لا يكلّ اللبنانيّون في أحاديثهم اليوميّة عن تناول العناية الإلهيّة، وتأكيد اختصاصهم بها، ونسبة بلادهم إلى الله سبحانه، فلبنان بلد الرّب، وأرزُه مباركٌ، وجبلُه كذلك، وجنوبُه الأرضُ التي "باركنا حوله"، وفي ربوعه تنتشر مقاماتُ الأنبياءِ والأولياءِ والقديسين، من الجنوب إلى البقاع فالجبل والساحل، وفيه كنائس القدّيسين شربل والحرديني ورفقا...
وعلى ألسنة هؤلاء الشرقيّين مَنبتاً، الغربيّين مزاجاً، أخبارُ أعاجيب كثيرة تتردّد، يرويها كثيرٌ من المؤمنين، وتُنسب إلى قدّيس أو وليّ، فيُكذّب بها لا دينيّون يعدّونها خرافاتٍ وأساطير، بينما يقول آخرون سلاماً، من دون أن يُلقوا بالاً لحديث الخوارق والمعاجز، لأنهم يؤمنون بالأسباب والعِلل، سواء أكانوا من أهل الدين أو الدهر، ويقولون "لا إمام سوى العقل"!
ليس حديثُ العجيب المدهش شأناً معاصراً فقط، بل يرجع إلى أزمنة مضت، ويكثر رواجه في الأزمنة المضطربة، وتوثّقه كتبٌ وسِيَرٌ وأفواهٌ، وكم من رجل دينٍ وفقيهٍ جمع الخوارق في كتابٍ، وتحدّث عن حياة النسّاك والمتصوّفة وأهل العرفان والسير والسلوك، وتحدّث عن نور يعلو إلى السماء، أو زيت يرشح من جسدٍ مباركٍ أو أيقونة، أو دم ينزف، أو عمل طبيّ شافٍ.
لكن الواقع، فضلاً عن الإشكاليّات التي تُطرح، يضعنا أمام تحدٍّ علميّ ومعرفيّ ونفسيّ. وتُطرح في المقام أسئلة حول انسجام أحاديث الأعاجيب مع منهج الأديان، ومقياس مساءلتها، ورأي الأنثروبولوجيا وعلم النفس بهذا الشأن.
شهادات
كثيرون من اللبنانيين سمعوا بنهاد الشامي التي تقول إنّ القديسين شربل ومار مارون والسيدة العذراء عالجوا شللها فشفيت، وقبل ذلك أخرج القديس شربل حصوات من كليتها، ثمّ دعاها إلى تكريس الـ22 من كلّ شهر للصلاة.
«كنت في المحبسة في عنّايا، وكان أبي مريضاً، فصلّيت لشفائه، ثم أجرى عمليّةً دقيقةً، ومن دون أن يتابع العلاج شُفيَ، بالرغم من أحداً لا يصحّ في مثل حالته إلا إذا خضع للعلاج بعد الجراحة»
وتروي ريتا ميّال (صحافية)، شهادتها لرصيف22، وتقول: "كنت في المحبسة في عنّايا (حيث يقع دير مار مارون ومزار القديس شربل)، وكان أبي مريضاً، فصلّيت لشفائه، ثم أجرى عمليّةً دقيقةً، ومن دون أن يتابع العلاج شُفيَ، بالرغم من أحداً لا يصحّ في مثل حالته إلا إذا خضع للعلاج بعد الجراحة".
«هل يمكن لأفكارٍ تخطّى عمر بعضها الألف سنة، أن تتحكم بمجرى حياتنا اليوم؟ بالطبع لا. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!.»
تؤمن ريتا بتجربتها الشخصيّة، فتُضيف: "كنت أبخّر مزار العدرا أمام مكتبي وأنير الشموع، فيذوب الشّمع على شكل تماثيل القديسين".
تقترب إيسامار لطيف (صحافية)، في شهادتها لرصيف22، من روحانية ريتا، وتُبدي قناعتها بـ"إشارات جليّة متعدّدة كان يرسلها القديس شربل عبر أشخاص، مثل أن يقدّم متسوّلٌ في الشارع لي وردةً بيضاء أمام الكنيسة..."، وترى أنّها تقرّبت إليه "فعلياً في عام 2009، عندما عرفتُ بمرض أمي الخبيث، فبدأت أطلب شفاعته كطبيب السماء، حسب ما يسمّونه، ومن وقتها وهو معي في كلّ مراحل حياتي. كنت أشعر أحياناً بأنه يشاهدني ويجلس بجواري في كنيسته القديمة في المحبسة".
أمّا روز (اسم مستعار)، وتشغل وظيفةً من الفئة الثالثة في إحدى الوزارات، فقصّتها مختلفة، فهي قد تجاوزت الاعتيادي في حياة المؤمنين، ولا تهتمّ بقوّةٍ لأحاديث الأعاجيب، بالرغم من أنّها تصرّح لرصيف22، بأحداث حصلت معها؛ فهي تعدّ نفسها مبارَكةً، وتروي بثقة أنّ لديها نعمة شفاء الأشخاص ببركة الصلاة إلى الله، وتقرّ بأن شفيعيها هما ابنا الكنيسة البارّين "مار شربل" و"نعمة الله الحرديني"، فالأول تسمّيه القدّيس الأب، والثاني القديس الطبيب، وهي تصلّي لهما.
تتحدّث عن مشكلات واجهتها في حياتها، وتعبّر عن ظلم لحق بها من أناس مختلفين، لكنّها واجهت كلّ ذلك، واستطاعت بفضل إيمانها التغلّب على تلك المصاعب.
«هناك رباط قائم بالمسيح بين الكنيسة المجاهدة، مِن الذين ما زالوا على قيد الحياة، والكنيسة المنتصرة، مِن الذين توفّوا»
غير بعيد عنهن، تؤمن نور الزهراء طالب (طالبة دكتوراه)، بالتدخّل المعجز للإنسان المبارك والولي في حديثها إلى رصيف22، لكنّها لا تُملي عليه أوان تدخّله ولا حيثياته، وتروي ثلاث حوادث، فتقول: "كان ولداي الصغيران مريضين، وحرارتهما تبلغ 40 درجةً، وكنت في مشهد الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، وزوجي قد غادر لبعض الشؤون. وكان يجب أن نغادر الحرم الرضويّ عند منتصف الليل لنستقلّ القطار إلى مدينة قم. لم أجد غير الوقوف أمام ضريح الإمام الرضا والتوسّل به، وخاطبته: "أنا لن أتزحزح بإذن الله من أمام مرقدك قبل شفاء ولديّ"، فلم أكد أنهي عبارتي حتى سمعت ولداي يقولان بفم واحدٍ: "يللا ماما نروح"، ثمّ مشينا في طريق مغادرة المقام، وإذا بابني ينطق بكلمة: "سلام... وعليكم السلام إمام رضا"، بكلّ قوة، وهو لم يكن قد بلغ السنة الثانية من عمره، قبل أن ينام مطمئناً".
تروي نور حادثتين أخريين: احترق جلدها في إحداها، وعجزت والدتها عن المشي في الثانية؛ فتوسّلت في الأولى بالسيدة فاطمة المعصومة أخت الإمام الرضا، فشُفي حرقها، وتوسّل والدها لوالدتها فمشت.
بعض التصرفات تُصبح شعوذةً
يرى الأستاذ الجامعي والكاهن الأب شلالا، أن "طريقة التعاطي بين المؤمن والقديس، والتوجّه إليه كأنه هو الله، غير صحيحة". لكنّه يتحدّث عن رباط قائم بالمسيح "بين الكنيسة المجاهدة، مِن الذين ما زالوا على قيد الحياة على الأرض، والكنيسة المنتصرة، مِن الذين توفّوا... وأصبحوا وجهاً لوجه أمام الله".
يشدّد على أننا "لا نعبد القدّيسين. نحن نكرّم القديسين"، لكنّه يستشهد على خصوصيّة القدّيسين بالفصل الـ11 من إنجيل يوحنا، حيث يقول: "كلّ من يؤمن بي لا يموت أبداً بل يحيا إلى الأبد. الله إله الأحياء والقدّيسون يخدمون الرب"، و"القديسون اليوم في حضرة الله، وهم أحياء بهذا المعنى".
ويلاحظ أيضاً أن "بعض التصرّفات تُصبح شعوذات، وتكون بعيدةً عن المفهوم المسيحي والتقوى الحقيقية".
تشريك المادي والروحي
يؤكّد الأستاذ في الحوزة العلمية الشيخ محمد عباس الدهيني، أن الله يفيض الكرامات "على مَنْ هو أهلٌ لها"، لكنّه يفرّق "بين مقام الإمكان، ومقام الفعليّة"، متسائلاً إن كانت القداسة قد أعطيت "واقعاً وفعلاً لهذا الشخص أو ذاك"، عادّاً أن "هذا هو محلّ النقاش في أغلب هذه الدعاوى".
يشدّد على أن "وجه الشبه بين (المعجزة) و(الكرامة) أن كليهما أمرٌ خارق ومغاير للأسباب المعتادة بين البشر"، لكن "غاية الأمر أن (المعجزة) هي ما يكون لإثبات نبوّة؛ وأما حينما يأتي بها أشخاصٌ آخرون كالأولياء الصالحين فتلك هي (الكرامة) التي يعجز عنها عموم البشر، ولكن من دون تحدٍّ بالإتيان بمثلها".
لا يُبدي شكّاً في موت جسد الوليّ أو النبي، "وهو أمر مشهود معلوم لكل مَنْ رآهم... جثثاً هامدةً فارقتها الروح"، لكنّه يؤكّد أنهم "مطَّلعون بأرواحهم من حيث هم في عالم الأرواح".
«وقفت أمام ضريح الإمام الرضا وخاطبته: "أنا لن أتزحزح بإذن الله من أمام مرقدك قبل شفاء ولديّ"، فلم أكد أنهي عبارتي حتى سمعت ولداي يقولان بفم واحدٍ: "يللا ماما نروح"، وفي طريق المغادرة، نطق إبني: "سلام... وعليكم السلام إمام رضا"»
يستدرك على الاستفهام حول فعل الولي في الدنيا وهو في الآخرة، ليقول إنّ الوليّ الميت في "الواقع ليس في الآخرة، وإنما هو لا يزال في عالم البرزخ، وهو عالم وسط بين الدنيا والآخرة، وله خصوصياته التي تختلف عن كلا العالمين (عالم الدنيا وعالم الآخرة)؛ فقد جاء بذلك القرآن الكريم حيث قال: ‘ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون...’".
ويرى "أن تفاصيل الكرامات من الخفايا التي لا نعرفها، ولم يعد من السّهل أو المقبول تصديق هذه الدعاوى ببساطة، بل لا بدّ من الفحص والتدقيق في كلّ دعوى على حدة".
يرفض دهيني أيّ "حالة تمّ فيها التشريك بين المادي والمعنوي"، ويدعو "مَنْ يريد إثبات الاستشفاء بتربة كربلاء (التربة الحسينية) مثلاً" إلى عدم تناول أيّ دواء "بل عليه (بعد إثبات مرضه المستعصي) أن يذهب بمرضه كلّه ليكون تحت القبة الحسينية، ويأكل فقط من تراب القبر وما حوله، ثمّ يستعرض للناس بعد ذلك، وهو في أتمّ الصحة وأسبغ العافية، حينها تثبت كرامة الشفاء بالتربة الحسينية".
الخوارق تمنح الأمل
في قراءة أنثروبولوجية لرصيف22، ترى المتخصصة في الأنثروبولوجيا الدكتورة تيريز سيف، أنّه "لا بدّ من الاعتراف بأن الإنسان يعرف نفسه ضعيفاً، ولديه محدوديّة في القدرات، ويحتاج إلى قوى خارقة لتحقيق نوع من الأمل والعدالة والرفاه، خصوصاً في مواجهة الظلم، ممّا يدفع باتجاه القوى الخارقة غير المنظورة والملموسة".
وتحلّل سيف تقديس اللبنانيين أشخاصاً منهم بناءً على خلفيّة اجتماعيّة، حيث "المجتمع اللبناني في واقعه مجتمع مؤمن، بالرغم من أنّه لم يُعبّر عن ذلك في الدستور نصّاً"، وتشير إلى أنّه "بالرغم من علمانيّته وعدم تبنّيه ديناً معيّناً فهو دستور يحترم معتقدات الطوائف".
«الشخص المؤمن بقدسيّة شخص آخر يُصبح معتقده في اللا وعي، ثم يجري إثراؤه وتغذيته بالأعمال التطبيقية الروتينية»
وتوضح أن إيمان اللبنانيين ينمو بالممارسة بوساطة "السلطات الدينية، والتربية الدينية، والتنشئة الاجتماعية التي تجمع التربية المنزلية وموروثات العائلة الممتدّة، بالإضافة إلى التربية المدرسية التي تشرف على 70% منها مؤسّسات دينية، ثم سوق العمل، فالمسار التربوي الاجتماعي في لبنان غير علماني".
وحول التوجّه إلى القدّيسين وذخائرهم، تقول سيف "إن الناس بحاجة إلى شيء قريب منهم ليُحقّقوا تواصلاً معه، لأن البُعد يفقدهم الإحساس بالتواصل".
وتُعيد معيار الصواب والخطأ في الاعتقاد بالأعاجيب إلى التربية التي تُشكّل قناعات الحقيقة والصواب، بل "قد تصل التربية بالناس إلى التطرف في الاعتقاد الديني".
التقديس والهذيان
يرى الدكتور في علم النفس فضل شحيمي، أن "التقديس مهما كان، يُصبح مرجع اطمئنان، ويخفّف كثيراً من القلق النفسيّ"، مشدّداً في الوقت عينه على أن "لا معيار للتثبّت من واقعيّة الأعجوبة".
ويشير إلى أن الشخص المؤمن بقدسيّة شخص آخر "يُصبح معتقده في اللا وعي، ثم يجري إثراؤه وتغذيته بالأعمال التطبيقية الروتينية كالصلوات والأدعية والطقوس المختلفة".
لكن شحيمي يرى أنّه "في عصرنا الحالي، يصل تقديس الأشخاص إلى أن يكون من علامات الجهل"، "فإذا زاد تقديس الأشخاص عن حدّه، قد يُصبح هذياناً دينيّاً ومعتقدات خطأ...". ويتحدّث عما يُسمّى "بالولاء المطلق الذي يحدّ من النشاط الدماغيّ، ومن تنوّع الفكر، فيُصبح الإنسان ذا مرجعيّة واحدة ثابتة، تسيطر في بعض الأحيان على تحليله وأفكاره".
ما بين الدين وأهل الاعتقاد والعلم مفاهيم تقديس وقواسم، لكن بينهم أيضاً اختلاف مصاديق ووقائع.
«لا يزال الماضي يحكمنا ويمنعنا من التقدّم، ولا يزال فقهاء عصرنا ينسخون من أفكارٍ بعضها فاق عمره الألف سنة، من دون التفكير في العلاقة بين النص الديني والواقع المعيش، وهو ما نسعى يومياً إلى تحدّيه، عبر احتضان الأفكار التجديدية الساعية إلى بناء عقد اجتماعي جديد يحدد دور الدين في الحياة ويحرره من السلطة السياسية. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.»
* المصدر: رصيف 22
تعليقات: