العودة الخليجية إلى لبنان والتطبيع مع الأسد: الفارق كبير


من أكبر المجانبات للصواب، هي بعض التحليلات التي تذهب بعيداً في ربط آلية التعاطي الخليجي مع لبنان وفق الآلية نفسها المتبّعة مع النظام السوري. فعلى الرغم من الترابط الجوهري والتأثر الحتمي بين البلدين، إلا أن المقاربات السياسية تبقى مختلفة، نظراً لحيثيات ووقائع وقواعد اجتماعية وسياسية مختلفة جذرياً.


تخوّف وترقّب

ما يدفع إلى هذا الكلام، الإكثار من التحليلات أو التمنيات التي يتحمّس إليها البعض حول أن "تطبيع" العلاقات مع النظام السوري، أو الانفتاح العربي عليه، سيؤدي إلى تعويم نفوذه في لبنان، وأنها ستقود إلى استعادته التأثير على المسارات اللبنانية. فيما يذهب آخرون إلى الاقتناع بوجود توجه بأنه لا يمكن للبنان أن يُحكم إلا من خلال سوريا، ولا بد من تقوية النظام السوري لضبط الساحة اللبنانية.

كثرة الضخ في هذا المجال، تدفع الكثيرين إلى التخوف والترقب والتحسب، لما يمكن أن ينتج عن مرحلة ما بعد الاتفاق السعودي الإيراني، وإمكانية انعكاسه على تقوية نظام بشار الأسد ومنحه هدايا سياسية في بيروت. كما تدفع آخرين إلى التخوف من أن الاتفاق السعودي الإيراني والذهاب إلى انهاء حرب اليمن، سيقود إلى "تسليم" السعودية بالنفوذ الإيراني في لبنان، أو ما يحب البعض تسميته بتسليم لبنان إلى إيران. وهذا أيضاً من الأخطاء الجوهرية.


العودة إلى المسرح

بداية، كل هذه التطورات السعودية هي عبارة عن استراتيجية جديدة بالعودة إلى مسرح الشرق الأوسط، واستعادة الدور في لبنان وسوريا، بناء على شروط أصبحت واضحة ومعروفة. فالعودة إلى لبنان ترتبط باتفاق واضح المعالم، تستند فيه السعودية على قوى متحالفة معها، لها وجودها السياسي وحضورها. كما أن الساحة اللبنانية ككل تحتاج إلى أي تدخل خليجي إيجابي للمساعدة على الإنقاذ، وبوابة هذا التدخل تبقى السعودية التي تنسق مع دول خليجية أخرى، لا سيما قطر التي تشارك في الاجتماعات وتضطلع بادوار أساسية، بالإضافة إلى الكويت مثلاً، والتي باسمها تم تسليم مبادرة خليجية للدولة اللبنانية.

أما العودة إلى سوريا فتبدو مختلفة، وإن كانت تخضع لشروط مشابهة. ولكن لا بد من تسجيل فارق أساسي، وهو أن في سوريا لم يعد هناك قوة أساسية للدخول إلى ميدانها سوى النظام السوري، فيما المعارضة لم تتفق مع بعضها البعض، ومشتتة وموزعة على عواصم مختلفة. بخلاف لبنان الذي تبدو المعارضة فيه قائمة وحاضرة، ولديها قوتها وتمثيلها ورؤيتها، على الرغم من الاختلاف بين مكوناتها.


فوارق في النفوذ والسلطة

بالعودة إلى الواقعية أيضاً، فإن التمدد الإيراني في سوريا أصبح أمراً واقعاً. وبالتالي، أي عودة سعودية إلى سوريا لا بد لها أن ترتبط بالتعاطي مع هذه الواقعية. ولكن على قاعدة التوازن السياسي الذي لا بد من تكريسه اجتماعياً وسياسياً، من خلال الحل السياسي المقترح والذي هو حتماً مؤخر أو مؤجل إلى فترة بعيدة. وهذا يعني أن العودة السعودية إلى دمشق ستقوم على القبول بنفوذ إيراني من خلال النظام، أو من خلال السيطرة الإيرانية على مرافق أساسية ومناطق استراتيجية، وفي صلب الدولة السورية العميقة.

الأمر يختلف في لبنان. إذ أن السعودية ذات فعالية عالية في بنية الدولة العميقة، وفي علاقات تحالفية مع قوى سياسية مختلفة. وهذا لا يعني الذهاب إلى إلغاء أي طرف، إنما أيضاً استعادة التوزان السياسي في السلطة وفي آلية تكوينها. وهنا تظهر الشروط السعودية المنسقة خليجياً أيضاً، وسط انسجام كامل قطري سعودي حيال الملف اللبناني. وهذا الانسجام لا بد له أن يظهر أيضاً في سوريا مستقبلاً، خصوصاً أنه لا يمكن الذهاب إلى تطبيع العلاقات أو الدخول في مرحلة الحل السياسي بمعزل عن الأميركيين والأوروبيين، الذين يعتبرون أن أي أسس للحل لا بد أن تكون على قاعدة القرار الدولي 2254، والذي يقضي بالذهاب إلى مرحلة إنتقالية وتشكيل هيئة حكم انتقالية، تبقى فيها مسألة وجود رئيس النظام أمراً تفصيلياً وهامشياً.


السياسة قبل الاستثمار

من هنا ترتكز دول الخليج على نقاط قوة أساسية، أبرزها أنها القوى الوحيدة القادرة على المشاركة في عمليات إعادة الإعمار. وهذا ما لا يمكن أن يحصل من دون توفر ظروف الحل السياسي ومن دون تحصيل مكاسب سياسية. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الواقع اللبناني أيضاً. لا سيما أن دول الخليج تنطلق في مقاربتها للملفين السوري واللبناني من خلفية سياسية وليس من خلفية استثمارية الغاية منها البحث عن أرباح أو إفادة مالية بحتة، بخلاف وضع فرنسا مثلاً التي تفكر من لبنان إلى سوريا والعراق وإيران بمنطق البحث عن فتوحات استثمارية. أما الولايات المتحدة الأميركية فاهتماماتها مختلفة. وهي قد تثبتت مسبقاً من أنها قادرة على تحصيل ما تريد وبرضى الجميع، من تجربة عامر الفاخوري، إلى تجربة ترسيم الحدود، والتي بكل ارتياح يمكن وصفها بأنها اتفاقية حصلت في العمق جدياً بين الولايات المتحدة الأميركية وحزب الله، وصولاً إلى تجربة إطلاق سراح موقوفي المرفأ، وتهريب مسؤول الأمن والسلامة حامل الجنسية الأميركية، محمد زياد العوف.


باريس-الرياض

تحت كل هذه السقوف السياسية لكل طرف، لا يزال لبنان يسارع بمسار الانهيار واحتمال الانفجار الاجتماعي. وهو أمر يسعى من في السلطة إلى تفاديه كما سعوا سابقاً إلى تفادي أي تصعيد على الحدود. فيما يمكن لحركة الشارع أن تتعاظم وتكبر في المرحلة المقبلة، في حال استمرت دورة الانهيار بتسارعها.

يحصل ذلك، فيما الخلاف لا يزال قائماً بين الفرنسيين والسعوديين حيال المقاربة للملف اللبناني، والرفض السعودي القاطع لمبدأ المقايضة الذي تطرحه باريس. وعليه، لا بد من انتظار أي تطور داخلي أو خارجي يعيد الدفع إلى التواصل بين الرياض وباريس، وربما يفتح الطريق أمام إعادة عقد الاجتماع الخماسي. هنا لا بد من انتظار المؤشرات التي سيتلقاها لبنان من زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية باربارا ليف، بالإضافة إلى حراك ديبلوماسي خليجي ستشهده الساحة اللبنانية بداية الأسبوع المقبل. وهو سيسهم في مساندة السعودية أيضاً.

تعليقات: