40 ألف لاجئ عراقي في لبنان: النزوح يتزايد إلى حياة تضيق مساحتها

العنف الطائفي من ورائهم والفقر من أمامهم... وآمال السفر مدججة بالارتياب

خطف، تهديد، قتل، جثث أحبة تنبش تحت ستار الليل، وتُشرى «حقوق» وداعها بشكل لائق من مافيات «الدفّانين». سيناريو من العراق!

«خدمات» تهريب بحسب الميزانية: إما سيارات تلتف بركابها من حول الحدود اللبنانية ـ السورية الرسمية لتوصلهم إلى بيروت. وإما المشي لساعات تحت طائلة الروايات عن «المافيات المضادة»، التي تقطع طرق القوافل المتعبة لتقبض «خوات» المرور في «أراضيها». وليست أقل الأخبار تلك القائلة بحبوب منومة تعطى للأطفال، درءاً لخطر بكاء أحدهم في لحظة «عبور» حرجة. سيناريو «بديل» يمهر بداية حياة اللاجئ العراقي في لبنان.

مآسٍ عراقية «وطنية»، تفضي إلى مآسٍ عراقية «مصدّرة». في ظل حكم صدام حسين، تعددت أسباب الهاربين من أحضان أحيائهم الأليفة وعائلاتهم المفقَّرة، وكان التعب واحداً. وفي العام الأخير، الذي شهد تزايداً ملحوظاً في أعداد اللاجئين العراقيين، يبدو أن الأسباب تفاقمت، وتوالدت الأخطار أخطاراً، حتى قاربت تفاصيل الترحال غير الشرعي أنماطاً... ملحمية.

الكل ضحية، ولكل قصة «أشرارها». بين الكل والكل دم، أو تلويح بإراقته بارداً، كما يروون. طوائف اللاجئين العراقيين مصفّاة ـ تقريباً ـ بجغرافيا النزوح إلى لبنان: غالبية المسيحيين في حي الزعيترية في محيط الفنار ـ سد البوشرية، غالبية الشيعة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وغالبية السنّة في صيدا أو طرابلس... وتعنى القوى أو الجمعيات أو الهيئات الدينية «المحلية» بتجمعات «لاجئيها» ـ أشباهها في الإيمان. السفر إلى بلد أوروبي حلم، مسكون بأشباح الريبة. الشك والحذر سمة عيش العراقي. والأسوأ ـ نعم الأسوأ ـ من المكوث في سجن رومية لأشهر، هو ترحيل اللاجئ العراقي إلى بلاده، إذ تقع عائلته هنا في الحيرة: هل تلحق بالابن أو المعيل؟ أم تنتظر عودته مهرباً، مرة أخرى، وبكلفة جديدة؟

تحت الباب رسالة تهديد

في وقت مبكر من بعد الظهر في منطقة حارة حريك، «مطعم الخيام» شبه فارغ. تنقضي سريعاً استراحة الغداء التي يقبل خلالها العمال العراقيون في المنطقة على الأطباق اليومية العراقية والإيرانية. صاحبة المطعم سيدة إيرانية مسنّة، أتت إلى لبنان مع زوجها العراقي إبان الحرب بين دولتيهما، وهي تعرف زبائنها جيداً. تدل إلى شاب يتناول وجبة من الأرز المطهو بالزعفران وإلى جانبه صدر دجاج. اسمه رياض، ويعد بتدبر لقاء مع صديق أتى إلى لبنان قبل أربعة أشهر، مهرَّباً طبعاً. الوافدون الجدد أقدر على نقل مستجدات النزوح وأحدث تداعياته. في طريقنا إلى عمّار، الذي وفق بوظيفة ناطور بناية قريبة ويشغل مع زوجته وطفله غرفة أرضية، يخبر رياض مغتبطاً إنه تدبر أخيراً أمر إقامته الشرعية في البلد، بكلفة ألف ومئتي دولار (ما بين تسوية أوضاع في الأمن العام، ومعاملات وزارة العمل، وكلفة تجديد الإقامة سنوياً). يحسم صاحب المطعم، الذي يعمل لديه في جونيه، المبلغ أقساطاً من راتب الأجير (300 دولار)، وذلك من دون احتساب مبلغ الألف دولار الذي يودعه «الكفيل» في المصرف كتأمين. يؤمن رب العمل، قرب المطعم، مسكناً لرياض الذي يؤكد أن العراقي «ما زال مرغوباً في «الشرقية»، يفضلونه على السوري والمصري، ويقدرون المعلّم، كما أن الزبائن أكرم في البقشيش، صحيح أن الشيعة مرحب بهم في الضاحية، لكن الدخل هناك أفضل، خصوصاً لمن يملك مؤهلات فندقية مثلي».

يلاحظ رياض ارتياحاً بادياً على وجه عمّار الذي «عبر»، قبل أسبوع، إلى العراق لإحضار زوجته وطفله البالغ من العمر عامين. رحلة تهريب في اتجاهين: ذهاباً لشخص واحد بمئتي دولار، وإياباً ـ مع العائلة الصغيرة ـ بأربعمئة دولار. بعد الاطمئنان، يعرف عمّار (31 عاماً) عن نفسه: «أنا شيعي من جنوب العراق، محافظة الديوانية»... «تطوعت في الجيش بعد سقوط النظام، قلنا حان الوقت لنخدم بلدنا، وخدمت سنتين. كانت أحوالي جيدة، بل أفضل مما كانت عليه عندما كنت أعمل مع والدي في تجارة الخضار. صار دخلي حوالى 500 دولار في الشهر، وامتلكت سيارة. التجأت مؤخراً إلى أهل زوجتي في جنوب العراق، بسبب ظروف الإرهاب، وتدبرت تهريبي إلى هنا». و«ظروف الإرهاب»؟ يقول إنها بدأت قبل ثلاث سنوات، حينما قتل أخوه الذي كان يعمل مترجماً مع الأميركيين: «حتى أننا لم نتسلم جثته، تلقينا اتصالاً، أخوكم راح، وأقفل الخط». وأخيراً، كانت رسالة بخط اليد، ألقاها أحدهم تحت باب بيت «الجندي»، تهدد بقتله وعائلته، إذا لم «يغير الخط الذي يمشي فيه».

لم يمش عمّار عبر الحدود اللبنانية. جنّبته أمواله المدخرة هذه المشقّة، إذ أجزل الدفع لمهرّبه. دخل إلى سوريا وخرج منها نظامياً، كما كل العراقيين المهرّبين، فهذا سهل وقانوني إذ لا يتطلب تأشيرة دخول. وبين الدخول والخروج اتصالات أمّنها له أصدقاء: «لا أحد يعرف رؤوس شبكات التهريب، يحوّلونك من شخص إلى شخص ومن اتصال إلى اتصال، ولا نلتقي سوى بالسائق، يقولون لنا إننا نمر عبر وادي خالد، لكن مَن يدري؟ فالدنيا ليل، والسيارات المتبدلة تدور بنا وتدور، من بعد اجتياز الحدود السورية بثلاث ساعات وصلنا إلى بيروت. نسمع أن قطّاع الطرق يأخذون أحياناً خوّات إضافية، لكننا الحمد لله لم نتعرض لهذا الموقف». مدخرات عمّار تشح الآن. راتبه مئتا دولار، ترفده إعاشة شبه شهرية من مكتب محمد سعيد الحكيم في بيروت. حول شفتي طفله حساسية لا يعرف سببها. كلّفته زيارة مستوصف قريب وصيدلية في الضاحية خمسين ألف ليرة: «لم يستفد الولد، ولا أستطيع أخذه مرة ثانية في الشهر ذاته، لقد صرنا فقراء بين يوم وليلة».

قدّم عمّار أوراقه إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بيروت. يقول إن لديه وثائق تثبت إنه كان عسكرياً وأنه مهدّد، وهذا في رأيه يزيد من فرصه كلاجئ سياسي في مكان ما في أوروبا، عندما تفتح دولة مضيفة أبوابها لأصحاب الطلبات.

لكن كلام عمّار عن آمال السفر له نكهة أخرى في أفواه عراقيين آخرين. فبعد أكثر من نصف ساعة من الدردشة مع كريم (24 عاماً) عن ظروف حياته، قبل تهريبه وبعده إلى لبنان، يقترب خافضاً صوته: «أنا لم أتقدّم من الأمم المتحدة بطلب لجوء، سمعت أنهم يسربون لوائح الأسماء إلى السفارة العراقية، وهذا يعني أنها تصل حكماً إلى السلطة الحاكمة في العراق، وأنا مهدد هناك بالقتل! فهل أسلمهم رقبتي على صحن من فضة؟». وهنا قصة كريم، من أولها...

اسم جديد ومذهب «سرّي»

لكريم ثلاثة أشقاء قتلوا خلال العام الماضي، وابن عمه أيضاً. والده وشقيقه الأكبر مخطوفان منذ ثمانية أشهر ولا أحد يعرف عنهما شيئاً. والدته وشقيقتاه يعشن في بيت، «ثمة من يسعى إلى ترحيلهن منه»، على ما يقول. جاء إلى لبنان، مهرّباً، قبل أربعة أعوام، وهرب بعد 13 يوماً من اندلاع حرب تموز، لأنه بقي وحيداً في بيت في الضاحية، مكوّن من غرفتين، ويشغله مع ستة أفراد عراقيين، إذ «لم تعد هناك محلات أكل وشرب، وطبعاً لا عمل». عاد كريم بعد انتهاء الحرب، بمئة وعشرين دولاراً للمهرِّب، وفوقها سبع ساعات من السير على قدميه. يرسل إلى عائلته 150 دولاراً في الشهر، هي نصف دخله الشهري من العمل في مطعم في الضاحية. من الباقي، يدفع الإيجار ويبقى على قيد.. قوته. هناك المزيد. الكلام مع كريم يفضي إلى كلام «أدق». يبدو «متساهلاً» في مسألة ذكر اسمه في الجريدة. يتضح، بعد أخذ ورد، أنه ليس اسمه الحقيقي، وأنه «اخترعه» ليخفي اسمه الحقيقي و... مذهبه. سنّي يعيش مع ستة شبان شيعة في بيت واحد، ورب العمل أيضاً شيعي، وكريم يريد أن «يحفظ رأسه»، كما يقول. هذا لا يعني أن خطراً حقيقياً يتهدّده، لكنها طريقته في استيلاد إحساس ما بالأمان. هو في الأصل حلاق رجالي، وأول وصوله إلى بيروت عمل في صالون يملكه «شخص من كربلاء»، لكن المشادات الكلامية بينهما أفقدته عمله بعد شهر واحد: «هكذا أفضل، أبقى في حالي، حتى الأشخاص الذين أعيش معهم لا يعرفون عني الكثير، هم مرتاحون على أوضاعهم، قبضوا بعد الحرب تعويضات عن محلاتهم المستأجرة، وأنا ليس لي سوى راتبي، لم أعد أتحدث إلى أحد كي لا أفقد لقمة العيش، وربما حياتي!». هو الرعب يتأصل في النفس. لا يهم إن كان مبرراً، فلحضوره في حد ذاته شأن. الخوف إيقاع حياة كريم في الأحوال كافة. لكن، كيف ينوي الاستمرار في التستر على اسمه ومذهبه الحقيقيين؟ ألا تنكشف هذه الأمور بعادة أو طقس ديني، أو حتى بزلّة لسان؟ يغالي كريم في حرصه، و«الاتكال على الله» إجابته القدرية. يصمت لثوان كمن ذهب بأفكاره إلى «محمية» ما، ثم يقول: «أحياناً أشعر أن هناك أملاً في تحسن حياتي فأسافر إلى بلد استقر فيه وأعيش وأساعد أهلي، لكني أرجع وأحس بأني أبني أحلاماً في الرمل، نحمد الله ونشكره». حلم وردي بالسفر، ومُهاب: «بعد القتل والخطف الذي حصل في عائلتي، لا أخاطر بتقديم طلب».

«المخاطرة»، بالنسبة إلى كريم، تتمثل في مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بيروت، والذي تؤكد مسؤولته الإعلامية لـ«السفير» وتكرر إن لوائح الأسماء لديه سرية تماماً، ولا أحد يطلع عليها، وتبقى في المكتب، بين من يجري المقابلة وبين طالب اللجوء. وتشدّد المفوضية على أنها تعي تماماً ظروف طالبي اللجوء ومخاوفهم، ولهذا السبب بالذات لا تتهاون في مسألة السرية والحرص على سلامة اللاجئين.

منذ عهد صدام

وإذا كانت التهدئة من روع كريم شبه مستعصية، فالعكس ينطبق على ع.أ. (37 عاماً) الذي بدأت حياته في لبنان تتخذ منحى طبيعياً، للمرة الأولى منذ العام ,2001 بعدما تنقل، منذ العام ,1992 ما بين الأردن ومصر وليبيا وتركيا ورومانيا وصنعاء وسوريا: «كل بضعة أشهر ننفق ما ادخرناه من أموال لنشتري تذكرة طائرة إلى بلد جديد، وإذا انمسكنا (اعتقل) يرحّلونا إلى العراق، وهناك البهدلة، يعني 3 إلى 4 سنوات حبس على الأقل». جُنّد ع.أ.، ابن 18 عاماً، في الجيش العراقي، أيام حكم صدام، «وضاعت أحلى سنوات العمر، ثمانية أعوام ونصفاً»، بدل الستة والثلاثين شهراً «الرسمية»، و«في ناس ظلوا 12 عاماً!»، كما يقول. أخيراً، ومنذ شهر واحد، تزوج ع.أ. من لبنانية، وصارت إقامته شرعية، كما عمله في مشغل للخياطة في الضاحية: «بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية ظننا أننا سنعيش، سرحونا من الجيش، ثم جاء الحصار الاقتصادي، كان عندي محل أدوات احتياطية كهربائية وكنت شريكاً في محل تطريز لانجري نسائي، صرنا نبيع البضاعة ولا نشتري بسبب الغلاء. وكل ما واحد يعمل مشروع لازم يفوت معه ابن ذوات من الدولة. تدهورت الأحوال، حتى إذا مسكوا واحد في الشارع وكان ناسي بطاقة هويته في البيت، اعتقلوه، ويدور أهله يفتشون عليه».

بين عهد صدام وبين الفوضى القتّالة الراهنة، تختلف الأسباب، وتبقى الآلام. توفيت شقيقة ع.أ.، قبل حوالى عشرة أعوام، جراء معاناتها مع مرض الربو، ولا علاج متوفراً، بل إنها أعطيت في المستشفى «حقنة مميتة عن طريق الخطأ». واليوم، «كل ما إحكي تليفون على العراق يقولون لا ترجع الوضع تعبان. زوج أختي وأخوانه ماتوا في انفجار سيارة مفخخة. وماتت زوجة أخي وابنته في إشكالات مسلحة بين شيعة وسنّة، قبل حوالى سنة ونصف. أخي بدو يطلع على سوريا، لكن هناك أيضاً بهدلة وغلاء، والعين محمرّة من العراقيين لأن (بعض المواطنين) السوريين يعتبرون أنهم (العراقيين) يسرقون فرص العمل وتتسبب أعدادهم الكبيرة في غلاء الإيجارات، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار البضائع الداخلة والخارجة بحرية عبر الحدود. وفي لبنان أيضاً الإقامة مكلفة... يبقى أخي في العراق على مضض، وأنا أحاول أن أساعد من هنا قدر المستطاع».

لم يتقدم ع.أ. بأوراقه إلى مفوضية اللاجئين في بيروت: «نسمع إشاعات تجعلنا حذرين، وحتى لو لم تكن صحيحة أنا لا أستطيع العيش بغير لغتي وعاداتي، أشعر هنا أني بين ناسي، والآن الحمد لله صرت شرعياً». وبالرغم من شرعية وجوده في لبنان، لم يغير ع.أ. من عادته في التنقل داخل بيروت «مثل شبح»، معتبراً أنه لم يُمسك على حاجز طيّار لقوى الأمن بسبب الحظ الذي لم يحالف مثلاً ابن خاله، الذي سجن وتم تسفيره. في خلال ستة أعوام، لم يخرج ع.أ. من الضاحية سوى مرتين: مشواران خطران من أجل نزهة قصيرة، يوم الأحد، في عين المريسة.

«الحي المسيحي»

يوم العطلة. الساعة تقارب الحادية عشرة. تترامى عظة الأحد، بالعربية العامّية، إلى مسامع بعض الشبان الواقفين أمام كنيسة «أم المعونة الدائمة»، في حي الزعيترية (سد البوشرية ـ الفنار). ينتظرون خروج الأهل من القدّاس المقام باللغة الكلدانية. هنا حي كامل، أشبه بتجمّع «سكني» للاجئين العراقيين. بيوت هي بالكاد بيوت. مياه تسرح في الأرض. أسقف وأدراج عشوائية. الفقر وجه العمران. الأولاد موضوع العظة: إنهم نعمة من نعم الله، المدرسة ضرورية إلى أن يشتد عودهم، إرسالهم إلى العمل للمساعدة في المصاريف شبه خطيئة، لا أحد يقول إن هذا سهل، بل هو صعب جداً، لكن بالإيمان والصلاة كل شيء ممكن...

بلاد (18 عاماً، يعيش في لبنان منذ ستة أعوام) وداني (19 عاماً، هنا منذ 14 عاماً، ويحمل بطاقة صادرة عن مفوضية اللاجئين تجدّد كل ستة أشهر) يتحدثان باللهجة اللبنانية الدارجة. يقولان إنهما، في البيت، «يقلبان» إلى اللهجة العراقية، أو حتى اللغة الكلدانية التي تعلّماها من الأهل ويجيدان التحدث بها، من دون قراءتها أو كتابتها. لم ينه الشابان المرحلة المتوسطة في المدرسة الملاصقة للكنيسة. بلاد يصلح السيارات في ورشة قريبة. والده نجار، وقد تكفلت كنيسة السريان بتدبر إقامة شرعية له ولابنه الأكبر. العملية مكلفة، ولم تشمل أمه وشقيقتيه اللتين تعملان في فرن ومشغل خياطة. لكنها ضمانة العائلة. فإذا تم توقيف بلاد (لأن الفتيات قلما يُسألن)، فمن المرجح إطلاق سراحه بإقامة الوالد.

يعتبر بلاد وداني نفسيهما محظوظين لأنهما أكثر استقراراً من غيرهما. يستحضران أخبار اعتقال رفاقهما أو آبائهم: من المخفر إلى بعبدا، ثم إلى سجن رومية، ثم الترحيل إلى العراق. فإذا كانت الأسرة تملك المال الكافي لشراء تذكرة الطائرة، كان بها، وإلا فإن على الشخص الانتظار في السجن حتى تكتمل «الوجبة» (وهذه التسمية المتداولة للمجموعة المقرر ترحيلها)، فتأخذهم السفارة العراقية أو المطرانية بالبولمان. وإذا كان الشخص رب عائلة، يجب على عائلته تدبر أمر اللحاق به إلى العراق، أو الانتظار، بلا معيل، ريثما يعود إليها مهرّباً مرة أخرى».

يخرج مازن شعيا (40 عاماً) من القدّاس مع طفلتيه. مسيرة خمس دقائق تفصل الكنيسة عن بيته ـ الغرفة، حيث تنتظر الزوجة الشابة مع ابنها الرضيع. يقول إنه استأجر «هذه الزريبة»، بمئة وعشرة دولارات في الشهر، بعدما مكث لفترة عند عمّة زوجته في الحي نفسه. يدفع 13 ألف ليرة شهرياً للغاز، و15 ألف ليرة للكهرباء. راتبه، كحمّال، مئتا دولار. وعليه أن يعيش بما يتبقى منه، مستعيناً بإعاشة شبه شهرية من «كاريتاس» أو غيرها من المؤسسات الخيرية في المنطقة. اشترى ثلاجة صغيرة ومروحة. أما باقي مستلزمات العيش، من «فرشات» وخلافه، فقد «أتتنا كصدقات».

حكاية مازن تعاند الخيال. لكن جولتنا، وإن سعت إلى عينات عشوائية من الحالات، تكرّس كل ما هو أقصى «ميزة» للروايات العابرة من العراق: «كنا نعيش في المنطقة الخضراء عندما كانت مستهدفة أمنياً. ولما صارت مؤمّنة تسلمنا كتاباً من الأمانة العامة لمجلس الوزراء لإخلائنا في بداية العام الماضي (يبرز مازن الكتاب المذكور والذي يحتفظ به في ملف سميك، ملفوف بكيس نايلون، مع الكثير من الوثائق التي أنقذها من أتون الفوضى على أمل أن تنقذه بدورها كلاجئ إلى خارجها). أرادوا المساكن للمقربين من الحكم. انتقلنا إلى منطقة بغداد الجديدة. هناك شكّت بنا الميليشيات على أننا جواسيس. طلبوني للتحقيق فماطلت، ومرة وجدنا كيساً مفخخاً أمام الباب. انتقلت إلى بيت أخي. أتوا لأخذي فلم يجدوني، فأخذوه مكاني. فتشت عليه 16 يوماً. أخيراً عثرت على صورة لجثته، بين مئات الصور، في ملفات وزارة الصحة. أردت دفنه بشكل لائق. وصلت إلى الدفّان الذي تولاه، في كربلاء، وعرفت أنه يتقاضى المال من الميليشيات للتخلص من الجثث كيفما اتفق. طلب منا خمسة آلاف دولار، وساومناه إلى 1500 دولار. ذهب إليه أخوتي منذ الصباح فماطلهم حتى العاشرة ليلاً. ثم أخذهم إلى المكان وبدأ الحفر. فتحوا الأكفان، وعلى ضوء الموبايل تعرفوا إلى الجثة. طلعوا عليهم ميليشيا ضربوهم وقيدوهم وكانوا سيقتلونهم. في هذه اللحظة كنت أتصل بموبايل أخي. رد عليّ الخاطف، وصار يطرح أسئلة كثيرة ليتأكد من مذهبنا، ثم أخذت زوجة أخي الهاتف وصارت تبكي وتحلّف المسلح بكل مقدّساته ليتركهم، وهي تقسم له أنهم مسيحيون. لا أعرف بأي أعجوبة اقتنع بالإبقاء على حياتهم حتى الصباح. لم نصدق. وصرنا نتصل بالموبايل نفسه كل خمس دقائق لنطمئن. عاد أخوتي في الصباح منهارين وغارقين في دمائهم بعدما أمضوا ليلة طويلة ومرعبة في المقابر».

هكذا، قرر مازن أنه لن يبقى وسط هذا «الجنون»: «أخذت فيزا نظامية من السفارة اللبنانية، ثلاثة أشهر بمئة وأربعين دولاراً، كنت قد سمعت أن العائلات، لا سيما المسيحية منها، تحصل على الفيزا بسهولة، والله أعلم. لقد تجاوزنا الآن مدة الفيزا بشهر، قدّمت على السفارة الأسترالية ورفضوني، وعندي موعد قريب في مفوضية اللاجئين».

كان مازن، في العراق، شريكاً لأشقائه في ثلاثة محلات بيع دواليب تؤمن له حوالى ستمئة دولار في الشهر. تدهور من طبقة وسطى في العراق إلى تقبّل «الصدقات» في لبنان. لم تذهب ابنتاه ليديا (8 أعوام)، وميرنا (7 أعوام) إلى المدرسة منذ عامين، بسبب أوضاع العائلة وتنقّلها المستمر من منطقة إلى أخرى: «لكن... في العام المقبل إن شاء الله، فالجاهل في هذا العالم أعمى».

أيقونات الرجاء الأخير

دفتر علامات مدرسية يستند إلى إطار الصورة المعلّقة بعناية في صدر «الدار». لا تسقط أرقامه عن 85 أو 90 في المئة: «إعدادية الرواد للبنين... رامي صباح إسراينكا... الصف الخامس ـ علمي... العام الدراسي 2005ـ2006»، الشهادة مذيلة بتوقيع مدير المدرسة، الذي «خص» عائلة رامي بتعليق إضافي: «مع أحر التعازي باستشهاد ولدكم».

صورة رامي معلّقة، كما عمره، على ستة عشر عاماً. تتشبث بها أيقونات لا حصر لها. مثل قلادة حول عنق الفتى، تتدلى السبحة البيضاء الطويلة، «شرّابتها» وجه العذراء الحزين يفضي إلى صليب. وردة بلاستيكية حمراء. المسيح المغدور في لوحة عشائه السري. قلما يخلو بيت في «الزعيترية» من علامات الرجاء الأخير تلك. لكنها في بيت آل إسراينكا تتخذ معنى إضافياً، يؤكده حبل الغسيل الظاهر على الشرفة، حيث تتلاصق الثياب النظيفة «ناصعة» السواد، في ما خلا قميص نوم أزرق فضفاضاً و«فانيلات».

القصة عند كريمة، أم رامي، قصيرة: «كنا في منطقة بغداد الجديدة، حيث عشنا 12 عاماً، تلقى زوجي تهديداً، لأنه يبيع الكحول في دكانه، لكنه لم يأخذه على محمل الجد، ثم خطفوا رامي وقتلوه. لم يعد لي سوى ابني الكبير (26 عاماً) وابنتيّ (22 و19 عاماً). هل انتظر ليقتلوا الشاب الوحيد المتبقي؟ هربنا إلى هنا».

كريمة الغارقة في حدادها لا تقوى على أبسط الأعمال المنزلية. الأب فاقد السمع، مريض بالضغط و«أشياء كثيرة»، ويبقى في البيت. وجد الابن «الوحيد» (بكالوريا كهرباء) عملاً في سوبر ماركت. تخرج الفتاتان في السابعة والنصف من كل صباح إلى مشغل الخياطة، وتعودان في السادسة والنصف مساء، فتنظفان وتغسلان وتطهوان: «ما ناكل ونشرب على هوايتنا، لحم ودجاج ما ناكل، أكثر شي أرز وبطاطا. ننتظر سيارة الخضار لأن أسعارها أرخص من الدكان الذي في الحي».

لا تعاشر الفتاتان أحداً، ولا تحضران حتى القداس الأسبوعي الذي تواظب عليه الأم. تقول إحداهما إنها لا تريد أن يراها أحد بالنظارات الطبية التي باتت ترتديها مؤخراً. تتدخل كريمة دائماً: «كلنا خاطرنا مكسور، نقعد في المساء أمام الصورة ونبكي». لكن النظارات ليست سبباً وحيداً على ما يبدو، ولا حتى الحداد الذي تعممه الأم على خواطر ابنتيها. ينحسر الكم الأسود القصير عن ذراع الفتاة «المبقعة» بالبنفسجي المنحاز إلى سواد. ولدى سؤالها، تحضن نفسها أوتوماتيكياً وتقول إنها حرقتها بالشاي، «وبطني أيضاً احترق». لم تقصد مستوصفاً، وعالجت نفسها بمرهم. لا تريد الخروج من البيت إلا للعمل، والأهل يزكّون الفكرة.

هكذا تضيق مساحة الحياة.

هكذا يعيش الأحياء مع أمواتهم والمغيّبين والوساوس.

هكذا هي، كما قال كريم، الأحلام المبنية في الرمل.

تعليقات: