تكليف البلديات بإحصاء «النازحين» السوريين: أجهزة الأمن تعرف أكثر

ليس لدى الدولة اللبنانية داتا مفصلة للنازحين السوريين (علي علوش)
ليس لدى الدولة اللبنانية داتا مفصلة للنازحين السوريين (علي علوش)


عممت مراكز محافظات لبنان، وخصوصاً تلك التي يقطنها النازحون السوريون، على مختلف بلدياتها، توجيهات وزير الداخلية بإطلاق "إحصاء دقيق وشامل حول أعداد مخيمات النازحين السوريين، والقاطنين فيها، بالإضافة إلى مستأجري الشقق السكنية". حيث ورد تعميم وزير الداخلية بسام المولوي، في واحد من ثلاثة كتب، تمحورت حول ملف النازحين، الذي تحاول الدولة اللبنانية استعادة زمام المبادرة فيه، بعد أن خلّفت الموضوع "للانفعالات الشعبية" لأكثر من عشر سنوات ماضية.


كتب المولوي والإحصاءات

وفي الكتاب الأول للمولوي، توجيهات للمحافظين ومن خلالهم إلى القائمقامين والبلديات والمخاتير في القرى التي لا توجد فيها بلديات ويقطن فيها نازحون سوريون، لإطلاق حملة مسح وإحصاء وتسجيل شامل لأعداد النازحين السوريين، والقيام بتسجيل كل المقيمين ضمن نطاقها.

وطالب المولوي من المخاتير أيضاً في الكتاب نفسه، عدم تنظيم أي معاملة أو إفادة لأي نازح سوري قبل ضم ما يُثبت تسجيله، والتشدد في عدم تأجير أي عقار لأي نازح سوري قبل التثبت من تسجيله لدى البلدية وحيازته إقامة شرعية في لبنان، وكذلك إجراء مسح ميداني لجميع المؤسسات وأصحاب المهن الحرة التي يديرها النازحون السوريون والتثبت من حيازتهم التراخيص القانونية.

فيما توجه المولوي في كتابه الثاني إلى وزارة العدل، طالبا عدم تحرير أي مستند أو عقد لأي نازح سوري، من دون بيان وثيقة تُثبت تسجيله في البلدية.

ليتوجه الكتاب الثالث إلى المفوضية العليا للاجئين لحثها على التجاوب الفوري مع إقفال ملفات النازحين السوريين الذين يعودون إلى بلادهم طوعاً، وعدم إعادة فتح ملفاتهم حتى لو عاودوا إلى لبنان، بالإضافة إلى التأكيد على أن ورقة اللجوء لا تعد إقامة، وتزويد المديرية العامة للأمن العام بـ(داتا) مفصّلة للنازحين السوريين.

والداتا المفصلة للنازحين السوريين تشكل المحور المشترك بين الكتب الثلاثة، والتي لا يبدو ان مفوضية اللاجئين قد تجاوبت حتى الآن في تقديمها للسلطات اللبنانية، على رغم تحديد الاجتماع الوزاري المصغر الذي انعقد في الأسبوع الماضي مهلة أسبوع واحد فقط، لتسليمها إلى السلطات اللبنانية الرسمية.

ولا تزال الأرقام المتداولة عن المفوضية، تنحصر بالمسجلين لديها، علماً أنها تذرعت أكثر من مرة أنها أوقفت تسجيل النازحين بناء لطلب من الحكومة منذ سنة 2015. غير أن العارفين باستراتيجيات عمل المفوضية، يدركون حاجتها الدائمة لتحديث معلوماتها مع كافة المنظمات والهيئات العاملة ميدانياً، بهدف تأمين تدخلات علمية سليمة في مختلف تجمعات النازحين.


العبء على البلديات

وعليه، تشرح أوساط معنية أن كتابي وزير الداخلية الأول والثاني يعكسان عدم ثقة السلطة الرسمية اللبنانية من تجاوب المفوضية في تقديم الداتا الكاملة حول النازحين المتواجدين بمختلف الأراضي اللبنانية. فيما تعتبر هذه الأوساط بأن السلطة الرسمية اللبنانية بحاجة ماسة إلى هذه الأرقام، لتنطلق في مفاوضاتها على مصير النازحين، سواء مع الهيئات الأممية أو مع السلطات السورية. ومن هنا جاء رمي كرة النار في أيدي دوائر المحافظات والبلديات، بمحاولة لتجزئة المهمة، وصولاً إلى إنجازها في أسرع وقت ممكن. الأمر الذي يرى المعنيون في البلديات أنه سيقحمها بمهمات تفوق طاقتها، وخصوصاً بظل الظروف المالية الصعبة التي يرزح تحتها معظمها، وعجز بعضها عن تسديد رواتب موظفيها والشرطة البلدية الذين ستضاف هذه المهمة إلى مهماتهم.

والمعلوم أن محاولة الدولة اللبنانية لجمع الداتا حول أرقام النازحين السوريين ليست الأولى. وعلى رغم سياسة النأي بالنفس التي انتهجتها في بداية هذا النزوح، مخلفة القرار باستقبال النازحين للمجتمعات التي أبدت حماسة كبيرة لاحتضانهم في البداية. فقد أطلقت الحكومة اللبنانية حملة مشابهة في سنة 2018، عممت خلالها أيضاً على البلديات ضرورة إحصاء أعداد النازحين. إلا أن هذا الأمر ما لبث أن تراجع من أولويات السلطة الرسمية في بداية الأزمة الاقتصادية، وما رافقها من تحركات شعبية. فتناستها الدولة كلياً أثناء فترة الحجر الصحي إثر جائحة كورونا، ليتحول من بعدها إلى شماعة علقت عليها كل فشلها في إدارة الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وكانت السلطات الرسمية قد حاولت إعادة إحياء حملة تعداد السوريين أيضا في العام الماضي، بعيداً عن الضجة الإعلامية التي تثيرها حالياً.. حين ألقت المهمة أيضاً على عاتق البلديات، مزودة إياها بنموذج عن الأمن اللبناني لاستمارة "المعلومات الشخصية". وتضمنت معلومات شخصية مفصلة عن النازح وعائلته، وضعه في سوريا، والوضع الأمني للمنطقة التي يأتي منها، ووضعه في لبنان، ونوع إقامته وطريقة دخوله، وإذا كان له أقارب في لبنان، كيفية تأمين معيشته، عنوان عمله، وما إذا كان مسجلاً كنازح. كما تتضمنت الإستمارة أسئلة عامة عما إذا كان يتردد إلى سوريا، أو كان قد أوقف سابقاً في سوريا أو لبنان، أو لديه أقارب موقوفين في لبنان أو سوريا، لتنتهي بسؤال مالئ الاستمارة ما إذا كان راغباً بالعودة.


فوضى وعشوائية

إلا أن هذا الأمر لم ينجز وفقاً للمعنيين في البلديات، نظراً للصعوبات المالية التي بدأت تواجهها البلديات. حيث كشفت هذه الأوساط أن العمل الذي كلفت به يتطلب فريق عمل واسع، وخصوصاً في البلدات التي يتواجد فيها النازحون بأعداد ضخمة. مشيرة أيضاً إلى أن إمكانية إنجاز إحصاء نهائي ودقيق تبدو مستحيلة، بعد أن توزع النازحون بأعداد كبيرة في الأوساط السكنية للبنانيين، حيث امتزج هؤلاء بالمجتمعات. وهذا ما يصعّب المهمة، وخصوصاً إذا لم يكن هناك تعاون من المجتمعات النازحة وحتى من المجتمع اللبناني المحلي، أو ممن يؤجرون منازلهم ومؤسساتهم للنازحين، ولا يتهربون من تسديد رسوم القيم التأجيرية، أو يغطون عمالتهم غير الشرعية مقابل المداخيل التي تدّرها عليها ممتلكاتهم.

وعليه تشير الأوساط البلدية أن مهمة تعداد النازحين التي ألقيت على عاتقهم، كانت ممكنة في بداية النزوح، من خلال تسجيل كل عائلة فور سكنها في القرية أو أحد مخيماتها، ومن ثم تحديث المعلومات حولها بشكل مستمر. الأمر لذي كان يمكن أن يؤمن داتا دقيقة، وخصوصاً وسط الإجراءات التي اتخذت في بعض المحافظات، كمحافظة البقاع مثلاً، والتي منعت إقامة أي مخيم جديد منذ سنة 2018، ومنعت إعادة إشغال أي خيمة تخلو من ساكنيها، وهدتها نهائياً. أما إطلاق هذه الحملة بعد سنوات من الفوضى وعشوائية انتشار النازحين، فلا يبدو انه سيحقق الغاية من تقديم داتا مفصلة ودقيقة برأي الأوساط.


تباين المجتمعات المضيفة

إلا أن ذلك لا يعني بأن البلديات، أو أقله معظمها، لا تملك أرقاماً تقديرية لأعداد النازحين المقيمين فيها. ولكنها لا تستند إلى داتا منظمة سوى ببلديات قليلة، انطلقت إحصاءاتها نتيجة لضغوط شعبية، ضيّقت على النازحين في بدايات تواجدهم في القرى والبلدات التي احتضنتهم. وقد أجرت البلديات هذه الإحصاءات لامتصاص النقمة الشعبية التي فرضت عليها الحد من أعداد النازحين لديها، كما فعلت بلدية زحلة مثلاً، التي يمكن الإطلاع على الداتا الموضوعة من قبلها عن أعداد المخيمات الموجودة لديها، وتقوم بتحديثها منذ سنة 2016 بشكل دائم، مع تحديد أماكن المخيمات والمسؤولين عنها، ومؤجريها، والتأكد من عدم إضافة أي خيمة جديدة. إلا ان هذه الداتا على رغم تحديثها الدائم، لم تتوصل إلى تحديد أعداد النازحين، بل يمكنها فقط إحصاء مخيماتهم، كما أنها لم تنجح في إحصاء أعداد المقيمين بالشقق السكنية، إلا من خلال التبليغات التي تتوجه بها لشاغلي المنازل بناء لشكوى موجهة ضدهم.

وفي بلدات أخرى كالفرزل مثلا في البقاع الأوسط، يشير رئيس البلدية ملحم الغصان إلى الاتهامات التي وجهت إليه بالعنصرية عندما حاول تنظيم تواجد النازحين وعمالتهم في البلدة، الأمر الذي يقول أصبح مطلوباً على المستوى الرسمي حالياً. وكذلك حاولت أن تفعل دير الأحمر. وجميعها قرى مسيحية استجابت فيها البلديات بشكل أساسي مع هواجس مجتمعاتها من "اجتياح" النازحين السوريين للقرى ومصالحها. فيما أدت أندفاعة المجتمعات السنية لاستضافة النازحين انطلاقاً من قناعات سياسية، إلى شوائب وفوضى وخروقات عديدة انعكست سلباً على هذه المجتمعات كما على النازحين المقيمين في قراهم.

إذاً، الخطأ منذ البداية هو في تعاطي السلطة اللبنانية مع هذا الملف، كما ترى مرجعيات محلية. إذ لم تلجأ الدولة إلى وضع معايير موحدة على المستوى المركزي، وتركت الأمر إلى قرارارت استنسابية اتخذتها البلديات، لم يخلُ بعضها من نزعات عنصرية، صعبت حياة النازحين في بعض الأماكن وخلقت توترات مستمرة معهم. قابلها في مجتمعات أخرى ترحيب واسع، دفع بهؤلاء إلى "التبلّد". وبالتالي، التقدم على أبناء القرى في تأمين مداخيل إضافية، فولدت القلة "النقار" بينهم.


الأجهزة الأمنية وأرقامها

وفي هذا الإطار يذكر البعض بالحملة التي أطلقها محافظ البقاع في سنة 2018 لإقفال المؤسسات التي يشغلها سوريون، حيث كان الدفاع عن هؤلاء من اللبنانيين الذين أجّروهم المؤسسات بداية، وقدموا كل المستندات القانونية التي تبقي الحال على ما هو عليه، إلى أن أصبحت هذه المؤسسات مصدر انزعاج من المجتعات التي حضنتها حالياً.

هذا الواقع لا يبدو انه تبدل راهناَ. ففي ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اللبنانيون لا يتوقع الكثيرون أن ينقلب من أجّروا محلاتهم على النازحين الذين استأجروها. إذ أن تطبيق القانون سيحرمهم من المداخيل التي تتوفر عبر تأجيرها أو مشاركة أرباحها من شاغليها. وهذا ما يمكن أن يطيح بقدرة البلديات على تطبيق تعاميم وزارة الداخلية. فيما يبدو أن إحصاء الأعداد بالمخيمات عمل شبه مستحيل بالنسبة لها، خصوصاً أن الدعوة لم تستكمل حتى الآن بآلية موحدة لتطبيقها. بل اكتفت أغلب المحافظات بتعميم كتاب وزير الداخلية على البلديات، فاستنسب بعضها إضافة بعض التعليمات الإضافية، فيما اكتفى آخرون بالتوجيهات العامة. وهذا ما يترك الأمر مجددا لاستنسابية البلديات في تطبيق هذه القرارات، حيث توجه بعضها بدعوة لنازحين إلى التقدم من البلديات للتسجيل. وهي آلية تحمل مخاطر عدم الاستجابة الواسعة، وخصوصاً من قبل من لا يملكون أوراقاً تثبت شرعية دخولهم إلى الأراضي اللبنانية. الأمر الذي سينعكس مزيداً من الكتمان والفوضى، وبالتالي بناء قاعدة من الارقام غير الدقيقة. فيما آلية توجه البلديات إلى المخيمات تتطلب جهداً ووقتاً وفريق عمل غير متوفر لديها حالياً.

ومن هنا تعتبر الأوساط البلدية أن هذا عمل يجب أن تستمر الجهات الأمنية بتوليه، ولا سيما تلك التي تضع تجمعات النازحين تحت مراقبها، وفي طليعتها جهاز أمن الدولة، الذي تقول مصادره أنه يملك معلومات واسعة حول واقع هذه المخيمات، إلا أنه لا يفصح عنها سوى للسلطات اللبنانية، كما تكشف مصادره أن وزارة الداخلية تملك معلومات عن أعداد النازحين، وهي متوفرة من أكثر من جهاز أمني، وبعضها أفصح عنها مدير عام الأمن العام السابق عباس إبرهيم، الذي تحدث عن نحو مليونين ومئة ألف نازح. وكل المطلوب استكمال هذه الداتا وتحديثها.

أما إلقاء العبء على البلديات، فترى أوساطها، أنه لن يكون سوى المقدمة لإقفال الجدل الدائر، بإثبات المزيد من الفشل في إدارة هذا الملف منذ البداية.

العودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: