قضية السفارة بأوكرانيا: الموظف المتهم متوارٍ والسفير مشتبه به!

قُدّرت قيمة المبلغ المختلس من صندوق السفارة بين 319 و335 ألف دولار أميركي (Getty)
قُدّرت قيمة المبلغ المختلس من صندوق السفارة بين 319 و335 ألف دولار أميركي (Getty)


تتعاظم قضايا اختلاس المال العام داخل مؤسسات الدولة، في لبنان وخارجه، وذلك بعد أن استباح الفساد الدولة ومرافقها، وتفشت أخلاقيات اللصوص، ما أدى إلى سهولة النهب لسنين طويلة، بما أفضى إلى الانهيار العميم.

فبعد أن ادعى القضاء اللبناني على حاكم مصرف لبنان، متهماً إياه بأكبر قضية اختلاس للمال العام وتبييض أموال وسلسلة من الجرائم المالية، يتبيّن اليوم أيضاً أن الاختلاسات تطال سفارات لبنان في الخارج أيضاً، وكان آخرها الفضيحة التي نجم عنها إقفال السفارة اللبنانيّة في أوكرانيا، مع انكشاف سرقة أموال قدرت بين 319 و 335 ألف دولار أميركي.


سلامة والدفوع الشكليّة

يوم غد الخميس، في السادس من نيسان الجاري، حُددت جلسة استجواب حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في الادعاء اللبناني عليه بجرائم تبييض الأموال واختلاس الأموال العامة ومخالفة القانون الضريبي، والإثراء غير المشروع والتزوير، وذلك بعدما كان قد قرّر قاضي التحقيق الأول، شربل أبو سمرا، إرجاء جلسته المحددة للاستماع لسلامة وشقيه رجا سلامة، وماريان الحويّك، وتنفيذ الإستنابات القضائية الأوروبية في الخامس عشر من آذار الماضي.

وكنا قد توقعنا سابقاً، أن سلامة الذي كان مجبراً على المثول أمام القضاء الأوروبي للاستماع إليه، والذي لم يتمكّن من إيجاد الذرائع القانونية للتهرب من حضور ساعات الاستماع إليه أمام الوفود القضائية الأوروبية، سيحاول إيجاد المخرج القانوني أمام القضاء اللبناني، ليتغيّب عن جلسات الاستجواب التي سيجرى الاستماع إليه كمدع عليه. لذلك، سيسعى جاهداً لإرجاء الجلسات إلى فترات طويلة من المراوحة والمراوغة، وهو الأمر الذي حصل فعلاً.

فقد علمت "المدن" أن وكلاء سلامة القانونيين، تقدموا أمام القاضي شربل أبو سمرا بالدفوع الشكلية متذرعين بالقانون اللبناني الذي يسمح لهم بتقديمها. وبات مؤكداً أن سلامة الذي قصد قصر العدل ببيروت بحماية أمنية مشددة للمثول أمام الوفود الأوروبية، لن يعود مرة أخرى للمثول أمام القضاء اللبناني، ولن يزور قصر العدل مجدداً.

وحسب مصدر قضائي رفيع لـ"المدن"، فإن القاضي شربل أبو سمرا قد أبلغ هيئة القضايا في وزارة العدل عن تقديم وكلاء سلامة الدفوع الشكلية، كما أن سلامة اعترض أمام أبو سمرا على وجود هيئة القضايا كطرف في الدعوى مطالباً بإخراجها من الملف.

وأكد المصدر القضائي لـ"المدن" أن جلسة الاستجواب المحددة يوم غد، ستبقى على موعدها في الحادية عشر صباحاً، وسينتظر أبو سمرا حضور وكلاء سلامة، وحينها سيحول الملف إلى النيابة العامة الاستئنافية لإبداء الرأي فيه. وهنا يمكن القول أن حلقات المماطلة في الملف اللبناني قد بدأت فعلياً.


قضية الاختلاس في كييف

ومن قضية اختلاس سلامة للمال العام في لبنان إلى قضية اختلاس أخرى ظهرت في السفارة اللبنانية في كييف، ما أدى إلى إقفالها بانتظار نتائج التحقيقات الأخيرة.

وفي التفاصيل التي حصلت عليها "المدن"، فإن المدعي العام التمييزي، القاضي غسان عويدات قد أعطى إشارة قضائية للجهات المختصة من أجل فتح تحقيق موسع في هذه القضية، ما أدى إلى استدعاء السفير اللبناني في أوكرانيا علي ضاهر، والموظف المالي في أوكرانيا، علي حيدر، إلى لبنان وهو المتواري عن الأنظار.

وقُدّرت قيمة المبلغ المختلس ما بين 319 و335 ألف دولار أميركي، من أموال صندوق السفارة الذي يتغذى من رسوم تجديد جوازات السفر لأبناء الجالية اللبنانية المتواجدين في أوكرانيا ومن الوكالات، إلى جانب رسوم عقود الزواج وغيرها، الأمر الذي دفع بوزارة الخارجية إلى كف يد ضاهر، ووضعه بالتصرف، ريثما ينهي القضاء اللبناني تحقيقاته.


صلاحيات واسعة

أما الموظف المالي، علي حيدر، فإن النيابة العامة التمييزية قد أصدرت بلاغ بحث وتحر بحقه ومنعته من السفر مع زوجته الأوكرانية بعدما توارى عن الأنظار. وحسب معلومات "المدن"، فإن حيدر يتمتع بصلاحيات واسعة في السفارة اللبنانية في أوكرانيا، فهو المسؤول عن تجهيز كافة الجداول والنماذج والسجلات والبيانات المتعلقة بأعمال البعثة. كما أنه يملك صلاحيات واسعة كتحصيل الأموال، وبحوزته الدفاتر المالية، وكذلك يستلم الأموال والرسوم القنصلية في أوكرانيا بشكل شهري ومن ثم يودعها في المصرف.

ولا تنتهي صلاحيات حيدر هنا، بل هو المسؤول الأول عن المبالغ العائدة لنفقات البعثة من رواتب وأجور. وهو الذي ينظم كل التحويلات المالية من أوكرانيا إلى لبنان.

وفي التفاصيل التي حصلت عليها "المدن"، فإن السفير اللبناني في أوكرانيا، علي ضاهر، كان قد أرسل كتاباً رسمياً في الأشهر الماضية إلى الوزارة الخارجية وأشار فيه إلى أن هناك عملية اختلاس للمال العام في أوكرانيا، بعد أن تبين أن أموال السفارة لا ترسل إلى المصرف المركزي، بل تُحول إلى حساب شخصي في أوكرانيا. وهنا جرى تداول بعض المعلومات على أن الحساب الشخصي يعود للموظف المالي علي حيدر.

ويعني ذلك أن حيدر لم يقم بتحويل الواردات الشهرية للخزينة العامة، بالرغم من تقديمه كل المستندات التي يوافق عليها ضاهر، والتي تضم التفاصيل حول قيمة النفقات الشهرية.

عملية الاختلاس ليست حصيلة عام 2022، بل بدأت منذ عام 2019 تقريباً، وكانت النفقات ترسل إلى مصرف لبنان المركزي كل ستة أشهر وليست بشكل شهري، وتقدم المستندات الرسمية التي تضم كافة المعلومات والتفاصيل حول رسوم الخدمات التي تقدمها السفارة للجالية اللبنانية هناك. واللافت هنا، أن هذه القضية ألقت الضوء على ضعف الرقابة المالية في لبنان، والتي أكدت عدم وجود رقابة على الحسابات الخارجية وعدم وجود آلية واضحة للتدقيق في هذه المستندات، والتي لم تكن لتُعرف لو أن ضاهر لم يبلغ عن عملية الاختلاس.

من جهة أخرى، فقد علمت "المدن" بحسب المراجع القضائية أن التحقيقات القضائية من الممكن أن تظهر تورط ضاهر مع حيدر في هذه العملية.

وهنا نذكر أن ضاهر تولى مناصب رفيعة جداً في آخر عقدين، ومنها مناصب دبلوماسية في البرازيل، ماليزيا، زامبيا، أوكرانيا، ليبيا، السعودية، سيراليون. كما أنه من المتوقع -حسب بعض المتابعين لهذه القضية- أن يقوم القضاء اللبناني بتوقيف ضاهر في حال أثبتت مشاركته في قضية الاختلاس، ويعود حينها لوزارة الخارجية قرار إقالته.

وحسب مصدر قضائي لـ"المدن"، فإن أقوال ضاهر وحيدر تناقضت خلال التحقيقات الأولية، وحمّل كل طرف مسؤولية الإختلاس على الطرف الآخر. علماً أن القضاء اللبناني بدأ بالتحقق في القيمة الفعلية لايجار المنزل الذي يقيم فيه السفير اللبناني في أوكرانيا، حيث جرى تداول بعض المعلومات التي تشير إلى احتمال أن تكون قيمة الإيجار مختلفة عن تلك التي يصرح عنها السفير، ويعني ذلك أن يكون عقد الإيجار الذي يقدم للدولة اللبنانية مزوّراً.

من المؤكد أن هذه القضايا لن تكون الأخيرة في لبنان، ومع مرور الوقت سيحقق القضاء اللبناني في قضايا أخرى تتعلق بسرقة المال العام، ليتبين للشعب اللبناني أن المؤتمنين على الأموال العامة هم المتهمون بشكل أساسي.

تعليقات: