المحطَّم والهيمنة الجديدة، حيث يُعرّج فيه على حرب الخليج والاستعمار. يقول المؤلف أنّ الأميركيّين دفعوا في حربهم على العراق بكلّ الوسائل التكنولوجيّة الأكثر تعقيدًا وساديّةً في حرب مفتوحة وشاملة سادتها البربريّة، وامتلأت بالأكاذيب..

وتحت عنوان شمال- جنوب، يتحدّث عن دول العالم الثالث ونهب ثرواتها، ودفعها للرزوح تحت وطأة الديون الثقيلة. يقول أنّ حضارة اختفت من التاريخ من خلال الدور القذر الذي لعبته بريطانيا في الهند، والإبادة الجماعيّة هناك. وينسحب هذا الأمر، برأيه، على الدول الأخرى الخاضعة للاستعمار الفرنسيّ والبلجيكيّ والهولنديّ والإيطاليّ، معطيًا المثال على الجزائر التي دام احتلالها قرنًا ونصف القرن. ويستشهد المؤلّف من وقت لآخر بآيات قرآنيّة تبريرًا لدفاعه عن الديانة الإسلاميّة أثناء كتاباته المتعدّدة مقارنة بما مارسه الغرب ضد الشعوب التي حكمها. ويتحدّث عن المهاجرين والتجارة بين الشمال والجنوب والمعونات الماليّة والتكنولوجيّة من دول الشمال التي يُكمن هدفها بالاستمرار في إخضاع الدول الفقيرة. يُعرّج على دور البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ ودورهما في تخريب النصف الجنوبيّ للكرة الأرضيّة. يحكي عن المخدّرات واستفحالها في الولايات المتحدة الأميركيّة.

عنوان آخر في الكتاب حول الهيمنة العالميّة للولايات المتحدة؛ يذكر حرب الخليج التي كان هدفها بسط هيمنة أميركا على العالم، والاحتفاظ الدائم لوجودها العسكريّ في دول العالم. كذلك الأمر عبر تدخّلها في أميركا اللاتينيّة وآسيا وأوروبا. ذكر مصر والخطّة لإقامة دولة قبطيّة فيها إلى جانب كيانات أخرى.. وتجزئة لبنان إلى خمس دويلات صغيرة الحجم تشكّل نموذجًا لما سيحصل في أنحاء العالم العربيّ كافة. وتقسيم العراق وسوريا لتدمير القدرة العسكريّة لهاتين الدولتين. والهدف الأبرز هو حماية إسرائيل، حسب قوله ... والهجمة على ليبيا، ومحاولة اغتيال القذافي واتهامه بالهجمات في برلين وروما. وهناك أبضًا تفكيك الاتحاد السوفياتيّ، الذي نجح في تنفيذه الأميركيّون. ذكر غارودي كارل ماركس وكتاباته، ولينين وستالين وبوريس يلتسين وغورباتشوف وفشل هؤلاء جميعًا.. رأى المؤلّف أنّ الانهيار في الاتحاد السوفياتيّ هو فرصة لرجال السياسة والأعمال الغربيّين لإيجاد سوق ضخم انفتح أمامهم.. أمّا أوروبا الشبح، فلم تسلم من الخطّط الأميركيّة وإلحاقها بها؛ فقد عملت السياسة الأميركيّة على استخدام بريطانيا كحصان طروادة تابع لها. وقد قُسّمت أوروبا إلى مجموعتين من الدول.

أمّا الجزء الثاني من الكتاب فحمل عنوان أعراض الانحطاط؛ يسأل المؤلّف: ألا تهدّد الولايات المتحدة بدفع العالم نحو عصر الانحطاط والتخلّف بسبب الهيمنة الكاملة التي تفرضها على العالم..؟ ليجيب أنّ أعراض الانحطاط متمثلة بالولايات المتحدة عبر قيامها بالعمل على تفكيك أطر النسيج الاجتماعيّ كافة، وتفكيك أواصر المجتمع ومستقبله.. ويتحدّث عن تفاقم التفاوت وعدم المساواة (السوق المتوحّش) والتضحية بالمستقبل في سبيل الحاضر، وثقافة اللامعنى حيث "الحقيقة" سلعة عرضة للبيع والشراء، ويشدّد كثيرًا على خطر الإعلام الذي يتمّ عبره إعداد شعب لدخوله العبوديّة (من اليمين إلى اليسار). ولم ينسَ الفنّ من ذلك، فهناك لعبة المسابقات والجوائز الدوليّة حيث سيطر الربح على نشر الأعمال الفنّيّة عبر تشارك النقد الفنّيّ والإعلام في الترويج للتجارة التي تفتقر للمعنى. يعطي أمثلة على نماذج فنّيّة ساقطة كفضلات كلبٍ منثورةٍ على زجاج ملوّن، ومشط ومجفِّف شعر معلّقان في السقف (هي سخرية من أعمال التجهيز الفنّيّ الذي سيطر على الحداثة وما بعدها). وسخريّته من البانك (حليقيّ الرؤوس). ويُعرّج على السينما حيث بنى عمالقة هوليود خططهم لغزو أوروبا والعالم.

يشنّ غارودي في كتابه حربًا على الحداثة وكلّ ما يندرج تحتها من فنون تشكيليّة وروائيّة وفلسفيّة التي تجهد في سبيل سحق ومحو إنسانيّة الإنسان في حقوق وميادين الثقافة كافّة. يبرز، بالنسبة إليه، التلفزيون كالمثال الأكثر تحديدًا والأوسع تأثيرًا في مجال التحوّل السريع إلى الطريقة الأميركيّة. ينتقد المهووسين بالولايات المتحدة الذين ينسون وجود مليار إنسان يتكلمون الصينيّة، و300 مليون شخص يتحدّثون الأسبانيّة، و200 مليون فرد ينطقون بالعربيّة. يذكر أنّ أحد منتجي برامج المنوعّات في القناة الأولى الفرنسيّة أنّه قال: "إذا قدّمنا برامج ذات مستوى، تراجع عدد المشاهدين، إذ أنّهم لا يفكّرون.. لنتوقّف إذن عن لعب دور المعلّمين".

ثمّ يعرّج على كتاب فوكوياما (المستشار في الإدارة الأميركيّة) كنموذج حيّ لعقيدة تبرير "الفوضى العالميّة الجديدة"، الذي يرى نهاية التاريخ مع الديموقراطيّة الليبراليّة التي تمثّلها الولايات المتحدة كحالة نهائيّة للتطوّر..

الجزء الثالث من كتاب غارودي يدور حول التكنولوجيا: الأم الآلهة؛ فيرى أنّه جرى تكريس القضاء على كامل الأبعاد الإنسانيّة الساميّة لدى الفرد، ورفض القيم المطلقة كافة. يعطي مثلًا عن القنبلة الذرّيّة التي أُلقيت على هيروشيما، فأدّت إلى مقتل أكثر من سبعين ألف شخص في لحظة واحدة، وهو ما يُعتبر تقنيّة هائلة لا شكّ فيها. في حين أنّ جنكيزخان، على سبيل المثال، فقد تطلّب الأمر منه سبعة أيّام لإقامة هرم من عشرة آلاف جمجمة عقب احتلاله أصفهان.

يعود غارودي إلى نقد الحداثة الخاضعة للعلوم والتقنيّات؛ عقل براغماتيّ مرتبط بحكمة "الغاية تبرّر الوسيلة". وحدانيّة شموليّة للسوق، أي المال. أسلوب حياة "غربيّ" يرمي إلى تحويل الإنسان إلى منتج أكثر فعاليّة، ومستهلك أكثر شراهة.. ويتساءل عمّا إذا كانت "الحداثة" ستؤدّي إلى موت بطيء للفنّ، للحبّ، للإنسانيّة وللإيمان؟ يعطي أمثلة في فنّ الرسم والتصوير؛ فتحطيم اللون.. هو الانطباعيّة. تحطيم المسافة والشكل.. هو التكعيبيّة. تحطيم الأشياء والطرافة.. هو التجريديّة. ليرى أنّ الحداثة انتهت بكونها تغييرًا من أجل التغيير، والتجديد بأيّ ثمن؛ الجهل بالماضي والتحدّي للتقاليد.. يذكر قولًا للفنان خوان غري يشدّد فيه على قوّة الماضي لقياس العظمة. ثمّ يعود إلى السياسة حيث قاد النظام السائد في الغرب إلى تدبير مذبحة الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتيّ.

في الجزء الرابع من الكتاب يتناول تنظيم الحرب الاقتصاديّة، حيث المقاطعة برأيه هي السلاح الأوّل لمواجهة هذه الهجمة. يرى المؤلّف أنّ مقاطعة السلع الأميركيّة هي ممكنة لتوجيه ضربات قاسية للاقتصاد الأميركيّ. والحلّ الثاني وضع نهاية للصدع الاستعماريّ بين شمال وجنوب العالم كمفتاح لمشاكلنا والانفتاح على العالم الثالث، والحاجة إلى نسيج اجتماعيّ جديد كلّيًّا، عوضًا عن نظام الأحزاب.

في خلاصة الكتاب، استعادة للأمل، ويرى أنّه يتوجّب علينا إعادة النظر في وظائف الدين والسياسة والاقتصاد.

يُنهي كتابه بقول للشاعر ناظم حكمت: إن لم أحترق أنا.. إن لم تحترق أنت.. إن لم نحترق نحن.. فكيف للظلمات أن تصير ضياء؟

كتاب قيّم، غنيّ بالمعلومات والأمثلة والآراء، جدير بالقراءة والتمعّن.


* د. يوسف غزاوي

تعليقات: