بنكرجيّة لبنان مرتعبون: اتهام خير الدين ليس سوى البداية

يستمر وزير الماليّة يوسف الخليل بلعب دور شائك وملتبس، في سياق التحقيقات الراهنة(الأرشيف)
يستمر وزير الماليّة يوسف الخليل بلعب دور شائك وملتبس، في سياق التحقيقات الراهنة(الأرشيف)


توجيه لائحة الاتهام للمصرفي مروان خير الدين من قبل القضاء الفرنسي، لم يكن سوى البداية فقط، في مسار ملاحقة المصرفيين الذين تواطأوا في عمليّات تبييض الأموال التي قام بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.


لوائح اتهام جديدة مرتقبة

في العاصمة الفرنسيّة، يدور الكلام عن ترقّب لوائح اتهام مماثلة بحق إثنين من كبار مدراء المصارف اللبنانيّة، من فئة "ألفا" تحديدًا، خلال الأسبوع المقبل. وأحد هؤلاء، ليس سوى صاحب ومدير أكبر المصارف اللبنانيّة من حيث حجم الموجودات والرساميل. والتهم الأبرز، مشابهة لتلك التي وردت في لائحة تهم خير الدين: تشكيل عصابة أشرار، ومعاونة موظّف عام (أي رياض سلامة) على اختلاس أموال الدولة اللبنانيّة.

هذا الرعب، كان كفيلًا بدفع بعض المصرفيين اللبنانيين إلى إلغاء رحلاتهم إلى العواصم الأوروبيّة خلال الأسابيع المقبلة، خصوصًا أن عدد المصارف التي ورد إسمها في التحقيقات الأوروبيّة، والتي جرت من خلالها عمليّات متصلة بتبييض الأموال المختلسة، تتجاوز حدود الستة مصارف.

خشية هؤلاء، لم تعد ترتبط فقط بإمكانيّة توقيفهم أو إخضاعهم لمنع السفر وسند الإقامة، بل بإمكانيّة "إعدامهم مهنيًا"، بمجرّد ربط أسمائهم بتهم تتصل بإحدى أخطر قضايا الاختلاس وتبييض الأموال التي نظرت فيها النيابات العامّة الأوروبيّة في التاريخ الحديث. أمّا من جهة رياض سلامة وشقيقه، فكل ما يجري يشير إلى أنّ مسألة الادعاء عليه باتت مسألة وقت ليس إلّا.

مروان خير الدين: قصّة كراتين الأموال وتهريب الدولارات

إنّها "مافيا مصرفيّة عجيبة"، على حد قول أحد المحققين الأوروبيين الذين شاركوا في عمليّة تعقّب أموال مصرف لبنان المختلسة، عبر عقد شركة فوري.

في بنك الموارد، ثمّة حساب بإسم رجا سلامة بدأ رصيده بمبلغ 15 مليون دولار فقط، ثم تراكمت فيه الأموال المجهولة المصدر وبشكل غامض لتتجاوز قيمتها الـ 150 مليون دولار. وقبيل حصول الأزمة المصرفيّة في تشرين الأوّل 2019، اختفت الأموال من حساب، ليشير خير الدين في التحقيقات إلى أنّ رجا سلامة قام بسحبها بالنقد الورقي، ومن خلال "كراتين من الأموال".

في الحالات العاديّة، كان من المفترض أن يخضع سحب أو إيداع مبالغ نقديّة بسيطة، تتجاوز قيمتها العشرة آلاف دولار، لإجراءات خاصّة تبيّن مصدر الأموال وهدف السحب أو الإيداع ووجهته. مجرّد حصول إيداعات أو سحوبات نقديّة كبيرة، يُعتبر –بحسب إجراءات مكافحة تبييض الأموال المعتمدة في كل المصارف- علامة حمراء يفترض أن تضيء أمام إدارة المصرف.

إلا أنّ القضاء الفرنسي بات يربط اليوم ما بين تجاهل كل هذه الإجراءات، عند إتمام السحوبات النقديّة لصالح رجا سلامة، واستفادة مروان خير الدين من بعض المنافع من جانب حاكم مصرف لبنان. وهذا تحديدًا ما يجعل رياض سلامة متورّطًا في عمليّة "صرف نفوذ" لصالح خير الدين لتحصيل مكاسب شخصيّة، مقابل تورّط خير الدين بعمليّة رشوى وتواطؤ لتسهيل اختلاس الأموال العامّة لصالح رياض سلامة.

ومن المعلوم أيضًا أن خير الدين اعترف بتورّطه –بعد حصول الانهيار المصرفي- في عمليّة بيع لملايين الدولارات من بنك الموارد بسعر الصرف الرسمي، لمصلحة ندي رياض سلامة، قبل أن يقوم ندي بتحويل هذه المبالغ إلى مصارف أوروبيّة. أي بصورة أوضح، وبينما كان بنك الموارد يحجب كل الأموال عن مودعيه، كان خير الدين يقوم بتهريب هذه الدولارات وبيعها لشخص لا يملكها، أي ندي سلامة، وبسعر مدعوم مقارنة بسعر السوق الموازية (راجع المدن).


سيرة خير الدين الشائكة

وكانت تسريبات "وثائق باندورا" قد أظهرت أيضًا أن خير الدين قام بتأسيس أربع شركات في بريطانيا في كانون الثاني 2019، أي قبل أشهر قليلة من حصول الانهيار المصرفي، كما أسّس شركة خامسة مماثلة في تشرين الثاني 2020. واستعمل خير الدين كل هذه الشركات المسجّلة في الخارج لشراء عقارات وأصول استثماريّة في أنحاء مختلفة من العالم، في محاولة للالتفاف على تداعيات الأزمة المصرفيّة التي طالت مودعيه محليًا.

وورد إسم خير الدين سابقًا في العديد من الفضائح المحليّة المتصلة بتبادل المصالح مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومنها على سبيل المثال استفادة مصرفه من تسهيلات استثنائيّة بقيمة 200 مليون دولار من البنك المركزي. كما ورد إسمه كأحد المستفيدين من تحويلات بنك المدينة، دون أن يؤثّر ذلك على مسيرته المهنيّة كمدير لأبرز المصارف اللبنانيّة. وخلال العام 2020، ظهر إسم خير الدين مجددًا في ملف الاعتداء على الصحفي محمد زبيب في شارع الحمرا، حيث تبيّن أن المعتدين هم من مرافقي خير الدين.


دلالات التطوّرات الفرنسيّة

الدلالة الأولى لما يجري في باريس اليوم، هو أنّ القاضية الفرنسيّة أودي بوريسي متجهة حكمًا إلى توجيه لائحة اتهام رسميّة وادعاء كامل على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأنّ الملف لن يتجه إلى اللفلفة في القريب العاجل.

فمجرّد اتهام مروان خير الدين بالتواطؤ في عمليّة اختلاس المال العام اللبناني، التي تورّط فيها حاكم مصرف لبنان وشركاؤه، يعني تلقائيًا أن القاضية تملك ما يكفي من معطيات ستدفعها لاتهام رياض سلامة نفسه بهذا الملف. وإلا لا معنى لاتهام خير الدين بالتواطؤ لتسهيل هذه العمليّة، إذا كانت القاضية لن تتهم حاكم مصرف لبنان نفسه بهذه الشبهات. مع الإشارة إلى أنّ بورسي كانت قد وجّهت أساسًا تهم مماثلة لصديقة الحاكم الأوكرانيّة آنا كوزاكوفا، ما يعطي نفس الدلالات.

الدلالة الأخرى، ترتبط تحديدًا بمستقبل القطاع المصرفي المحلّي وسمعته الدوليّة، وسمعة رموزه. فبعد أن أطاحت خسائر القطاع المتركمة بميزانيّته، ستطيح هذه الادعاءات –وخصوصًا إذا شملت كبار رموز القطاع خلال الأيّام المقبلة- بالمستقبل المهني لهذه الرموز.

وكل هذه التطوّرات ستفرض وتعزّز الاتجاه مستقبلًا لإعادة الهيكلة الشاملة للقطاع، بل وتصفية الكثير من رساميله الحاليّة المرتبطة بأسماء لن تكون قادرة على العمل في قطاع مالي طبيعي متصل بالنظام المالي العالمي. ومن المهم الإشارة إلى أنّ تهم تسهيل عمليّات تبييض الأموال بالتحديد كفيلة بإحالة هؤلاء المصرفيين إلى التقاعد المبكر.


دور وزير الماليّة

في الوقت الراهن، يستمر وزير الماليّة يوسف الخليل بلعب دور شائك وملتبس، في سياق التحقيقات الراهنة. فبعد أن رفض الوزير منح موافقته على مواكبة وزارة الماليّة لادعاء الدولة اللبنانيّة على رياض سلامة، وبعد أن عملت هيئة القضايا على هذا الادعاء دون موافقته بناءً على اجتهاد قانوني، تحجج فريق الدفاع عن سلامة بهذا الواقع لتدقيق دفوعه الشكليّة الأخيرة، وهو ما أدّى إلى تأجيل التحقيق مع سلامة إلى شهر نيسان المقبل (راجع المدن). أمّا المشكلة الأهم، فهو أنّ هذه الثغرة هي تحديدًا ما يمكن استخدامه في أوروبا، لعرقلة محاولات هيئة القضايا ضمان حق الدولة اللبنانيّة في الأموال المختلسة والمحتجزة حاليًا لصالح الأوروبيين، عبر دخول الدولة اللبنانيّة على خط الادعاء.

في خلاصة الأمر، سيكون الأسبوع المقبل حافلًا بالتطورات المثيرة على مستوى الادعاء على المصرفيين اللبنانيين الذين تورّطوا في كل ما يتعلّق بملف شركة فوري. أمّا الأهم هنا، فهو السؤال عن مصير حاكميّة مصرف لبنان، بمجرّد بلوغ الملف مرحلة الادعاء على رياض سلامة نفسه. هل سيستمر الحاكم الملاحق، في القضاء الفرنسي، بتوقيع الاعتمادات وطلبات التحويل الصادرة للمصارف المراسلة؟ وهل تملك السلطة اليوم أي بديل أو مخرج؟

تعليقات: