القانون لا يحمي الزوجات المؤقتات من الجرائم الجنسية والاستغلال الاقتصادي (Getty)
"خلف مكتبٍ خشبيّ، يجلس متعمّمًا بزردٍ أسود داكن. وفيما تنسدل من على كتفيه عباءة طويلة وفضفاضة، تلوح من تحت لحيته الكثّة ابتسامة صفراوية يكتنفها الحياء. يُجيب الشيخ مستفيضًا وبإلمامٍ واضح، على أسئلة محاورته المباشرة، شارحًا أحد شروط زواج المتعة أو ما يُسمى "الزيجة" باللّغة الفارسيّة مشيدًا بفضائله الدينية، بزهوٍ وحكمةٍ مصطنعة". بهذا المشهد، استهلت المخرجة النمساويّة من أصولٍ إيرانية "سودابه مرتضي" فيلمها الوثائقيّ "في سوق الجنسين" المصور عام 2013. لتعود وتعرض فيه سلسلة من المشاهدات الحيّة لتغلغل ظاهرة الزواج المؤقت في المجتمع الإيراني، واستحالته نمط عيش ومصدر دخل لفئات متباينة منه بعد الثورة الإسلاميّة، في محاولة لعرض إشكاليته وارتداداته الاجتماعية وحيثياته، ما جعله محط جدّل واسع حينها، لإماطته اللثّام عن وجهٍ مخفيّ للجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة.
وعلى مثال ما صُدِّر طيلة السنوات الفائتة إلى لبنان (الذي مَنع عرض الفيلم الوثائقي المذكور لـ"منافاته الآداب العامة" حينها!) من عادات هجينة عليه من هذه الجمهوريّة، تمكنت هذه الظاهرة من التّسرب إلى عمق المجتمع اللّبنانيّ والمتشيّع منه على وجه التخصيص، ذلك بُعيد دخول "الثورة الإسلامية" إلى أراضيه وما تبعها من تعبئة عقائدية مكثفة، فيما وصلت الظاهرة أوّجها في غضون الحرب السّورية والأزمة اللّبنانيّة، لتستحيل إشكاليّة مستحدثة ومتسترة تحت حُجب شرعيتها الدينية و"قدسيتها" تارةً.. وعنفًا ومهانةً اقتصادية جديدة للنسوة اللبنانيات تارةً أخرى.
الزواج المؤقت في لبنان
فمنذ قرابة الأسبوعين ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بفيديو لإمرأة شيعية مُحجبة، تروي تجربتها في زيجاتها الثلاث الأخيرة، وانخراطها بعدد لا يُحصى من عقود المتعة مقابل "المهر" أي المال الذي يُقدمه الرجال لها، تلبيةً لحاجتها المادية وانتفاء مصدر دخل ثابت لها ولأسرتها، مع تأكيدها أنها لا تعتبره "حلالاً" خلافًا لمن يدعي جوازه الدينيّ، وذلك في حديثها لبرنامج تلفزيوني. وعقب التصريحات الجدليّة التّي أطلقتها السّيدة الأربعينية، مشيرةً لكون "أقصر زواج متعة استمر معها نصف ساعة في السيارة، وأطول فترة استمرت أسبوعاً واحداً"، لفتت إلى أن المرأة في لبنان اليوم، وهي منهن، تقبل بزواج المتعة في بعض الأحيان بسبب حاجتها للمال، حين تريد إطعام أولادها أو دفع إيجار منزلها ومستلزمات الحياة. لتنهال من بعدها التعليقات السّلبية التّي ذمت هذا المصدر الملتويّ لكسب المال، متهمةً السّيدة بتسليع نفسها، والترويج لثقافة هجينة على المجتمع اللّبنانيّ.
وبالرغم من الرفض والاستهجان الاجتماعي لعقد الزواج المؤقت واعتباره "دعارة" شرعيّة، فلا شكّ أنه بات من الظواهر المُسلّم بها في لبنان، لخصوصيته الشرعيّة المستمدة من الفتاوى والاجتهاد الشيعي، بالرغم من كونّه إشكالياً عند سائر الطوائف الإسلامية وعدد لا يُستهان به من الشيعة. والزواج المؤقت أو زواج المتعة، هو في الأساس عقدٌ سريّ بين رجل وامرأة، لا حاجة فيه لشهود، قائمٌ على مهر ماديّ ولا ميراث فيه، وشروطه، أن تكون المرأة أرملة أو مطلقة أو حتّى "عذراء" في سنّ متقدم (حيث تكون تعدت السّن المتعارف عليه اجتماعيًا للزواج). وفيما اختلفت المرجعيات الشيعية فيما بينها في هذه الشروط، من جهة قبول وليّ الأمر من جهة ومدّة العدة (الفاصل بين الزواج والآخر عند المرأة)، فإنها اتفقت على جواز وشرعيّة هذا النوع من الزيجات، بل وأشادت على اختلافها بقدسيته الدينية.
استغلال اقتصادي
والتجربة نفسها عايشتها الخمسينية فاطمة ح. التّي تقطن في ضاحية بيروت الجنوبية. ففي حديثها مع "المدن" أشارت إلى أنها اضطرت بعد طلاقها من زوجها إلى عقد عدد من زيجات المتعة، للاستفادة من المهر الذي يُقدم لها، والذي تتراوح قيمته في كل زيجة بين المليون و100 دولار. وفي سؤالها عن عدد الزيجات التّي أقامتها ومدتها، اعترفت أنها تزيد عن العشر زيجات في غضون السنتين الماضيتين. فيما يستمر الزواج الواحد بين الأسبوع إلى الشهر الواحد في أحسن الأحوال. قائلةً: "بعد طلاقي، اشترط عليّ زوجي السّابق، الزواج حتّى أتمكن من العيش في شقتنا التّي نتقاسم ملكيتها. وبعد مشاكل طويلة وتدخل المحكمة الجعفرية، أذعنت لمطالبه الكيديّة وتزوجت بعقدٍ مؤقت لأضمن لنفسي سكنًا مجانيّاً، خصوصاً أن لا مأوى آخر لي. وبعد انتهاء العقد، وجدت نفسي في حالة إفلاسٍ تام، بعدما تكلفت بمبالغٍ طائلة في طلاقي السّابق. لذلك قمت بعقد زواجٍ مؤقت آخر بمهر تبلغ قيمته 500 دولار، لتسيير أموري. وهكذا دواليك".
وتُضيف: "آخر زواج قمت به كان منذ شهرين، وبعد انتهاء العقد، وجدت زوجي المؤقت السّابق يطالبني بتمديد العقد لغاياته الجنسية، مستغلاً حاجتي للمال، بالرغم من كونه زعم أنه من حقه ذلك وأنه "حلال"، وبعد رفضي القاطع لهذا الموضوع، واظب على ملاحقتي وتهديدي بفضحي أمام أولادي ومجتمعي، فسارعت لتقديم شكوى في أقرب مخفر لي، لكني لم أصل إلى نتيجة ولا أزال رهينة التهديدات المستمرة، ما دفعني قسرًا اليوم للزواج منه مجددًا، وتلبية حاجاته الجسديّة مرغمةً خوفًا من الفضيحة ولحاجتي الملّحة للمال، في ظلّ هذه الأزمة الاقتصادية التّي جعلتني عاطلة عن العمل، بعدما كنت موظفة في إحدى المستشفيات".
ظاهرة مستحدثة
ويعزو غالبية المطلعين والباحثين في هذا الشّأن انتشار هذه الظاهرة لانخراط عناصر حزب الله في الاقتتال السّوري بداية 2013، ومقتل ما يزيد عن 1500 مقاتل (حسب ما أشارت التقارير الدوليّة). الأمر الذي نجم عنه ارتفاع أعداد الأرامل. ومع تقليص حزب الله حينها لميزانية الخدمات الاجتماعية التّي يقدمها في لبنان للمنظمين فيه، وجدت بعض النسوة اللواتي فقدن معيلهن الشرعي بغتةً في حاجة ملّحة لمصدر دخل، لينضممن مباشرةً لمجموعة "عرائس حزب الله المؤقتات"، للاستفادة من المقابل المالي من جهة و"لثوابها في الآخرة" من جهة أخرى، ومن التسهيلات الدينية التّي خفضت مدّة العدّة (كانت شهرين). وإذ أعرب الكثيرون عن قلقهم وتوجسهم من هذه الظاهرة بوصفها لا تتوافق والمعايير والمفاهيم الاجتماعية المفروضة، فإن بُعدًا حقوقيًا آخر يكتنفه، وهو استحداث عنف اقتصادي (وجنسي أحيانًا) على تحت غطاء ديني ومباركة شرعيّة.
الأمر الذي أكدّته تهاني م. التّي كانت في طور التنظيم في أحد الشُعب النسائية في منطقة برج البراجنة (وتراجعت لاحقًا عن الانتساب). إذ طالعت "المدن" بعدد من التفاصيل المرتبطة بعملية تزويج بعض النّسوة بصورة مؤقتة بعد مقتل أزواجهن في سوريا وخلال الأزمة الاقتصادية الحاليّة قائلةً: "بعض هؤلاء النّسوة هن أخوات وأمهات وزوجات مقاتلين، وبعد مقتلهم، يعمد مسؤولو الحزب "للاطمئنان" عليهن كل فترة، عارضين عليهن فكرة الزواج المؤقت، لما له من أجر في الدنيا والآخرة، وبالمقلب الآخر تنظم كل فترة مسؤولات الهيئات النسائية ندوات وجلسات لتثقيف هؤلاء النّسوة وإعدادهن وحثهن على مثل هذه الزيجات، بعدما بتن أرامل. البعض يقبل، وعددٌ لا يستهان به يرفض". لافتةً لتجربة إحدى صديقاتها الأرامل التّي تواصلت معها "المدن"، فأشارت السّيدة أنها انخرطت بما يفوق السبع عقود متعة مع عدد من المنظمين في الحزب والمناصرين له، في غضون آخر ثلاث سنوات، ذلك بعدما حُرمت من النفقات والتعويضات التّي يقدمها الحزب بعد زواجها الثاني السّابق عقب مقتل زوجها الأول. واجدةً نفسها في مأزقٍ ماليّ ونفسيّ صعب، وبحاجة لتأمين معيشة أولادها الميتمين.
تاريخ الزواج المؤقت
إبان وصول الثورة الإسلامية إلى مقاليد الحكم في إيران، وما تبعها من تغيرات اجتماعية وثقافية، وفيما كان زواج المتعة محرمًا وغير قانونيّ في عهد الشاه، لاقى في البداية استحسانًا عند نسبة ضئيلة من المجتمع الإيراني، وازدهر إبان الحرب الإيرانية- العراقية، ليعود ويلقى رواجًا هائلاً لدى الشباب العازف عن الزواج في خضم أزمة إيران الاقتصادية. إذ صرّح المدير العام لصحة الأسرة والمدارس في وزارة الصحة في إيران حامد بركاتي، منذ قرابة السّنتين، عن انخفاض كبير في معدل الزواج في البلاد بنسبة 40٪ منذ العام 2010، وهذا حسب قوله تحذير بأن مستقبل البلد إن كان اقتصادياً أو اجتماعيّاً وحتى أمنياً، أصبح مهدداً. إذ بات الشباب الإيراني يُفضل هذا النوع الزواج المتحرر من التبعات الاقتصادية له، ليستحيل لاحقًا شكلاً من أشكال "السّياحة الجنسيّة" التّي استقطبت الزوار العراقيين على وجه التحديد إلى إيران. وانعشت قطاعًا كاملاً من السّياحة الجنسية وما يتبعها من مكاتب لتنظيم هكذا زيجات. فيما يبدو أن المستفيد الأكبر منها هم رجال الدين الذي استغلوا حاجة الشباب والنّسوة.
وانتشار هذه الظاهرة في لبنان، يجعلنا أمام مأزق حقوقي واجتماعي مستحدث وجديّ، فالمرأة اللبنانية التّي تقاسي اليوم، شتّى أنواع العنف المجتمعي والأبويّ، تجدّ نفسها اليوم مضطرة للانخراط في عقود زواج مؤقت لتأمين مصدر رزقها، من دون أن يترتب عن هذا الانخراط أي حمايّة اجتماعية وقانونية. فإذ كان القانون اللبناني لا يحمي المرأة من الاغتصاب الزوجيّ، فإنه حتمًا لن يحمي "الزوجات المؤقتات" من الجرائم الجنسية والاستغلال الاقتصادي المفروض عليهن.
تعليقات: