قضية المفقودين: إرثٍ من الأعباء التّاريخيّة التّي لم تطوَ بالتقادم (المدن)
تجول متأملاً الوجوه الرمادية لأشخاص كانوا مع ذويهم وفُقدوا منذ أربعة عقود ونيف، ولم يسمع عنهم خبرٌ للآن، وسط فيضٍ من الصور، والعبارات، وقصاصات الجرائد، والتواريخ، والأرشيف المعروض لأحّلك فترات لبنان الحديث. وفيما تُهاب بدفق الذكرى ووطأتها، تصير مضطرًا لحمل إرثٍ من الأعباء التّاريخيّة التّي لم تطوَ بالتقادم، بل تصرّ ملّحة على إثارة الخيبة والإيلام.
حَملت الذكرى الأربعون لتأسيس لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان خلال الحرب الأهليّة (1975-1990)، طابعًا مختلفًا هذه السّنة. إذ بَعد أربعة عقود من التأسيس، مقرونًا بالعمل الشّاق والدؤوب للوصول إلى الحقّ بمعرفة مصير المفقودين، وانتزاع الحقيقة وراء غيابهم القسريّ، لا تزال الحقيقة -فضلاً عن هذا الملف القديم- وبالرغم التشريعات والقوانين والمطالبات، مجهولة ومُتغاضى عنها.
معرض "خطّ زمني"
وعليه، أقامت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان بشخص رئيستها وداد حلوانيّ، وبدعم وتمويل كل من جريدة السفير ومؤسسة "فريدريش ايبرت شتيفتونغ" الألمانية، معرضاً سُميّ بـ"خطّ زمنيّ"، انطلق يوم الخميس 16 آذار الجاري ويستمر لغاية نهار الأحد المقبل 26 آذار، في مبنى جريدة السفير. ينطوي على زمرة من المحطات (150 محطة) والوثائق (255 وثيقة)، والأرشيف الإخباري والصوريّ للحقبة الممتدة منذ بدايات الحرب الأهلية إلى اليوم، بتجهيزات فنيّة أدرجت الانفوغرافيك كشكلٍ من أشكال التعبير المرئي الجذاب والتبسيطي للمعلومات والبيانات المطروحة. وفيما لفتت اللجنة في دعوتها للمعرض، أن إقامته هو عودٌ على مسار نضال لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، لاستعادة مسار القضية وتوثيق النضال الطويل الذي بذله هؤلاء في سبيل المعرفة والحقيقة.
وقد أشارت رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد الحلواني في كلمتها المنشورة بمناسبة الذكرى والمعرض أن "هذا المعرض سميناه "خط زمنيّ" بهدف فسح المجال أمامكم لمرافقتنا الافتراضية، بالصوت والصورة، لمحطاتٍ مفصليّة من مسارٍ شاق وطويلٍ فُرض علينا، ولم نختره.. فلتتضافر كل الجهود لفرض تطبيق قانون المفقودين والمخفيين قسرًا، وفي مقدمته فرض تأمين كل ما يلزم للهيئة الوطنية كي تتمكن من القيام بمهامها". مؤكدةً أن قضية المفقودين والمخطوفين، لا تزال اليوم عالقة، وعرضةً للطمس في كل حين. وأكدّت تمسك اللجنة بالهيئة الوطنية التّي شكلت منذ عامين ونصف بموجب صدور قانون المفقودين والمخفيين قسرًا 105/ 2018، بعد 36 سنة من النضال المستمر لانتزاع الحقّ من زعماء السّلطة الحالية (سادة الحرب السّابقين) بمعرفة مصير المفقودين والمخفيين قسرًا، ونزلاء المقابر الجماعية في لبنان.
الجلسة الحوارية
وضمن فعاليات المعرض، أُقيمت ندوة حوارية مساء اليوم الثلاثاء الواقع في 21 آذار الجاريّ تحت عنوان "40 عامًا وقضية المفقودين ترفض أن تُفقد"، أدارته الصحافية ديانا مقلّد، بين كل من رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخطوفين قسرًا بالإنابة زياد عاشور، والمحامي نزار صاغية عن المفكرة القانونية، والصحافية والروائية سحر مندور، فضلاً عن الكاتب والناشط السّياسيّ سمير سكيني. وقد استهلت الندوة بكلمة لرئيسة اللجنة وداد حلواني شكرت فيها الحضور الذي كان بالعشرات، موجهة تحية للمفقودين وذويهم الذين لم يتلكؤوا عن النضال الحقوقي والتاريخي في خدمة هذه القضية، التّي اعتبرت حلّها والوصول إلى خواتيم منطقية وعادلة فيها هو المدخل للإصلاح العام، شاكرةً الصحافيين الذين تابعوا هذه القضية من أولها لليوم، الأحياء منهم والراحلين.
وبانطلاق الجلسة الحوارية التّي استمرت نحو السّاعة ونصف الساعة، استعرضت الروائية والصحافية التّي كانت تعمل في جريدة السّفير، وعلى إطلاع واسع بحيثيات القضية، سحر مندور، نصًّا كانت قد كتبته عن هذه القضية، انطوى على ذكريات الحرب الأهلية وويلاتها، ثم على أحداث ما بعد الحرب وانطلاق البحث عن المفقودين والنضال الطويل لاسترداد العدالة والحقيقة من سارقيها، وصولاً لربط القضية بواقع لبنان اليوم. تبعها كلمة للكاتب سمير سكيني، لفت فيها لبعده القسريّ عن الانخراط المباشر بهذه التفاصيل والمشاهدات، بسبب فارق العمر بينه وبين الحرب الأهلية، لكنه وبعد اطلاع وبحث معمق في تفاصيل القضية، وجد نفسه في معرض التساؤل عن مصير هؤلاء، بل متخيلاً مصيرهم في بُعدٍ موازٍ، "يشكلون لجنة للموجودين". استفاض سكيني بتأملاته والفرضيات التّي طرحها، مشيرًا لكون لبنان في صدارة الدول في "كثافة المفقودين".
من بعدهم، جال رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا بالإنابة، زياد عاشور، على المسار التاريخي للقضية مستعرضًا أوجهها العديدة، وحيثياتها، مشيرًا لأهمية الوصول لخواتيمها والعقبات التّي حالت دون هذا الوصول، معتبرًا القضية ذات بعد حقوقي وإنساني يفرض نفسه على مجمل القضايا العالقة في لبنان. هذا فيما تناول المحامي نزار صاغية، دفة الحديث عن البعد الحقوقي لهذه القضية، وتشكيل الهيئة كحلقة في سلسلة الإنجازات التّي طاولت هذا الملف، مسهبًا في التفاصيل القانونية لهذا الملف الذي توج بقانون خاص به، لكنه وعلى شاكلة باقي القضايا في لبنان، لا يزال مغمورًا بسطوة التقاعس والعجز الرسمي. مؤكدًا في نهاية حديثه على مطلب فتح المقابر الجماعية، كمدخل لنبش مقبرة الحقيقة، مشبهًا المقابر الجماعية التّي تكتنز الحقيقة بالسريّة المصرفيّة التّي تطمس الفساد والنهب.
يقف بعض ذويّ المخطوفين في الصفوف الخلفية بينما يجلس بعضهم بترقب ووهن، يجول الحاضرون الذين تفاوتوا بين الكهول وشباب الألفية الحاليّة، يدققون بالصور، يقرأون اللافتات والعبارات، بتعاطفٍ وفضول. فيما تنبثق وجوه المفقودين شاخصةً للعيان، كصفعة بوجه كل من تآمر على هذه القضية وجعلها عرضة للأخذ والردّ، هذه الوجوه التّي تلوح من على سحنتها تفاصيل الحرب الظلامية والذكرى الباهتة لحقبة مأساوية في تاريخ لبنان، تذكر الناسين والمجمّلين لفترة مشوهة، أن الحقيقة حيثما ما كانت ستأتي لا محالة.
تعليقات: