تقول الحكومة إن لبنان فاوض الأمم المتحدة في موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي واستلزم الأمر جهداً مضنياً حتى خرج النظام الأساسي للمحكمة على ما هو عليه. وإذا كان الجهد المذكور بذل، فإن أموالاً صُرفت في وزارة العدل حتى تمكّنت من بذله.
وإذا حاولنا أن نتبين ثمار هذا الجهد، فلا بد من العودة الى هذا النظام الأساسي ومعرفة ما فرضه لبنان من وجهات نظر في ثنايا هذا النظام.
ولعل ما يسهّل المهمة هو أن هناك محاكم أُقيمت في العالم وكانت دولية أو ذات طابع دولي. فإذا ما أجرينا مقارنة بينها وبين نظام المحكمة اللبنانية، فإننا نجد أموراً مهمة اشترك فيها النظام الأساسي للمحكمة المنوي إقامتها للبنان مع سائر أنظمة المحاكم المختلفة.
أما أقرب تلك الأنظمة الى المحكمة اللبنانية فهو النظام الأساسي لمحكمة سيراليون على رغم التباين الجذري في أسباب نشوء كل من المحكمتين.
فمحكمة سيراليون أُنشئت لمحاسبة مجموعة عسكرية قامت بانقلاب عسكري وارتكبت ما عُدّ خروقاً فادحة للقانون الدولي الإنساني وللقانون السيراليوني، وقد شاركت في هذه الخروق السلطات المختلفة المنبثقة من الانقلاب العسكري المذكور.
أما في لبنان فالمحكمة العتيدة تنشأ للمحاسبة على جريمة عُدّت إرهابية تمثلت في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي عدد من الاغتيالات والتفجيرات الأخرى.
فما هي نقاط التشابه ونقاط الخلاف بين كل من المحكمتين؟
في اختصاص المحكمة
تلاحق محكمة سيراليون (م1/1) كل شخص عُدّ مسؤولاً عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وقانون سيراليون، التي ارتكبت على أرض سيراليون منذ 30 تشرين الثاني 1996، بمن فيهم القادة الذين بارتكابهم جرائم مماثلة هددوا إقامة السلام في تلك البلاد.
بينما تلاحق المحكمة في لبنان (م1) الأشخاص المسؤولين عن هجوم 14 شباط 2005، ويمكن أن تلاحق من ارتكبوا الجرائم الأخرى بين الأول من تشرين الأول و12 كانون الأول 2005. وهذا الفارق أمر طبيعي نتيجة لاختلاف الجرائم المرتكبة في كل من الدولتين.
أما القانون المطبق فهو يختلف بسبب اختلاف طبيعة الجرائم، ففي سيراليون يقع جزء أساسي من الجرائم تحت طائلة القانون الدولي الإنساني (م4،3،2) وخاصة المادة 3 المشتركة بين اتفاقات جنيف والبروتوكول الثاني الملحق بها وسائر الجرائم المتعلقة بخرق قوانين الحرب. وفي هذه الحالات يطبق القانون الدولي الإنساني.
أما الجزء الآخر من الجرائم فيقع تحت طائلة قانون سيراليون (م5) ولا سيما في الأحكام المتعلقة بالعبث بالأطفال القاصرات، وتدمير الممتلكات، وفي هذه الحالات يطبق القانون السيراليوني.
أما في لبنان فإن القانون الذي يطبق (م2) فهو قانون العقوبات اللبناني ولا سيما أحكامه المتعلقة بالأعمال الإرهابية... والمادتان 6 و7 من قانون 1958 الذي يشدد العقوبات وصولاً الى الإعدام.
قوانين الإجراءات
يخوّل نظام محكمة سيراليون (م14) قضاة المحكمة أن يبلوروا قواعد الإجراءات ويعدّلوها حسب مقتضى الحال، ويخوّل نظام محكمة لبنان (م28) الصلاحية نفسها إلا أنه يقضي بالاسترشاد بالقانون اللبناني، وهذا لا يعني أن القانون اللبناني ملزم.
المسؤولية الجنائية
في محكمة سيراليون، يتحمل المسؤولية الفردية كل شخص خطّط أو حرّض أو أمر أو ارتكب أو بأي طريقة ساعد أو شجع على التخطيط أو التحضير أو التنفيذ لجريمة من الجرائم المشار إليها في هذا النظام.
وفي محكمة لبنان (م3) يرد النص نفسه، لكن تضاف إليه حالة أن يكون المرتكب فرداً من مجموعة تعمل لتحقيق هدف مشترك.
أما بخصوص مسؤولية الرئيس والمرؤوس 6 /3 من نظام محكمة سيراليون والمادة 3/2 من نظام محكمة لبنان يأتيان متطابقين، ويضيف نظام محكمة لبنان بعض التفصيلات، ويضيف نظام محكمة سيراليون بنداً عن عدم توفير الموقع الرسمي للمرتكب أي حصانة له، وهذا الأمر يعود الى أن كل النظام كان متورطاً، وهو الأمر غير الحاصل في لبنان.
ويثير نظام محكمة سيراليون مشاكل متعلقة بالأطفال (م7) وهو أمر لا يعني لبنان.
تزاحم الصلاحيات
نقلاً عن المادة 20 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، تنص المادة 8 من نظام محكمة سيراليون والمادة 4 من نظام محكمة لبنان على أولوية المحكمة الدولية على المحاكم الوطنية، وألزمت المحاكم الوطنية بأن تحيل على المحكمة الدولية كل ما يتعلق بصلاحياتها. أما في لبنان فهناك بعض التفاصيل الإجرائية والمهل.
غير أن الأخطر يفرضه النظامان على كل من سيراليون ولبنان، وهو خرق مبدأ قوة القضية المقضية، أي عدم المحاكمة على الجرم الواحد مرتين، حيث سمح النظامان (سيراليون م9 ولبنان م5)، نسخاً عن المادة 20 المذكورة في نظام المحكمة الجنائية الدولية، بأن تعيد المحكمة الدولية محاكمة من حوكموا أمام القضاء الوطني إذا رأت أن الجرم وُصّف بأنه خرق للقانون العام (العادي) أو أن المحكمة لم تكن مستقلة أو هدفت الى إنقاذ المرتكب من المسؤولية، أو أن الادعاء لم يؤدِّ دوره بالعناية اللازمة، علماً بأن الحال تختلف في سيراليون عنها في لبنان، إذ إن المحاكم في سيراليون يمكن أن تكون حكمت في بعض الجرائم وهناك داعٍ للشك في أحكامها، في حين أن محاكم لبنان لم ولن تحاكم المتهمين وأن التحقيق سيحال على المحكمة الدولية.
والى هذا تمنع المادة 6 من نظام محكمة لبنان منح العفو لأي ممن سيحكمون في الجريمة المعنية، وهو ما نصت عليه المادة 10 من نظام محكمة سيراليون أيضاً.
تشكيل المحاكم
يتماثل تشكيل محكمة لبنان م7 و8 مع تشكيل محكمة سيراليون م11 و12، حيث ستقام محكمة بداية أو أكثر مع محكمة استئناف، إضافة الى مدّعٍ عام وقلم، على أن تحوي غرفة البداية ثلاثة قضاة: قاضيين دوليين وقاضياً وطنياً، أما غرفة الاستئناف فتتكوّن من خمسة قضاة: اثنين وطنيين وثلاثة دوليين، ويضيف نظام محكمة لبنان قاضياً يسمى «قاضي ما قبل المحاكمة»، يشبه وضعه الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية.
أما تعيين رؤساء الغرف ورئيس المحكمة ومواصفات القضاة (م13 سيراليون و9 لبنان)، فهي متطابقة ويضيف نظام محكمة لبنان (م10) تحديداً لصلاحيات رئيس المحكمة.
إلا أن ما يميّز نظام محكمة سيراليون عن نظام محكمة لبنان فهو أن حكومة سيراليون هي التي تعيّن القضاة الوطنيين، في حين أن القضاة اللبنانيين يعيّنهم الأمين العام للأمم المتحدة من ضمن لائحة يقدمها لبنان.
المدّعي العام:
يتطابق النصان في موضوع صلاحيات وتعيين المدعي العام ومساعده (م15 من نظام محكمة سيراليون و11 من نظام محكمة لبنان)، ويتطابقان في موضوع القلم (م12 لبنان و16 سيراليون). ويضيف نظام محكمة لبنان ما يسميه «مكتب الدفاع» لتأمين عمل المحامين وسائر وسائل الدفاع.
وفي حقوق المتهم هناك تطابق شبه كامل بين المادة 17 من نظام محكمة سيراليون والمادة 16 من نظام محكمة لبنان، إلا أن النظام الأخير يضيف أحكاماً تتعلق:
ــ بحقوق المشتبه به أثناء التحقيق، كحقه في التزام الصمت أو حقه في مساعدة قضائية (م 15).
ــ بحقوق المجني عليهم المدنية (م17).
ــ بسير الإجراءات (م18-21) حيث يتحدث عن دور قاضي ما قبل المحاكمة والاستفادة من التحقيق الجاري الآن، وكيفية تعاطي المحكمة مع المتهمين والشهود... ثم المحاكمات الغيابية.
الحكم
يتطابق نص المادة 18 من نظام محكمة سيراليون مع نص المادة 23 من نظام محكمة لبنان حول إصدار الحكم بالأغلبية وحق المخالف بتدوين مخالفته، ويتطابق نص المادة 19 (سيراليون) مع نص المادة 24 (لبنان) حول العقوبات.
ثم يضيف نظام محكمة لبنان مادة حول تعويض المجني عليهم (م25) وهي مقتبسة من نص المادة 75 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
الاستئناف وإعادة المحاكمة
في الاستئناف تطابق حول أسباب الاستئناف المحددة بخطأ في القانون أو الوقائع، إلا أن نظام محكمة سيراليون، انسجاماً مع المادة 81 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، يضيف الخطأ في الإجراءات.
ثم يضيف ما يسترشد به القضاة وهو ما كان وارداً في السابق في نظام محكمة لبنان.
أما إعادة المحاكمة حيث يستمد النصان من المادة 84 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن النصّين يتطابقان في الأسباب وهي اكتشاف وقائع جديدة من شأنها أن تؤثر في الحكم، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر وبطريقة واحدة في النصين.
أما في تنفيذ العقوبة فيتشابه النصان (مادة 29 لبنان ومادة 22 سيراليون) باستثناء نقطة في نظام محكمة سيراليون تسمح بتنفيذ العقوبة في سيراليون نفسها.
وإذا رأت دولة السجن إمكانية العفو أو تخفيف الحكم، فعليها أن تخطر المحكمة بذلك، ولا يتم العفو أو تخفيف الحكم إلا بموافقة رئيس المحكمة (م23 سيراليون و30 لبنان)، علماً بأن المحكمة ستنفضّ بعد إصدار الأحكام، فهل سيكون هناك رئيس محكمة بعد ذلك؟
مما تقدم يتبين أنه كان يكفي أن تأتي وزارة العدل بنظام محكمة سيراليون وتحذف منه بعض الأحكام التي لا تأتلف مع الوقائع في لبنان، وتضيف بعض الأمور المستمدة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وتتفق مع الأمم المتحدة على هذا الموضوع، وتدخر الجهد والمصاريف والسفريات الى نيويورك.
* خبير في الشؤون القانونية
تعليقات: