احتيال عابر للحدود: تهريب دولارات العراق عبر بيروت

يستغل الإيرانيون سوق القطع العراقي لشراء الدولار النقدي والالتفاف على العقوبات (Getty)
يستغل الإيرانيون سوق القطع العراقي لشراء الدولار النقدي والالتفاف على العقوبات (Getty)


وفقًا لجميع المؤشّرات النقديّة والاقتصاديّة البحتة، لم يكن من المفترض أن يكون العراق اليوم إحدى الدول التي تعاني من أزمة تعدد أو فوضى أسعار الصرف. فاحتياطات المركزي العراقي، كانت قد لامست في مطلع هذا العام حدود 100 مليار دولار أميركي، بعدما صعدت إلى مستوى 82 مليار دولار قبل خمسة أشهر فقط من السنة. وتراكم الاحتياطات على هذا النحو السريع، جاء مدفوعًا بتجاوز متوسّط سعر برميل النفط (خام برنت) حدود 100 دولار خلال العام الماضي، مقارنة بـ70.86 دولاراً خلال العام 2021، و41.96 دولاراً فقط عام 2020. ومع كل قفزة في أسعار النفط، كانت عوائد العراق من إنتاج خمسة ملايين براميل من النفط يوميّا تتزايد بالنسبة ذاتها. وهذا تحديدًا ما يفسّر تضخّم احتياطات المصرف المركزي العراقي في نهاية السنة الماضية.

ومع ذلك، يبدو وضع الدينار العراقي في سوق القطع في غاية الهشاشة، بعدما طالته ظاهرة تباين أسعار الصرف وتعددها، تمامًا كحال الدول التي تعاني من شح تدفقات العملات الأجنبيّة، كلبنان وسوريا ومصر. في السوق الموازية، يُباع الدولار اليوم الإثنين بسعر يقارب 1585 ديناراً عراقياً، فيما يقف سعر الصرف الرسمي عند مستوى لا تتجاوز في قيمة 1310 دينارات. وتمامًا ككل الدول التي تشهد هذا النوع من الظواهر، تزدهر على هامش الأزمة عمليّات تهريب دولارات المصرف المركزي، بأساليب متنوّعة. ومن هذه الأساليب مثلًا، ظاهرة تهريب الدولارات إلى لبنان، التي توسّعت بشكل لافت خلال الأسابيع القليلة الماضية.


أسباب الأزمة: إيران والعقوبات والاحتياطي الفيدرالي الأميركي


كما ذكرنا سابقًا، نعِم العراق خلال العام الماضي بفوائد ارتفاع سعر برميل النفط. فحصيلة بيع النفط في الأسواق العالميّة، تجاوزت خلال العام 2022 حدود 115 مليار دولار أميركي، ما رفع قيمة احتياطات العملات الأجنبيّة على النحو الذي أشرنا إليه.

مع الإشارة إلى أنّ مستوى العوائد النفطيّة هذا يمثّل رقمًا قياسيًا لم يشهده العراق منذ تدنّي أسعار النفط، بعد تفشّي وباء كورونا. وهذا بالضبط ما دفع صندوق النقد الدولي لتوقّع نسبة نمو مرتفعة في الناتج المحلّي العراقي خلال العام 2022، وصولًا إلى مستوى يلامس 9.3%. ومن يراقب الركود الاقتصادي الذي تعاني منه معظم الاقتصادات المتقدّمة، يدرك نعمة تسجيل معدّلات نمو بهذا المستوى المرتفع في العراق.

لكن تمامّا ككل صفقات النفط الطبيعيّة وغير الخاضعة للعقوبات، يسعّر العراق نفطه ويبيع في السوق المفتوحة بالدولار الأميركي. وفي النتيجة، تصب جميع عائدات بيع النفط العراقي في حسابات المصرف المركزي في المصارف الغربيّة، ما يشكّل الاحتياطات النقديّة بالعملات الأجنبيّة التي نتحدّث عنها. ولهذا السبب بالتحديد، تخضع جميع عمليّات شحن الدولار النقدي لرقابة وموافقة المصارف المراسلة، ومن خلفهما طبعًا: الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ووزارة الخزنة الأميركيّة.

بدأت متاعب العراق النقديّة مع فرض الاحتياطي الفيدرالي قواعد جديدة بالنسبة لعمليّات المصرف المركزي العراقي، ما فرض حصول المصرف المركزي العراقي على معلومات وافية تبرّر أي عمليّة شراء للدولار النقدي في السوق العراقيّة. وهذه القواعد، اتصلت بشكل أساسي باشتباه الأميركيين –وبناءً على داتا عمليّات شحن الدولار الورقي إلى العراقي- باستعمال الإيرانيين لسوق القطع العراقي، لشراء الدولار النقدي والالتفاف على العقوبات الغربيّة. ومنذ ذلك الوقت، بات المصرف المركزي مقيّدًا في استعمال الدولارات الورقيّة التي يتم شحنها للعراق.

سعى البنك المركزي العراقي إلى تنظيم عمليّات بيع الدولار في السوق المفتوحة، من خلال محال الصيرفة أو المصارف التجاريّة، باعتماد منصّة خاصّة وبآليّة متفق عليها مع الفيدرالي الأميركي. إلا أنّ عمليّات بيع الدولار ظلّت مقيّدة بسقوف محددة لمحال الصيرفة، وبحالات محددة تبرّر شراء الدولارات، وبإجراءات بيروقراطيّة تضبط هذه العمليّة. ومنذ ذلك الوقت، توسّع الفارق بين سعر السوق الموازية، التي تحتكم لآليّات العرض والطلب الحرّة، وسعر الصرف الرسمي، الذي يحتكم لكل هذه القواعد والإجراءات.

وفي النتيجة، ثمّة من يشير اليوم إلى أنّ هذه الإجراءات قيّدت تدفّق دولارات المصرف المركزي باتجاه السوق، بما يمنع الالتفاف على العقوبات الغربيّة، لكنّها تركت الباب مفتوحًا أمام شراء دولارات السوق الموازية في العمليّات غير المقيّدة بأي إجراءات. وهذا ما قد يفسّر استمرار التوسّع في الفارق بين سعري السوق الموازية والسعر الرسمي.


تهريب الدولارات إلى بيروت

لا يتجاوز سعر تذكرة السفر من العراق إلى بيروت حدود 100 دولار أميركي. إلا أنّ هذه التذكرة تخوّل صاحبها –وفق قواعد المصرف المركزي العراقي- شراء 7000 دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي المنخفض، لإنفاقها على حاجيّات السفر والإقامة. وهذا ما فتح باب إساءة استعمال هذه الثغرة من قبل رجال أعمال ومكاتب صيرفة وشركات سياحيّة في العراق، عبر إرسال مجموعات من الشباب العراقي إلى بيروت لفترات قصيرة جدًا، بهدف الاستفادة من كوتا شراء الدولارات الرسميّة. نتيجة هذه العمليّة، يمكن لهذه الشبكات أن تحصل على ما يقارب 1470 دولار كربح صافي، عن كل سائح "وهمي" يتم إرساله على هذا النحو، نتيجة الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية.

أمّا الأهم، فهو أن بيروت تنعم بسوق قطع مفتوحة ومتفلّتة، وبشركات تجري عمليّات الصيرفة بيعًا وشراءً مقابل الدينار العراقي، ما يسمح بإتمام جزء من عمليّات الصيرفة وجني الأرباح في بيروت. وبهذه الطريقة، يمكن للسائح الوهمي بيع جزء من الدولارات التي تم الحصول عليها في بيروت، بهدف شراء دولارات المصرف المركزي العراقي مرّة أخرى لاحقًا، ومن دون إثارة الكثير من الضجيج في سوق القطع العراقيّة. وبهذا الشكل، بات هناك شبكة منتظمة لتهريب الدولارات بين لبنان والعراق، تتشابك عناصرها بين بيروت وبغداد، تمامًا كحال "سوق القطع المشتركة" بين لبنان وسوريا في البقاع (بمعزل عن صحّة وجود عمليّات تهريب للعملة الصعبة بين لبنان وسوريا).

مع الإشارة إلى أنّ بعض عمليّات تهريب الأموال هذه اتخذت في الآونة الأخيرة أشكالًا منظمة، تم من خلالها استئجار شقق خاصّة في بيروت لإيواء السوّاح المزعومين، كما باتت بعض المؤسسات التي تتعاطى هذه العمليّات تعرض على الشباب العراقيين سفرات سياحيّة مجّانيّة إلى بيروت، مقابل الانخراط في عمليّة تهريب العملة الصعبة.

في النتيجة، كلّفت الحكومة العراقيّة جهاز الأمن العراقي التحقيق في هذا الملف وضبط شبكات تهريب الدولار، من دون التوصّل نتائج ملموسة حتّى اللحظة. مع الإشارة إلى أنّ هذه العمليّات لا تؤثّر بشكل مباشر على سعر صرف الدولار في السوق العراقيّة، إلا أنّها تستنزف احتياطات المصرف المركزي العراقي، وتزيد من المخاطر المتصلة بعلاقة المصرف مع المصارف الأجنبيّة، خصوصًا أن تقييد عمليّات بيع الدولار جرى تحديدًا بسبب الاشتباه بوجود عمليّات تهريب للعملة الصعبة للالتفاف على العقوبات الأميركيّة من قبل إيران.

تعليقات: