عبء الموتى ومراسم دفنهم: التخلي عن صالونات التعازي والموائد

وحدها أسعار التوابيت بقيت مدولرة (لوسي بارسخيان)
وحدها أسعار التوابيت بقيت مدولرة (لوسي بارسخيان)


بات القلق سمة مشتركة بين اللبنانيين. فهو يرافق يومياتهم بدءاً من تأمين أصغر حاجاتهم، ويلاحقهم حتى مصيرهم المحتم. وأصبح لمقولة "الهم يلاحقنا إلى القبر"، بالنسبة للكثيرين، معنى حقيقي يتخطى التعبير المجازي.


تقليص العادات

ففي إشارة إلى انعكاس الغلاء على العادات الاجتماعية، يكشف الكثيرون أنهم تخلّوا عن إمتيازات الرفاهية التي كانت تتوفر لهم بسهولة سابقاً، ليحصروا النفقات في الأساسيات فقط. والموت مصير محتم لا مفر لأحد منه. ومراسمه المترافقة مع بذخ اجتماعي كانت تعتبر من الأساسيات، خصوصاً في المجتمعات المسيحية، حيث يترتب على آل الفقيد نفقات متنوعة، لم يكن يحسب لها حساباً سابقاً، ولكن عبأها المتزايد حالياً، آخذ في تقليص العادات المرافقة لمراسم الدفن، والتي لم تستعد في الأساس زخمها المتراجع منذ جائحة كورونا، التي قلّصت من التجمعات الناقلة للعدوى.

في إشارة إلى الطبقية التي تسلّلت حتى إلى الموت، يقول أحد العاملين في خدمة دفن الموتى في مدينة زحلة، أن كلفة هذه الخدمة تدنت كثيراً بالنسبة لمن يملكون الدولار، إلا أن حملها أصبح ثقيلاً جداً على كفوف الأحياء بالنسبة للذين تنحصر مداخيلهم بالليرة اللبنانية. ففي الماضي كان الحد الأدنى لهذه الكلفة يفوق السبعة ملايين ليرة، أي ما يوازي الخمسة آلاف دولار حينها، بينما هو لا يتجاوز حالياً الألف دولار. إلا أن العثرة تبقى في قيمة هذا المبلغ بالليرة اللبنانية والتي باتت توازي مئة مليون ليرة.


مراسم الدفن

والمعلوم أن النفقات المتنوعة التي تتطلبها مراسم دفن الموتى في المجتمعات المسيحية خصوصاً، جعلت البعض يستحدث مؤسسات تؤمن الخدمة الشاملة، فيتولى تنظيم هذه المراسم "من البابوج إلى الطربوش". أي بدءاً من تحضير الميت في المستشفى أو المنزل، إلى طباعة أوراق النعوة ولصقها، ومن ثم خدمة صالونات التعازي وتحضير سلات الورد، وحتى إلى حمل الفقيد والانتقال به إلى المثوى الأخير. مع تضمين الكلفة خدمة الجناز لاحقاً وما يتطلبه من تحضير لموائد الرحمة والقربان الذي يوزع عن راحة نفس الفقيد. وهذا "بيزنس" يؤمّن فرص عمل عديدة ومتواصلة، بدءاً من أصغر عامل في ضيافة القهوة أو في قيادة سيارة دفن الموتى وحتى صانع التابوت والمطعم والفرن وغيرهم.

منذ سنوات طويلة بات أهل الفقيد يلجأون تلقائياً إلى خدمات مؤسسات دفن الموتى، التي كان يؤدي واجبها في السابق أصدقاء الفقيد وشبان عائلته. ويعتقد الكثيرون أن احترافية هذه المؤسسات في إدارة مراسم الدفن، تجنبهم الوقوع في هفوات لا يتنبه لها أهل الميت عادة. وهذا ما خلق تنافسية في الخدمة، حيث باتت بعض المؤسسات تسيّر أكثر من سيارة خلف الميت فيما يعكس وجاهة معينة، تترافق مع نوعية "التابوت"، وحجم سلات الورد وعدد العاملين في تقديم الخدمات، وفي الاهتمام بالنظافة وكمية المأكولات وطريقة تقديمها، وغيرها من خدمات تدفئة الصالونات أو تبريدها، وحجم إنارتها. ما يعكس عادة صورةً عن أهل الفقيد ومدى كرمهم ووجاهتهم، ولا تعني الفقيد نفسه، إلا إذا كان ممن "يشيلون طلعتهم"، وهي عبارة تستخدم عادة لتطلق على من يكون قد ادّخر مالاً أوصى به لتأمين نفقات دفنه وجنازه.


صالونات التعازي

إلّا أن تراجع هذه النزعة الاجتماعية، انعكس على العاملين في القطاع، فتراجعت مداخيلهم التي كان يوفرها التعاقد الدائم مع مقدمي خدمات الدفن، وخصوصاً على أثر التوصل إلى أرضية مشتركة أوجدتها مختلف الطبقات الاجتماعية، وقضت بتقليص أيام فتح صالونات الكنائس لتقديم العزاء من ثلاثة أيام إلى يوم واحد. حيث أمّنت جائحة كورونا، التي تزامنت مع الأزمة الاقتصادية، الجو الملائم لذلك، وخصوصاً بعد فترة الحجر التي جمّدت عادة فتح الصالونات للتعازي لأكثر من عام.

وهكذا إذاً، لم يستعد ذوو الفقيد في المجتمعات المسيحية الريفية، بعد "كورونا"، عاداتهم التي كانوا يعتبرونها ميزة يفاخرون بها، إلّا في قرى قليلة تتحكم بها الروابط الاجتماعية المتداخلة. وبات البحث عن تقليص تكاليف مراسم الدفن، سمة مشتركة، حتى بالنسبة لمن يملكون الدولار. وفي تلقي التعازي بالميت ليوم واحد فقط بصالونات الرعايا، ما يحقق هذا الهدف، بدءاً من ضبط أجرة حجز الصالون، التي تتفاوت بين رعية وأخرى، مع توجه معظم الرعايا لدولرتها. علماً أن تداعيات الأزمة الاقتصادية وإن جعلت بعض الرعايا تراعي ظروف الناس في تأمين الصالون بأسعار متدنية أو من دون كلفة، ولكنها جعلت تأمين المازوت للتدفئة، وتأمين جرة الغاز لغلي القهوة وغيرها من الاحتياجات الأساسية التي كانت تدخل من ضمن أجرة الصالون من جيب ذوي الفقيد مباشرة. واختزال أيام التعازي ترافق طبعاً مع خفض كلفة الخدمات المقدمة، من القهوة إلى المياه والسجائر، وبالتالي حصر أجرة العامل في هذه الخدمة بيوم واحد. علماً أنه وفقاً للعاملين في خدمة دفن الميت، معظم أسعار هذه الخدمات تدنت إذا ما احتسبت بالدولار. فسعر سلة الورد التي تحضر إلى الصالون كان يبدأ في الماضي من خمسين ألف ليرة أي ما يوازي 35 دولاراً، بينما اليوم أصبح عشرة دولارات فقط. وكذلك أجرة العامل في ضيافة القهوة تدنت من خمسين ألفاً يومياً إلى 15 دولاراً.


التخلي عن الموائد

وحدها أسعار التوابيت بقيت مدولرة، وهي تشكل العبء الأكبر على من تنحصر مداخيلهم بالعملة اللبنانية، حيث يوازي الحد الأدنى لسعر التابوت الثلاثين مليون ليرة، مع إمكانية لتخطيها مبلغ المئتي مليون ليرة، في حال الانتقال من الصناعة الوطنية إلى الصناعة الإيطالية. وهذا ما جعل الكثيرين، وفقاً لمقدمي خدمات دفن الموتى، يتوجهون نحو الصناعات الوطنية مع عناية بجودتها التي تفرض تكاليف إضافية.

والواقع أن تبدل السلوك الاجتماعي المحيط بمراسم الدفن في المجتمعات المسيحية لا يختصر في أيام العزاء فقط. فبالانتقال إلى الجنانيز التي تقام عادة بعد أسبوع أو خلال أربعين يوماً من الوفاة، لوحظ التخلي عن عادة الموائد التي كانت تمد في الصالونات للترحم عن روح الفقيد، ونقلت هذه المراسم من أيام الآحاد، إلى مساء السبت، مع ما يعنيه ذلك من تقليص في ساعات استقبال المعزين من يوم كامل سيتطلب خدمة شاملة، إلى ساعتين يُختصر الحضور فيهما على المقربين فقط. ومع أن تقديم القربان عن راحة نفس الفقيد بقي من الثوابت، إلا أن الكميات التي يتم تحضيرها قلصّت بحد أدنى.

فرن مارون زخيا، الذي يعتبر الأشهر بصناعة هذا القربان في زحلة، شاهد على ذلك. ووفقاً لصاحبته فإن كميات القرابين التي يتم التوصية عليها حالياً للجنانيز انخفضت من بين 800 وألف قربانة، إلى ما بين 100 و300 قربانة. علما أن سعر القربانة الواحدة حدد مؤخرا بـ20 سنتاً، بعدما كان في الماضي يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف ليرة، أي نحو دولار إلى دولارين.


ضرب الروابط الاجتماعية

هذا المنحى التراجعي للسلوك الاجتماعي المحيط بمراسم الدفن، قد يشكل مقدمة للتخلي الكلي عن عادات لا تزال مصدر تقدير بالنسبة لأجيال، كبرت على مفاهيم "المؤاجرة"، والتضامن الاجتماعي في الملمات كما في الأفراح. بينما هم يراقبون تخلي أولادهم عنها تدريجياً، فلم يعد الكثيرون يعتبرونها واجباً يجب تأديته، إلّا مع أقرب المقربين.

والواقع أن الجيل القديم من رجاله ونسائه خلق نمطاً اجتماعياً كان يعكسه في أيام الجنانيز خصوصاً، عندما يرتدي الرجال بذلاتهم، وتخرج السيدات معاطف الفرو أو الجوخ الفاخرة، وتتزيّن بمصاغهن المخبأ للمناسبات لتظهرن بشعر مصفف في صالونات التعازي، التي تشكل أماكن تلاق، تتجدد فيها الروابط الاجتماعية. في هذه الأيام تحديداً، يتحرك الرجال في مجموعات تتحوّل كل منها إلى رفقة واجب من وجوه تتردد في معظم الصالونات، لتقديم التعازي للقريب كما البعيد، وفقاً لخطة سير تحددها أوراق النعاوي التي تراجع عددها أيضاً على عواميد الإنارة العامة وجذوع الأشجار، بعدما وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي ما يؤمن سرعة انتشارها. ومثلهم تترافق الشقيقات أو الجارات والصديقات في تقديم التعازي إلى المقربين خصوصاً، لترجئ معظم السيدات موعد غذاء يوم الأحد حتى وقت متأخر من النهار، وخصوصاً أن بطون رجالهن تكون قد امتلأت بالقربان الذي يُجمع من أكثر من جناز.

لم يعد هذا النمط سائد منذ جائحة كورونا. لا بل ينزع الجيل الجديد إلى التخلي عن كثير من العادات التي ميّزت المجتمعات الريفية خصوصاً، ويتوجه أكثر نحو التمدن، بما يعنيه من إسقاط للروابط، يجعل المجتمعات تغرق في فردية، تعمّقها أزمة اقتصادية تفرض تقنيناً حتى على التنقل بالسيارات. وهذا ما يعزز شعور الناس المتفاقم بوحدة تعز على الكثيرين، وخصوصاً في أحزانهم على موتاهم..

تعليقات: