يطوّر الرفاعي رفضه للأدلجة عموماً، ولأدلجة الإسلام السياسي الذي أفرغ الدين من أفضل مزاياه في نظره.
قد يكون كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعيّ "الدين والظمأ الأنطولوجي" الصادر عن "دار الرافدين" (بيروت – بغداد)، ومركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، نوعاً من السيرة الذاتيّة الكاشفة عن تجربة إنسانيّة عميقة التحوّلات، تبتدئ من مرحلة الطفولة وتَشكُّل الذات، مروراً بمرحلة الشباب والنشاط السياسيّ، وصولاً إلى مرحلة النّضج المعرفيّ.
يستمدّ الرفاعي مضمونَ الكتاب الموزّع على سبعة فصول وملحقين من بداياته الريفيّة الموسومة بالفطريّة، ثم يستعرض مرحلة نشاطه الحركيّ ذي المرجعيّة الإيديولوجية الإسلامية، وصولاً إلى اكتشافه خيار الإسلام الأنطولوجيّ، فيقدّم خلاصة حياةٍ، وموقفاً قيميّاً يؤكّد أن الدينَ جوابٌ عن سؤال وجوديّ، وبيانٌ لحقيقة الوجود الإنساني المفتقر إلى الوجود الكليّ المقدّس، في الوقت الذي يُشكّل فيه (الدين) إرواءً للظمأ الأنطولوجيّ التكوينيّ لدى البشر، بعيداً من جفاف علم الكلام، وأدلجة الإسلام السياسيّ، الذي أخرج الدين من "مجاله الروحي والأخلاقي" (ص22)، فنسيَ الإنسان وحاجته إلى الفن والجمال والإيمان المنفتح.
قد يتوهّم البعض أن الرفاعي في نقده الأدلجة يُسيء إلى الدين، لكنّه على العكس من ذلك يرى أنّه ينزّه الدين، ويجعله حبل الله ما بين العبد ومحرّكه الدائم بفضل البُعد الأنطولوجي، الذي يعرّف الظمأ إليه (ص 25) بأنه "الحنين للوجود المطلق. إنه ظمأ الكينونة البشريّة بوصف وجود الإنسان وجوداً محتاجاً على الدوام إلى ما يُثريه". فـ"الإنسان كائن متعطّشٌ إلى وجود غنيّ مكثّف بذاته يروي به ظمأه، ويثري به وجوده، ويسقي به عطشه المزمن". "وحيث كان الظمأ للمقدّس فلا بدّ من أن يحضر الدين".
يتّخذ الرفاعي في الكتاب موقفاً حاسماً مناوئاً للإسلام السياسيّ معتبراً إيّاه مسيئاً إلى الدين والإسلام. ويركّز هجومه على أبرز المنظّرين الثوريين الدكتور علي شريعتي وسواه من الإيديولوجيين الإسلاميين الذين أساءوا بنظره إلى الدين، حين أدلجوه وجفّفوا منابعه الروحيّة تماماً مثلما أساءت السلفيّة بفكرها التبسيطيّ والحروفيّ، والصوفية الطرقيّة باستعبادها أتباعَها، إلى مضامين الدين العميقة المُثرية، ليُعلن بعد ذلك انحيازه إلى التصوّف المعرفيّ.
إزاء تحدّيات الإسلام السياسي وطرحه التجديد، يردّ الرفاعي في الكتاب على سؤال التجديد في العالم العربي والإسلامي، فيرفض اقتحام المجال الإسلامي من خارج، ويؤكّد (ص 103) أن "تجديد علوم الدين يعتمد على استكشاف المنطق الذاتي لها واستيعابه"، مشدّداً على أن "الفكر لا يغيّره إلا فكر من الخميرة ذاتها"، قبل أن يُشكّك في محاولات التجديد من خارج الحوزة وفضائها وأدوات اشتغالها، ويجزم (ص 20) بأن الطارئين "هؤلاء يضلّلون الشباب المفتونين بهم؛ حين يعلنون أن مهمّتهم تجديد الفكر الديني، بينما هم أعداء الجهود العلمية في هذا المضمار. كل من يتهكّم على الدين، ويسخر من التديّن لا يصلح لمهمة التجديد". ويُحدّد في التجديد أهدافاً ضروريّة تتمثّل بـ"إيقاظ الإيمان لا تقويضه"، وبـ"اكتشاف الحدود بين الدين وتمثلاته البشريّة" وبـ"تفكيك ركام التاريخ الذي حجب رسالة الدين"، و"يفضح التفسيرات المتعسّفة".
لكنّه يوضح بأن المعرفة الدينية ليست منعزلة عن المسار العام للمعرفة، بالرغم من خصوصيّتها، ويضيف (ص 103) أن "المعرفة الدينية حقل من حقول المعرفة، تخضع لشروط الإنتاج العامة المولّدة للمعرفة البشريّة، وتحكمها القوانين والمشروطيّة التاريخيّة واللغويّة نفسها".
يعطي الرفاعي انطباعاً بأن معرفته دائريّة غير خطيّة، تنطلق من بيئته الريفية الأولى البسيطة في كلّ شي، وذات الإيمان الشهوديّ المزدحم بالقداسة، لتعود إلى تلك البيئة بتمثلات مدينيّة معرفيّة، فينقل لنا انطباعاته الأولى أو ما وعيه في وقت لاحق بأنّها انطباعاته الأولى حول إيمان والدته الغنيّ، وحول نخوة والده الكادح، ثم يعرّج على عالم الإسلام السياسي، حيث اختبر حياة التخفّي ومجانبة الظهور وكثيراً من الأمراض الاجتماعية، والحرمان النفسي، وحيث دُجّن وأُجبر على التماهي مع الجماعة بآحادها المتكثّرين، حيث لا حياة فرديّة، ممّا أخذه إلى النظر من الجهة المقابلة فوصل إلى رفض الأدلجة، ثم منطق الإسلام السياسي، وصولاً إلى الاكتفاء من الدين بالبُعد الأنطولوجي.
يطوّر الرفاعي رفضه للأدلجة عموماً، ولأدلجة الإسلام السياسي الذي أفرغ الدين من أفضل مزاياه – بنظر الرفاعي - فيكتب (ص 11) في مقدّمة الطبعة الرابعة بسعادةٍ عن دور له في تغيير صورة الله في أعين أعداد من الناس: "أبتهج حين يبادر قرّاء أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في كلّ شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدين يمكن أن يحيي كلّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظ الضمير الأخلاقي، ويكرّس التكافل العائلي، والتضامن المجتمعي، ويخفض طاقة الشّرّ التدميريّة، ويبعث منابع الخير في الأرض، ويجعل صناعة السلام والعيش المشترك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن".
الإيديولوجيا التي يمقتها الرفاعي
يشدّد الكاتب على أن موقفه السلبيّ من الإيديولوجيا لا يتوجّه إلى المفهوم بمضمونه الذي وضعه أنطوان دستيت دو تراسي (Antoine-Louis-Claude Destutt de Tracy)، ويعني "دراسة الأفكار"، بل إلى المعنى التضميني الذي ابتدعه نابوليون بونابرت، واستعمله في سياق ازدراء مفاهيم التنوير، تماماً كما هو المعنى الوارد في كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" ويعني "الإدراك المقلوب والوعي الزائف". ويقول: "أعني بالإيديولوجيا نظاماً لتوليد المعنى يُنتج وعياً زائفاً بالواقع، ويصنع نسيج سلطة متشعّبة وفقاً لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ متخيّل. الإيديولوجيا تحتكر نظام توليد المعنى، بغية إنتاج وعي يطمس مختلف أبعاد الواقع، ويبتكر صورة متخيّلة له".
شريعتي والغواية الإيديولوجية الفاتنة
يشرح الكاتب دور الدكتور علي شريعتي السلبيّ في أدلجة الدين وإفقاده مزاياه الروحية والنزوع به إلى منحى بروتستانتي، بالرغم من إشادته بمزايا النص الشريعتي وحرارته، حين كتب في الصفحة 21: "فكر شريعتي يتلفّع بأقنعة متنوعّة، كلماته لا تخلو من غواية فاتنة، عباراته لا تخلو من سحر الشعر والفنّ، وكلّ ما يستثير المشاعر. محاضراته تُعلن عن شهامة وغيرة وشجاعة، أفكاره يسودها نقد الواقع الذي عاشه هو، وعاشه وطنه إيران قبل الثورة الإسلامية... يتطلّب كشف المضمون الأيديولوجي مزيداً من تأمّل العقل النقدي".
ويعترف الرفاعي بغواية شريعتي، ويكتب: "يرى أكثر من يقرأ شعاراته (شريعتي) الغاضبة المثيرة أنه مجدّد، خلافاً للقراءة المتأنيّة لأفكاره، وما تكشفه من أن خطاباته المتنوّعة وكتاباته يوحّدها قاسم مشترك هو توظيف الدين في الدولة والاقتصاد والعلوم والمعارف المتنوّعة وكلّ مجالات الحياة، وتلك هي خلاصة ما ينشده الإسلام السياسي".
بالإضافة إلى نقده وموقفه السلبي من إسهامات شريعتي الثورية وانعكاساتها المعرفية الإيمانية، لا ينسى الرفاعي مقاربة مساهمات الشخصيّة الإسلامية المصرية التاريخية سيّد قطب بأسى، وهو الذي حظي بسمعة قوية بين الإسلاميين فيقول: "...بعد أن طالعت كتاب معالم في الطريق لسيد قطب في الصف الخامس الثانوي. جرحت روحي غواية شعاراته وأناشيده، مثلما استنزفت مشاعري النصوص الأخرى لأدبيات الجماعات الدينية. إنها نصوص كلما غرقت في مطالعتها أسجّل غياباً إضافياً من عوالم الفنون الجميلة، بل إن مطالعتي للمزيد من تلك النصوص تُغيّبني عن تذوّق صورة الله الجميلة، وتجلّيات جماله في الوجود".
لكنّ الرفاعي - في مقابل الأدلجة، يستهدف السلفيّة كمنهجٍ في عالم المعرفة، ويحسم بأنّها أضرّت بالإسلام بتبسيطها وفهمها الحرفيّ للدين والإسلام، ويشرح ذلك بالقول (ص 22): "أعني بالسلفيّة ما يشمل كلّ قراءة سلفية للنصوص الدينية، وكلّ محاولة لاستدعاء الماضي أياً كان ودسّه في الحاضر كما هو، مهما كانت الفرقة أو المذهب أو المعتقد الذي يدعو لها ويتبنّاها...السلفية تتسع لكل تفسير تبسيطيّ للنصوص الدينية؛ قابع في الحرف، عاجز عن تذوّق مقاصد النص وأهدافه، مهما كانت الفرقة أو المذهب أو المعتقد الذي ينتمي إليه صاحب التفسير".
ويحكم على السلفيين وعلى الذين يتشبّثون بالماضي من أتباع الجماعات الدينية بالسطحيّة (ص 105) وبأنّهم "لم يعرفوا أنفاق التراث، ولم يكتشفوا مسالكه الوعرة، رؤيتهم صاغتها أدبيات الكثير منها: رومانسية لا تقول شيئاً، بقدر ما تنشد شعراً كثيراً يُثير المشاعر ويحرضها، يطرب له الحالمون بعالم متخيّل سعيد، و"جيل قرآني فريد"، حسب تعبير سيّد قطب".
ثم يشير إلى خللٍ معرفيّ لدى الإسلاميين أدّى إلى الخلل الذوقيّ الفادح، ويتجلّى في الخلط بين مقام الثبوت والإثبات، حيث "يقع الخلط في مناهج المعرفة عند الإسلاميين بين مرحلة صدور المعرفة وإدراك الحقائق، وهو ما يصطلح عليه "مقام الثبوت"، ومرحلة بيان ذلك الإدراك، والتعبير عنه، وإيصاله إلى الغير، وهو ما يصطلح عليه "مقام الإثبات". وذلك انعكس على فهمهم للدين وصلتهم بربّ العالمين.
لا بدّ للإنساني من دين وشعائر
في الوقت الذي يذهب فيه الرفاعي إلى الانفتاح الشديد على الأفكار والمفاهيم والأديان والتجارب، لا ينسى أهميّة الانتماء، فيرى أن الإنسان يتمثّل المفاهيم والتجارب وفاقاً للقوالب الفكرية والمقولات التي تبنّاها أو كان يعتقدها حتى لو بدّل عقيدته وغيّر؛ لذلك يتمسّك بالطقوس والشعائر التي خبرها ويعيشها ويقتنع بها، ويقول (ص 28): "لا دين بلا طقوس وعبادات، لا دين بلا عبادة منبثقة من اعتقاد. الطقس يوصل الكائن البشريّ عضويّاً بإيقاع صيرورة الوجود ولغته، ويشدّه إلى مداراته، بل يدمجه في تلك الصيرورة الأبدية".
ويضيف (ص 106): "لا أتذوّق حلاوة الإيمان، ولا تُضيء التجربة الدينية روحي من دون أداء الصلاة والتمسّك بالتقليد العبادي المستمدّ من الإسلام وشريعة نبيه الكريم".
لذلك يدعو الرفاعي إلى مواظبة السالك على العلاقة بالوجود الكليّ عبر الطقوس التي اعتادها، والتي تشكّل ضرورة للتجدّد الروحي والمعنويّ، ويجزم بأن الجمال لا ينتج من دون عبادة وطقوس، والمواظبة على الصلاة ضروريّة للشخص كيلا يذبل.
الجماعات الدينية إطارٌ لتماهي الذوات وإفقارها
يكرّر الرفاعي على مدى صفحات كتابه أسفه على العمر الذابل في صفوف الجماعات الدينية، ويوضح أنه "في العمل الحزبي افتقدت ذاتي". ثم يعبّر عن رفضه لمنهج التأطير في تلك الجماعات التي تسبّب تشوّهاتٍ وذبولاً للنفس الإنسانيّة، وتقطع على الروح معراجها إلى بارئها، فيقول (ص 38): "أدبيات الجماعات والأحزاب تتجاهل فرديّة الإنسان، ولا تتحدّث عن الأنا الشخصية عادة، وهو ما يبدو ماثلاً في أدبيات الأحزاب اليسارية، والقومية والجماعات الدينية". ويضيف (ص 39): "ربما ينتهي تجاهل الأعضاء لحياتهم الداخلية، وتكتّمهم على عالمهم الباطني، إلى تورّطهم في ارتداء أقنعة تعلن عن سلوك خارجيّ لشخصيّة تجسّد ما تُمليه تعاليم الجماعة، فيما يخفي الشخصية قناعات ومعتقدات ورؤى....ازدواجية ونفاق".
ويخلص إلى القول (ص 46): "ربّما يتوهّم الإنسان أنّه سيجد ذاته في كلّ ما هو خارج عن ذاته، وهو لا يدري أنه لن يجد ذاته إلا في ذاته"، فـ"لإيمان خيار شخصي وتجربة ذاتية، والانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين" (ص 47).
العود الأبديّ إلى تجربة الأم الإيمانية
في نهاية الحديث عن الرؤية الرفاعية في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وبعد الإشارة إلى المسيرة الدائرية للدكتور عبد الجبار الرفاعي في دروب الإيمان، أقمنا رباطاً بين إيمان والدته وتجربته، وهو ما وعاه الرفاعي لاحقاً نظرياً، بعد اختباره حياتياً، إذ يؤكّد أن مواقفه كانت بتأثير من تلك الشعلة الإيمانية التي أوقدتها والدته سلوكياً لا نظرياً، ويكتب في الصفحة 63 أن "تديّن أمي غرس الإيمان في روحي"، وقد "استلهمت دروسي الروحية منها (الأم). لم تكن أنشودتها كلمات إنها من جنس الحالات الوجودية، كلماتها تضيء روحي".
ويضيف: "وإلى نمط تديّنها الفطريّ العفوي البريء الشفيف يعود الفضل في رسوخ إيماني وتجذّره ومقاومته لأية مجادلات أو مناقشات أو تساؤلات أو مشاكسات أو قراءات تشكيكية". فـ""الطمأنينة تسكن قلبي حين أتحسّس أسرار قلبها الذي يتقن لغة العشق الإلهي".
ويذمّ في مقابل فطرية الأم احترافيّة الأخلاقيين حيث يقول: "لم أتذوّق الأخلاق من المعلّمين الذين يعتاشون على الكلام في الأخلاق. أكثر من يتخذون الكلام بالأخلاق مهنة لا أخلاق لهم". فـ"الحياة الأخلاقية حقيقة نتذوّقها لا فكرة نتعلّمها"(ص 64).
ثم يأسف (ص 141) لظلم الكثيرين أهلَ الإيمان بقوله: "تمنعنا معظم الجماعات الدينية ووعاظ السلاطين والمرتزقين...من رؤية النساء المغمورات... من العاملات والفلاحات...القدّيسات".
الخلاصة
لا ينفكّ د. عبد الجبار الرفاعي في كتابه، الذي أراده ضوءاً في الطريق إلى الله تعالى، عن التذكير بالجرح الشخصي الذي حثّه على تجديد نظره إلى الدين وأبعاده التي تمثّلتها أمم من المسلمين، ويوضح بأن اكتشافه البعد الأنطولوجي للدين جاء بعد مسيرة شاقّة كرّست انحيازه إلى المهمّشين، ورسّخت تبنّيه لمبادئ الحب والجمال والخير، وكتب (ص 59): "أظن أن النواة الجنينية لتحيّزي الأبديّ لهموم وآلام المضطهدين والمهمّشين والمنبوذين والضحايا تشكّلت من هاتين المحطتين القاسيتين في بداية حياتي، أي غربة الطفولة الاجتماعية، واغترابي عن ذاتي في الإسلام السياسي".
تعليقات: