بقاء قانون الزواج المدنيّ (الاختياريّ) طوال سنوات معلّقاً بين مطرقة الحكومة وسندان البرلمان
يوم الجمعة، الواقع فيه العاشر من شهر آذار/ مارس الجاري، ناقش الأب نعمة صليبا، كاهن رعيّة القدّيسين بطرس وبولس للروم الأرثوذكس في الحازميّة أطروحة دكتوراه بعنوان «الزواج المدنيّ في السياق الدينيّ اللبنانيّ»، وذلك في كلّيّة العلوم الدينيّة التابعة للجامعة اليسوعيّة في بيروت. وقد أشرف على الأطروحة القسّ البروفسور عيسى دياب (لاهوت)، وترأسّت اللجنة المناط بها تقييم الأطروحة البروفسورة رولا تلحوق (لاهوت). واشترك في مناقشة الرسالة كلّ من الأب البروفسور سمعان بو عبده (لاهوت) والبروفسورة نادين عبّاس (فلسفة) والبروفسور أمين لبّس (علوم سياسيّة). وقد نال واضع الرسالة عن جهده البحثيّ تقديراً علميّاً بمرتبة «مشرّف جدّاً».
بكلمات قليلة، يمكن القول إنّ الرسالة ترمي إلى تأصيل دينيّ لفكرة الزواج المدنيّ، أو إلى بلورة لاهوت يتجانس وإيّاه. لعلّ هذا هو أكثر مظاهر الرسالة ابتكاراً وجدّة. المنطلق، هنا، هو قيمة المساواة التي يجب أن تنسحب على مَن لم تعترف الدولة بانتمائهم «الطائفيّ»، كالبهائيّين مثلاً، فضلاً عن الحرّيّة الفرديّة التي يعتبر واضع الرسالة أنّها تقوم في صميم المقاربة الدينيّة لإنسانيّة الإنسان في المسيحيّة والإسلام على حدّ سواء. ثمّة، طبعاً، مقاومة لا تزال المؤسّسة الدينيّة تبديها في كلّ مرّة تُطرح فيها مسألة الزواج المدنيّ على ضمير المجتمع. هذه المقاومة تستند إلى ما يعتبره بعضهم أسباباً لاهوتيّة، أو إلى تأويلات ممكنة لنصوص من الكتب المقدّسة. بيد أنّ الحجّة الأساسيّة التي يستند إليها الكاتب قوامها أنّه ليس ثمّة تعارض بين التراث الدينيّ الأصيل من جهة، ومفهومي الحرّيّة الفرديّة والمساواة من جهة أخرى. فإذا سلّمنا بأنّ الدين حريّ به أن يبارك الحرّيّة ويوطّد المساواة، كان الوصول إلى اعتناق هذا الدين قضيّة الزواج المدنيّ بوصفها قضيّته، لا مسألةً مفروضةً أو طارئةً عليه، مسألةً سلسةً أو شبه بديهيّة.
هل الأمور بهذه السهولة؟ يدرك واضع الرسالة أنّ الشقّ اللاهوتيّ إن هو إلّا جزء من الإشكاليّة. فثمّة عوامل أخرى تحيلنا على الاقتصاد والسياسة على الرغم من محاولة بعضهم أن يضفي عليها طابعاً لاهوتيّاً. يكتب الأب نعمة، مثلاً، أنّ ميزانيّة المحاكم المدعوة «روحيّةً» أو «شرعيّةً»، في لبنان تضاهي ميزانيّة ثلاث وزارات هي البيئة والثقافة والشباب والرياضة. كذلك فإنّ بقاء قانون الزواج المدنيّ (الاختياريّ) طوال سنوات معلّقاً بين مطرقة الحكومة وسندان البرلمان يتّصل أيضاً بالتحالف الموضوعيّ السيّء الذكر بين السياسيّ الوصوليّ و«رجل» الدين الساعي إلى ترسيخ سلطته عبر مزيد من السلطة. يضاف إلى ذلك أنّ المؤسّسات الدينيّة التي تتراشق مسؤوليّة تعطيل مشاريع الزواج المدنيّ، ولو على نحو فيه الكثير من التورية، إنّما هي متّفقة في العمق على رفضه جرّاء ما قد يستتبعه من تقزيم لسلطتها على الناس. يقابل ذلك حاجة مجتمعيّة متعاظمة إلى الزواج المدنيّ لما تنطوي عليه معظم عقود الزواج الدينيّ من إجحاف في حقّ المرأة والأطفال، فضلاً عمّا يشوب المحاكم الدينيّة من عيوب كغياب القاضيات عنها، ما يجعل الذكر يتحكّم بمصير الأنثى في إحدى أكثر المسائل حساسيّةً ودقّة.
قد لا يكون من المستغرب أن يدعو أحدهم إلى إقرار الزواج المدنيّ وترسيخه في مجتمع يتمخّض مثل لبنان. لكن أن تأتي هذه الدعوة من قلب المؤسّسة الكنسيّة، وعلى يد كاهن يتقن قراءة ماهيّة الإنجيل بإزاء ما يُلصق به يوميّاً من تأويلات منحرفة وإسقاطات مرضيّة وترّهات قوميّة، فهذا، ولا شكّ، مدعاة للتقدير والإعجاب. عسى أن نقرأ قريباً أثمن ما خطّه الأب نعمة في مقاربته هذه في كتاب مطبوع يليق بها.
تعليقات: