بغداد
صحيح أن النظام السياسي في العراق يشبه نظيره اللبناني، من حيث المحاصصة الطائفية وسيادة الفساد، لكن الطفرة الاقتصاديةظوالبحبوحة التي يعيشها أهله اليوم بغالبيتهم، هي نقيض الواقع اللبناني الحالي، فالقادم من بيروت الى بغداد يشعر ان العراقيين يعيشون حاليا زمن الرخاء الذي عاشه لبنان قبل التدهور الاقتصادي الاخير.
لا يعبّر العراقي إلا عن سخطه من الوضع القائم في بلاده، إن كان من حيث غياب الخدمات التي من المفترض أن ترعاها الدولة مثل الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، وصيانة الطرق والصحة والتعليم وغيرها، أم من حيث توغّل أحزاب السلطة التي افترست الدولة وجعلت أجهزتها أثراً بعد عين.
الجميع شركاء في الهدر!
غير أن العراقي وفي تناقض مدهش، يعيش وهو راضٍ عن وضعه المعيشي، فالموظف الذي يتقاضى راتباً يتراوح بين 600 دولار و4000 دولار حسب رتبته الوظيفية وقدمه في سلكها، يعيش في بحبوحة ونعيم، لا سيما إذا عرفنا أن حوالى 10 ملايين عراقي موظفون رسميون في الدولة، من أصل 40 مليون نسمة هم عدد السكان المقيمين في البلاد حالياً!!
هذا العدد الهائل من جيش الموظفين الرسميين، الذي لا يوجد شبيه لنسبتهم الهائلة بالنسبة لعدد السكان، جعل غالبية الشعب شريكاً في الهدر، غاضا بذلك الطرف عن فساد وزعمائه ورؤساء الأحزاب الطائفية وأعوانهم، وهو ما يذكرنا أيضاً بحال لبنان في تسعينات القرن الفائت، مع توظيف آلاف الشبان والشابات من أنصار الأحزاب التي اشتركت في الحرب الأهلية.
السيارات الجديدة والفخمة تمشي على طرقات متآكلة في الشوارع الرئيسية، ومحفّرة متهالكة في الشوارع الفرعية.
السيارات الفخمة تملأ شوارع العاصمة بغداد وقلما تعثر على سيارات قديمة، فغالبيتها جديدة مصدرها الوكالات، ولكن هذه السيارات الجديدة والفخمة تمشي على طرق “مفحمة” متآكلة في الشوارع الرئيسية، ومحفّرة متهالكة في الشوارع الفرعية.
حتى في الأحياء الراقية، فإنك تستطيع أن ترى الفيلات الفخمة متراصة جنباً إلى جنب، تفصل بينها طرقات ترابية ضيقة، وبعضها موحل تملؤها المستنقعات هو مشهد سريالي يراه كل غريب قادم إلى بغداد.
أزمة السير تمنع التعليم!
وللبناني في العراق حضوره الخاص، فهو ما زال المدير والمشرف على الأعمال أو صاحب المحل والمطعم الناشئ، أو الشريك الخبير لرجل الأعمال العراقي الطموح.
أحد مدراء المعاهد من اللبنانيين، قال لي وهو يجالس أحد الاقتصاديين العراقيين، أنه اضطر أن يفتح معهده فقط يومي الجمعة والسبت، أي يومي العطلة، وذلك بسبب الازدحام مع وجود حوالى 5 ملايين سيارة في شوارع العاصمة خلال أيام الدوام الرسمي، يمنع الطلاب في الأحياء البعيدة من القدوم إلى مبنى المعهد لمتابعة دراستهم!
هو شيء يشبه الجنون يعلّق الاقتصادي العراقي الشاب، الذي كان يدير أحد فروع المصارف المعروفة، وقدم استقالته بسبب يأسه من تنظيم القطاعات الاقتصادية ورغبته في السفر، يقول: أن العراق رغم السيولة الهائلة التي تحويه حالياً بسبب ارتفاع أسعار النفط، فإن مستقبله غامض وغير مضمون، فاقتصاده بذلك بات ريعيا في مهبّ الريح، اذ ان البنية التحتية منهارة، ولا يوجد قطاعات انتاجية صناعية ولا زراعية، وبالتالي لا أحد يعلم مصير الكتلة النقدية، التي تضخمت في أيدي قلة من أصحاب المليارات غير الخبراء، جعلوا من دونم الأرض في العاصمة سعره يتراوح بين 5 الى 10 ملايين دولار، وهو سعر خيالي وهمي سببه تكدس الثروة بأيدٍ لا تتقن توظيف تلك الأموال.
شارع المتنبي يشع بالأنوار حيث تختلط المكتبات والثقافة بحفلات الطرب والحياة الليلية الصاخبة
وفي نهاية رحلة كل زائر، لا بد من زيارة الأسواق المكتظة بالرواد والمقاهي والمطاعم، والبضائع الموجودة على الأرصفة في الكرادة وشارع سعدون، وكذلك شارع المتنبي الذي يشع بالأنوار والمخصص للمشاة فقط، حيث تختلط المكتبات والثقافة بحفلات الطرب والحياة الليلية الصاخبة، في مشهد رائع يذكر بازدحام وصخب شارع الاستقلال في إسطنبول، رغم أن أنوار الكهرباء في المتنبي، مصدرها مولدات رجال احزاب السلطة القابضة على مقدرات البلاد..
تعليقات: