يريد محمد الدايخ أن يُشكّل انعطافة في تاريخ الفن اللبناني لينقله من بعده الوطني إلى بعده المذهبيّ!
يبدو أنّ ما أحدثه المقطع الهزليّ “اللغة الشيعية” المبثوث عبر قناة LBCI ليس القضيّةَ التي يجب أن تنصرف إليها عناية المهتمّين، لأن الحدث مهما كانت درجة خطورته يُمكن أن يُعالج بطريقة أو بأخرى، وسيجد في لبنان التبريرَ الضروريَّ لدى كثيرين من فاقدي المعايير الواضحة، والمجنّدين في معسكرات سياسيّة وثقافيّة… من دون أن ينفي ذلك أهمية الابتعاد عن التطييفِ والتمذهبِ في الأعمال الفنيّة والإنسانية.
يبدو مؤكّداً أن القضية كامنةٌ في مكان آخر، وهي أعمق غوراً من مقطع “فكاهيّ” شعبويّ، حيث يجري التأسيس على فهمٍ خاطئ لكثير من المصطلحات والمفاهيم من قبيل الحريّة، وخطاب الكراهية وغير ذلك. ويفاقم من خطرها ادّعاء كثيرين ريادتَهم في ميدان الحريّة والمعاصرة، وسط بلاد مفتقرةٍ إلى وازعٍ، أو رقيبٍ، أو مؤسّسةٍ تدافع عن الحرية، وحيث تبلغ الحرية حدود التفلّت، وتتماهى مع شريعة الغاب؛ كبيرٌ يسحلُ الصغيرَ، ومفترسٌ يلتهم مسالماً.
لكن كثيراً من الديماغوجيين الذين يملأون الساحات والفضاء، وكثيراً من السّذج، لا يلتفتون إلى الحرية بحدودها، التي لو نظروا إلى لباسهم وكلامهم وعاداتهم…. لوجدوها بالمعايير التي وضعها المجتمع رغمَ أنفهِم! مجتمع المدينة التي شرب سقراط سمّها ولم يرضَ مخالفة قوانينها. لا مشكلة…
حاوِلْ أن تتوجّه إلى عقيدتهم مهما كانت، أو إلى حزبهم، أو إلى عشيرتهم (التقليدية أو الحديثة)، أو إلى نصٍّ من نصوصهم، أو إلى أي شيء من متعلّقاتهم فستجد عجباً من كمِّ الحرية ومستواها لديهم!
في المقام، يصرّ كثيرون على الحرية المتفلّتة، ويُدافعون عن “الإبداع الهزليّ”، ويرون في الرافضين لـ”اللغة الشيعية” جماعة من ثقيلي الظلّ الذين لا يتمتعون بحبّ الحياة، ثم يطوّرون حديث “الإبداع” بعَقدِهم مقارناتٍ بين مخرج هذه “اللغة” وكثيرٍ من النجوم اللبنانيين، بل يصل بهم الإبداع إلى إدخال زياد الرحباني مجال المقارنة في نقده للتركيبة اللبنانية ونفاق المجتمع. لكنّهم يُغفلون أن “زياد” قدّم صورة واقعية للمجتمع اللبناني من دون تنميط لأيّ من جماعاته أو طوائفه… بل ركّز على اختلال العلاقات وافتقادها للمنطق السليم، واستشرف العطب البنيويّ، ولم يسخر من شخص أو جماعة أو مذهب…
يُمكننا أيضاً أن نُضيف غسان الرحباني إلى قائمة النقديين الهزليين الهادفين، وقد أطلق في فترة سابقة أغنية “طريق المطار” التي قدّمت صورة هزليّة لمنطقة عشوائيّة على مدخل مَعلَم ومرفق وطنيّ. لم تثُر يومها ثائرة القاطنين بالرغم من أنّهم ينتمون إلى مذهب محدّد، لأنه كان يقرّر واقعاً عمرانياً، ولا يُنمّط جماعة أو مذهباً، ولم يبتدع “العمران الشيعيّ”!
الأنكى من ذلك أن آخرين من الذين يحملون صفات مهنيّة يجهدون لنزع أيّ شبهة قانونيّة حول العمل الهزليّ الفجّ، الذي يُعدّ عدائيّاً، والذي قد يُثير نعرات في داخل المجتمع، فيهربون إلى تصنيف عمل الدايخ إشكاليّاً لا خطاب كراهية، بالرغم من أنهم جنّدوا أنفسهم يوماً لخوض حملة ضدّ صحافيّة لأنها عبّرت عن رأيها في عمل سابق للدايخ، ووجدت فيه يومها تحريضاً ضد المقاومة؛ “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض…”؟!
نعود لنشدّد على أن القضيّة ليست في التعبير عن الرأي، وهو مصطلح رخوٌ وذو طبيعة مطّاطيّة، بل في افتقاد البلاد إلى مؤسّسات تكون حَكَماً في الموضوع والمجال، وتضع معاييرَ يحتكم إليها المختلفون في شؤونهم.
وإذا تجاوزنا كثيراً من جمعيات “المجتمع المدنيّ” التي تعمل بذهنيّةٍ “مقاطعجيّة”، وِفاقاً للقِطعة والمشروع والموقف… فأين المجلس الوطنيّ للإعلام المرئيّ والمسموع، وأين وزارة الإعلام، وأين…؟
نطوي كشحاً عن كلّ هذه الطبقات الأحفورية في التركيبة اللبنانية والمجتمع لنصل إلى بيت القصيد المتمثّل باللغة واللهجة.
ما اللغة؟ وما اللهجة؟
“اللغة أصواتٌ وكلامٌ مُصْطَلَح عليه بين كُلّ قَوم يُعبِّرون به عن أَغراضهم” (مقاصدهم)، و”نسقٌ من الإشارات والرموز، يُشكّل أداةً من أدوات المعرفة، ويُعتبر أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة”.
أما “اللهجة فمجموعة من الصفات اللغويّة التي تنتمي إلى بيئة خاصّة، ويشترك في هذه الصفات اللغوية جميع أفراد هذه البيئة”.
واللغة العربية تمتاز بصفات وظواهر لهجيّة مثل الإمالة والقطعة والكشكشة والعجعجة والعنعنة والشنشنة واللخلخانية والوَتمِ والتضجّع…. ولم يذكر اللغويّون وعلماء اللهجات أن بين الظواهر اللغوية أو اللهجية ما يمكن أن يوسم بالتشيّع، أو التسنّن، أو المورنة، أو الكثلكة… وهي “لغات” مرشّحة لتكون مادّة تعليمية في صفوف الدايخ وأمثاله!
فالإنسان يُنسب إلى لغته ولهجته، ولا تُنسب اللغة واللهجة إلى دين ومعتقد؛ فلو فرضنا أن الشيعيّ تحدّث الفرنسية فهل ينتمي إلى اللغة واللهجة أم تنتمي هي إليه؟
ثم تكون اللغات في نطاق جغرافيّ محدّد، وقد تعيش في عزلة، أو قد تتسرّب إلى بيئة لغويّة أخرى وتُصبح ركاماً لغوياً يُجلّيه الحفر والتنقيب…
وقد عرفت العربية أدياناً ومذاهب كثيرة لكنّها لم تُنسب إلى أيّ منها، فيما نُسبوا إليها جميعاً!
في ما عدا ذلك، ليس لنا على المخرج مأخذٌ، ولا على الممثل أو المؤسّسة الإعلامية في أن يُبدعوا ما شاءوا، أو أن يُجاروا سواهم في ابتداع شخصيّة، أو استنساخ تجارب، خصوصاً أن شخصيّات كثيرة قُدّمت في سياق جغرافيّ لهجيّ لا مذهبيّ، أبرزها الشخصية البيروتيّة بلغتها المفخّمة، والكسراونية وإمَالتها، والأرمينية بأزمنتها وجُموعها وتذكيرها، والجنوبية بمدودها… وأخيراً اللهجة الصيداوية مع “أبو طلال”…
لكن الدايخ لم يستثمر في اللهجة بل في المذهبيّة، التي أسّس لها منهجياً في “مدرسة اللغات”، وأصبح معلّماً ذا منهجيّة معتمدة في تدريس “اللغة الشيعية” انسجاماً مع متطلبات مرحلة “الشيعية السياسية” المدّعاة، بعد “المارونية السياسية” وفرنسيتها، و”السنية السياسية” وعربيتها؛ وبدل تقديم المشهد السياسي والاجتماعي بلهجة محبّبة، مختلفة، متمايزة، ذهب الدايخ – قاووق إلى مشهديّة من الإسقاطات، والتجارب الشخصيّة من “البيئة الشيعيّة” وفق منظوره فقط.
ما أبعدَه عن العمل البريطاني Mind your language حيث تجتمع الهويات والجنسيات من دون إثارة أو تحقير، في ظلّ مناخ من التوتر السياسي أو الإيديولوجي… الذي يحكم العلاقات في واقع الأمر بين باكستان والهند، بين إيطاليا وفرنسا…!
تطبيقيّاً، ماذا نرى في برنامج الدايخ – قاووق؟
لا نجد في “اللغة الشيعيّة” خاصّة الدايخ – قاووق ميزةً غير الانحراف البيّن في سلوك العلويّة… الشاب الهامشيّ، الفاشل، الانتهازيّ، المتحرّش، رديء التربية والمظهر، مدمن الممنوعات والمخدرات، الكاذب، المنافق. اجتمعت فيه – للصدفة – كل المساوئ وما خالف المروءة، هو ومن يشاطرونه البيئة!
يتبارون ويتمارون في هذه المدرسة الفاسدة بـ”قذف” الأم التي ترتفع إلى مرتبة القداسة إنسانيّاً ودينيّاً!
الـLBCI والمسؤوليّة الاجتماعية
لقد جاء بثّ هذه الحلقة في مؤسّسة من المؤسّسات اللبنانية ذات التاريخ الريادي في الإعلام المرئيّ، وفي عالم الخبر والمنوّعات، وجمهورها منتشر في جميع أنحاء العالم، ثم يأتي ساذجٌ ليقول إن العمل جاء عفو الخاطر!
ألم يكن بيار الضاهر المرشّح لرئاسة الجمهورية يعلم خطورة هذا الأمر، وما هو أقلّ من ذلك أدّى إلى اضطربات قبلاً؟!
لقد كان يعلم. وأخشى أن يكون الإعلام المرتبط بالسياسة على الدوام قد أدّى دوراً في هذا الإطار للتغطية على حدث، أو للتمهيد لحدث؛ ونحن نستظلّ أزمة انتخاب رئيس للجمهورية…. وحكومة وكهرباء!
أصحاب سوابق وإصرار!
في كلّ مرة يُحاجج الدايخ بالقول إنّه ابن البيئة الشيعيّة، ويصرّ على عدم الإساءة إليها، بالرغم من رفضها تنميطها واستغلالها في بازار الإعلام والهزل. يقبل البعض تبريراته، ويغفر زلّة “مبدعٍ” لا يفوّتُ فرصةً إلا ويُظهر فيها سوء سريرة كما في مقطع “سردة بعد الغدا” حيث سخر من اسم “زينب” بصفاقة، لأنها كاتبة المقال الذي تضمّن رفضاً لتناوله حزباً مقاوماً، فضحك وضحك محدّثه ملء شدقيهما.
يريدنا الدايخ أن نعتقد بافتراضه المسبق – في كلّ مرة يكرّر فيها أنه يعرف دهاليز الضاحية الجنوبيّة ذات الأغلبية الشيعيّة – فنسلّم له بأن ذلك ما يبيح له صفة تمثيلة تجاه الجماعة، وأن نسلّم بلازم الأمر لاحقاً بأنّه ينطق باسم الجماعة، وأن ما يأتي في أعماله هو حقّ ضمن الأطر المطلوبة.
وهو “يُربّح العالم جميلة” أنّه يعمل، والآخرون عاطلون من العمل، ممّا يعمّي على حقيقة واقعة أنّ الضاحية ملأى بالعمل والعمّال والمال والنّاس؛ تعمل ويُجبى إليها المال من أقطار العالم، وفيها جامعات، ومستشفيات إحداها من أهم مراكز القلب في لبنان، فضلاً عن المؤسسات التربوية المعاصِرة.
تستقيم معادلة الدايخ إذن على:
أنا: الجدّيُ/ العامل/ الواقعي.. .. أنتم: الهزليّون/ العاطلون من العمل/ الافتراضيون
ثم يذهب بعيداً في عرض إنجازه عبر مقطع مصوّر، تروّج له القناة الآثمة، حيث يفتخر بأنه “مسلم شيعيّ” عرض برنامجاً على قناة “مسيحيّة”، فإذ به يقع في مطبّ آخر بتصنيفه نفسه كما القناة طائفيّاً ومذهبيّاً، بل أقبح من ذلك “ذمّياً” (وفق المدلول الحديث مارونياً) في السّعي إلى نيل ثقة واعتراف من عيون الآخرين قبل ذاته.
ويؤخذ عليه، بما قدّم به نفسه، أنّه أنكر أدوار الكثير من أبناء المسلمين الشيعة في القطاعات كافة، خصوصاً التمثيل في لبنان والوطن العربي، فيرى نفسه اسماً دون غيره من الأسماء!
يريد الدايخ أن يُشكّل انعطافة في تاريخ الفن اللبناني لينقله من بعده الوطني إلى بعده المذهبيّ!
أنّى المداخل أردت منها إتيان فن الدايخ وجدت مشكلة!
وطنية الخطاب ليست نافلة
إذا كان الخطاب وجهة نظر شخصيّة فالأمر أقلّ خطورة، لكنّه حينما يصبح سياسة قناة مرئيّة فإن الأمر يُصبح خطيراً؛ والسخرية والتحقير إنّما يعزّزان المتشدّدين في صفوف الجماعات، وسيُرجع المنتقدين المطالِبين بكثير من الحريات والحداثة إلى ولائهم الأوّليّ لشعورهم بالتهديد، وبعدم وجود حضن وطنيّ يخرجون إليه، مثلما كانت الحال في عام 2005 يومَ لم يجد المعارضون من الشيعة سوى التخوين والنّظر إليهم بعين التشكيك والرفض.
للطوائف حقوق حتى السخرية!
أنهي بتغريدة ساخرة للدكتور طلال عتريسي، فيها أنّ على الطوائف الأخرى أن تطالب بحقوقها من الشيعة…كيف؟:
“على الطوائف الأخرى أن تطالب بحقها. الشيعة آخدين كل الحصة ببرامج المسخرة عالجديد والـlbc . ما بيصير الطوائف الباقية تضل ساكتة وعم تتفرج. عالقليلة تطالب بحصتها كرمال الميثاقية والعيش المشترك”.
* طارق قبلان 27 يناير 2023
المصدر: حدث أونلاين
من برنامج الدايخ – قاووق تعا قلّو بيزعل
تعليقات: