ممنوع إطعام النازحين قبل إطعامن\": ألهذا الدرك أوصلتنا دولتنا؟

تحريض شعبوي يريد تطبيق قاعدة الجوع المتساوي
تحريض شعبوي يريد تطبيق قاعدة الجوع المتساوي


مرّ أسبوعان على انتشار الكلام المصوَّر الشهير لمحافظ بعلبك بشير خضر، والذي تحدث فيه عن مداخيل النازحين التي باتت أفضل من راتبه كموظف فئة أولى، قبل أن يطلق خضر قبل ساعات، انتقادات جديدة لعمل المنظمات والهيئات الداعمة للنازحين، كاشفاً هذه المرة أنها تمنع المساعدات عن موظفي القطاع العام.


روايات المحافظ

في قالب من الرواية، التي قال أنه ألّفها بنفسه، تطرّق خضر مجدداً إلى الواقع المعيشي لموظفي القطاع العام، فروى "مأساة صالح الذي أوكله كريم توزيع طعام إفطار يومياً على المحتاجين، فكانت "أنجو" تعد الوجبات التي احتوت في يومها الأول الحساء والفتوش ومنسف مع لحم الخروف الشهي تزيّنه القلوبات، وطبعاً لم تنسَ أنجو إضافة الحلويات إلى الوجبة.. وكما في اليوم الأول كذلك في كل يوم، كان صالح يحمل الوجبات للعائلات الفقيرة التي تمّ اختيارها ويتحسّر على حاله، فلا يحقّ له أن يحصل على وجبة إفطار من الوجبات التي يقوم بتوزيعها بكل أمانة، فهو لا يستحقها لأن لديه وظيفة براتب يوازي الحد الأدنى للأجور البالغ 675 ألف ليرة، أي ستة دولارات شهرياً، وبإمكانه أن يعيل نفسه وعائلته بنظر السيد كريم، فيما أنجو تحصل على راتب شهري بالدولار الفريش، إضافة لإقامتها المجانية في منزل السيد كريم التي تتضمن المأكل والملبس والتأمين الصحي.."، ليعود خضر ويقول بأن الرواية ليست من نسج الخيال "بل إن شخصياتها حقيقيون، كما أن أحداثها تحصل أمام عينيّ كل يوم. فالمنظمات تطلب مني الموافقة والتعاون معها لتنفيذ مشاريعها الخيرية، وفي كل مرة أطلب تقديم المساعدة لموظفي هذه البلديات أسوة بباقي المحتاجين، يأتي الجواب بالرفض لأنّ الجهات المانحة تمنع المنظّمات والجمعيات من تقديم أي مساعدة لموظفي القطاع العام".


"النازح" والعامل

وخضر ليس سوى الجناح الأول لهذه الحملة التي ارتبطت ببشيرين في محافظة بعلبك. فكانت الضربة الثانية هذا الأسبوع أيضاً لبشير مطر، رئيس بلدية القاع، الذي عقد اجتماعاً مع وكلاء ورش 72 مخيماً من مخيمات النازحين والعمال السوريين في سهل ومشاريع القاع، قيل أن هدفه تنظيم اليد العاملة السورية. وعلى رغم "تلغيم" اللقاء بمواقف إنسانية، كمنع عمالة الأطفال الذين لا يتخطون 16 سنة، وعدم السماح باقتطاع أي جزء أو نسب من حقوق العمال من قبل وكلاء الورش، فهو شكل امتداداً للحملة التي بدأها مطر، للحد من تحركات النازحين في بلدته، ولإسقاط صفة النازح عن العامل السوري. وقد طالب مطر أيضاً بمراقبة أعمال المنظمات في البلدة، ذلك بعد أن كان قد حذّر إثر العاصفة الهوائية التي ألحقت أضراراً بقسم من المحاصيل الزراعية في القاع بأنه "إذا لم يتلقَّ الأهالي مساعدات وتعويضات من قبل المعنيين المحليين والدوليين، فلن يُسمح بدخول أي مساعدة للنازحين السوريين داخل مخيّمات البلدة".

في الشكل إذاً هي حملة على "لاعدالة" المنظمات والهيئات المانحة في التعامل مع اللبنانيين أسوة بالنازحين السوريين. وتشكّل حلقة من ضمن سلسلة حملات سابقة شنت على المستوى المركزي، ولا سيما خلال التطرق إلى حقوق أساتذة التعليم الرسمي، الذي لوح وزير التربية بأنه لن يكون التعلّم متاحاً للأطفال السوريين إذا لم يتأمن للتلاميذ اللبنانيين، لتتطور في الأيام الماضية إلى موقف نُقل عن وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار، الذي قيل أنه رفض دولرة المساعدات المقدمة للنازح السوري، تجنباً كما ذكر لأن تصبح أحواله المعيشية أفضل من اللبناني (راجع "المدن").


"حسد" وتسوّل

وقد ترافقت هذه المواقف مع أخبار وتغطيات إعلامية تضيء على هذا التفوق في مستوى معيشة النازحين، حيث تحدث البعض عن استعانة لبنانيين ببطاقات تغطية صحية للنازحين السوريين من قبل الهيئات المانحة، أو شرائهم بطاقات التغذية المقدمة للنازحين "بعد أن فاضت على هؤلاء المساعدات"، كما ذُكر.

أخبار وروايات تشيح النظر عن العمق الحقيقي للأزمة، والتي وضعت اللبناني في موقع يحسد فيه النازح المقيم بضيافته تحت شادر، على مساعدات إنسانية مخصصة له. وهذا ما يضع الطبقة السياسية على مختلف مستوياتها، في موقع تحريض اللبنانيين، عبر إيهامهم بأن أساس مشكلتهم هي في حجم النزوح السوري الذي يتم الإيحاء بأنه يأخذ المساعدات من أمامهم، بينما المشكلة في الواقع هي في هذه الطبقة التي لم تحسن إدارة شؤون البلاد، فحوّلت كل سكانها، من لبنانيين وغير لبنانيين، إلى متسوّلين.

يكشف التمعن بهذه المواقف في المقابل، عجز سلطة تحاول أن تمتطي صرخة محافظ متألم مع كل موظفي القطاع العام، لتعزز موقع تفاوضها مع الجهات المانحة. بينما هي تعلم، بأن هذا التفاوض ليس الحل للأزمة الاقتصادية التي يعانيها اللبنانيون عموماً، كما أنه لن يؤدي بالضرورة إلى عودة السوريين إلى بلادهم. ما يجعل النتيجة الوحيدة الظاهرة لهذه الحملات حتى الآن، تأجيج المشاعر العنصرية ، حتى لو لم يكن لدى من حملوا لواء انتقاد المنظمات المانحة على حرمان المجتمعات المحلية من مساعداتها، نيات مبيتة بذلك كما أكدوا.


العنصرية مجدداً

في الأيام الماضية تظهّرت بوضوح هذه العنصرية الكامنة في النفوس، والتي تبين أنها لن تحتاج إلى جهد كبير لإيقاظها. ومع أن المواقف الصريحة للبشيرين حاولت التملص من تهمة العنصرية، فإن كلامهما الذي حولهما إلى الشخصيتين الأكثر شعبوية لدى فئات لبنانية مختلفة، كشف حالة من الغليان تعيشها المجتمعات المضيفة للنازحين خصوصاً، ولكن خطورتها تكمن في المحاولات التي جرت لخلق أجواء أمنية حولها، نشرت شائعات عن محاولات للتسلّح في بعض المخيمات، وتولت نشرها أبواق إعلامية، ضخّم بعضها حوادث فردية وحتى عائلية ليظهرها كتعدٍ على الأمن القومي!

فالحملة على المنظمات على المستوى الرسمي، تحولّت في الشارع غضباً على النازحين السوريين. والغضب لا بد أن يواجه بشعور مشابه. فيما أصحاب المقاربة المختلفة لهذا الملف وضعوا في موقع الدفاع عن النفس، بعدما صارت "مثالية هؤلاء" كما وصفوا، تهمة تعرضهم للتنمر.

هذا في وقت يعلم معظم اللبنانيين بأن تطبيق قاعدة "الجوع المتساوي" على الجميع التي يريدها مثيرو الحملات ضد المنظمات الداعمة للنازحين السوريين، لا تعني بأن أحوالهم العيشية ستتحسّن. لا بل أن الاستغلال المتواصل للأحوال الشخصية لبعض النازحين وتعدد زيجاتهم وولاداتهم، لن يقود سوى إلى نظرة دونية تجاههم، من شأنها أن ترفع حواجز نفسية تصعب تصويب العلاقات، حتى المصلحية، بين الشعبين. فسواء أقر اللبنانيون أم لم يقروا بذلك، حاجتهم للعمالة السورية ليست ترفاً، في الأراضي الزراعية أو في المشاريع الإنشائية، أو حتى في بعض المهمات البلدية. وخصوصاً في المجتمعات التي يثيرون فيها الحملات على الهيئات المانحة. بينما عودة النازحين إلى بلادهم، لا تعني أن اللبنانيين سينعمون بأموال الدول التي تجمع لمصلحة النازحين السوريين. بل من شأن هذه الإنفعالية في التعاطي مع الملف، أن تحرم ولو أقلية من الشباب اللبنانيين، من مصادر دخل محترمة لا تزال تتأمن من خلال وظائف حصلوا عليها مع هذه المنظمات، وسمحت لهم بتأسيس عائلاتهم وإقتناء منازلهم وسياراتهم.

لا شك بالمقابل أن لبنان صار بلداً متعباً فعلاً، والنزوح السوري زاد من أعبائه. ولكن النازح السوري ضحية مثله مثل اللبناني. لا بل مأساته مزدوجة، أولاً بسبب إضطراره للهرب من بلاده، ومن ثم بسبب إضطراره للعيش في بيئة لم تعد ترحب به. وإذا كان في استمرار وجوده في لبنان ما يفاقم من حالة الفوضى التي عمت في كل مفاصل البلاد، فذلك لأن أحداً لم يجرؤ على الإمساك الجدي بالملف وتنظيمه لا في بدايات النزوح ولا حتى بظل الأزمة المستشرية. فأصبح الانتشار العشوائي للمخيمات، ولأعداد السوريين المتزايدة، وحتى لأعداد من لا يزالون يدخلون الأراضي اللبنانية ويغادرونها خلسة، إنعكاساً لفشل طبقة سياسية، تورط جزء منها أيضاً بحرب سوريا، ما جعلها شريكة في دفع المزيد من النازحين إلى خارج بلادهم.

قد لا يكون الوقت حالياً مناسباً لتصفية الحسابات، وخصوصاً في ملف النزوح الضاغط على اللبنانيين، والمطلوب تقديم الأصوات العاقلة على تلك التي تؤجج المشاعر الغرائزية، لتصويب بوصلة المواجهة التي يجب أن تخاض بوجه من تسببوا بكل هذه الأزمات، قبل تفجير العنصريات بوجه نتائج الفشل والتقصير في إدارة كل الملفات، ومن بينها ملف النزوح السوري.

تعليقات: