إقامة اللاجئين السوريين: السمسار والكفيل والدولة الفاشلة

على مدار 13 عامًا، لم تنجح الحكومات اللبنانية بإدارة ملف اللاجئين (محمود الطويل)
على مدار 13 عامًا، لم تنجح الحكومات اللبنانية بإدارة ملف اللاجئين (محمود الطويل)


وقف أحمد الكهل الأربعيني أمام مركز الأمن العام في منطقة الغبيري، يعتصر قلبه الخوف من الولوج إلى داخل المركز، فيما تختمر في رأسه سيناريوهات التوقيف والاعتقال والترحيل. وأحمد الأب لثلاثة أطفال والعامل في قطاع البناء من دون رخصة عمل، لجأ إلى لبنان منذ حوالى السنتين وسكن في إحدى العمارات العشوائية في منطقة برج البراجنة، داخلاً وأسرته خلسةً عبر أحد المعابر غير الشرعية، بمساعدة مهربين لبنانيين وسوريين، من دون أي علمٍ مُسبق بأي تبعات لخطوته هذه، طامعًا بتسجيل طلب له لدى المفوضية ومن ثمّ الاستحصال عبرها على أوراق الإقامة، كما فعل أخوه منذ خمس سنوات.

إلى اليوم باءت كل محاولاته بالفشل. فالمفوضية امتنعت عن تسجيل طلبه، فيما عجز عن تأمين المبلغ الكافي بالدولار الفريش لإيجاد كفيل، وتسديد تكاليف الرسوم الباهظة للسمسار والأمن العام للحصول على الإقامة. يهاتف أحمد "المدن" واصفًا معاناته الموصولة في الاستحصال على إقامة شرعيّة، ومعرجًا على خشيته من الترحيل التعسفي الذي طال عدداً من رفاقه في الورشة، فيما انقطعت أخبار أحد أقربائه المُرحلين مؤخرًا إلى الداخل السّوري.


شروط الإقامة

منذ كانون الثاني من عام 2015 تحرم التعليمات الرسميّة الصادرة عن السّلطات اللبنانية، وفي مقدمتها قرار المديريّة العامة للأمن العام، الذي يطمح إلى تنظيم دخول السوريين وخروجهم، مشتملاً على شروط أشبه بالتعجيزية في استحصال سواد اللاجئين في لبنان على صفة قانونيّة لهم في البلاد، أهمها إمكانية الحصول على أوراق إقامتهم النظاميّة وتجديدها. وبالرغم من إصدار مجلس شورى الدولة في شهر شباط من عام 2018 قرارًا أبطل فيه قرار الأمن العام، مؤكدًا فيه أن لا صلاحية للمديرية العامة للأمن العام في تعديل شروط إقامة السّوريين في لبنان، خصوصاً أن القانون اللبناني أعطى هذه الصلاحيّة حصرًا لمجلس الوزراء دون سواه. وعبّرت السّلطات اللبنانية منذ حينها أن لا نيّة لديها في عقلنة سياساتها بملف اللجوء السّوري أو طرح أي مقاربة عملانية جديّة، لتدارك وطأته على اللبنانيين واللاجئين على حدٍّ سواء، مستأنفة منهجها الضبابيّ في معالجة هذا الملف السّاخن.

فمن جهة لا إحصاءات رسميّة تقريبية لأعداد اللاجئين الفاقدين لصفتهم القانونيّة أو حتّى المقيمين نظاميًا أو خلسةً في لبنان، وبتجاهل الأمن العام لقرار مجلس شورى الدولة، فُرِزَ السوريون المقيمون في لبنان إلى فئتين: أولهما المسجلين لدى المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين، وثانيهما غير المسجلين الذين عليهم إيجاد كفيل لبناني للإقامة شرعيًّا في لبنان. لكن اللافت أنه ومنذ إصدار القرار بأشهر حتى اليوم تمّ تعليق تسجيل اللاجئين السوريين في لبنان من قبل المفوضية. ومنذ ذلك الحين، تواصل المفوضية تتبع أرقام اللاجئين المسجلين قبل عام 2015. واعتبارًا من نهاية أيار الماضي، بلغ الرقم 805،326 لاجئًا سوريًا مسجلاً في البلاد. أما صعوبة إيجاد الكفيل وتسديد تكاليف الوثائق الرسميّة، ناهيك بالعراقيل التّي تواجه اللاجئين في مراكز الأمن العام، ورسوم التجديد التّي تناهز 200 دولار أميركيّ سنويًا عن كل الفئات العمريّة فوق سن 15 عامًا، فقد أسهمت في تراكم أعداد اللاجئين غير المُسجلين و/ أو غير الحاملين للإقامة، وقُدرت الأعداد بـ78 بالمئة من السوريين في لبنان (حسب تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية العام الماضي). هذه الأعداد التّي كانت ذريعة السّلطات في حملات التّرحيل.


عراقيل وثغرات

ومن جهة ثانية، فإن قرار مجلس الدفاع الأعلى الصادر بنيسان عام 2019 والذي أصدر بموجبه المدير السّابق للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، مذكرة بتسوية وضع السّوريين الداخلين خلسة قبل تاريخ الرابع من نيسان 2019، ومع اشتداد القلاقل الأمنيّة في الداخل السوري والعسر الاقتصادي المتناسل، توافد إلى لبنان منذ ذلك التاريخ إلى الآن مئات الآلاف من اللاجئين، الذين لم يتمكنوا من الاستفادة من شرط التسويّة. وقد تمّ ترحيل جزء كبير منهم منذ عام 2019، بحجة انتهاء صلاحية أوراقهم أو دخولهم خلسةً (وطلب التسويّة يُفترض على اللاجئ أن يتقدم به إلى أقرب مركز أمن عام، ويدفع رسماً بحدود 3 مليون ليرة ويمنح بعدها تسوية لمدة 3 أشهر، عليه خلالها إيجاد عمل لدى مؤسسة لبنانية تكفله وتتقدم له بالإقامة السنوية ليصبح وضعه قانونياً، منوهاً أنه حتى السوري الذي دخل بشكل قانوني لكنه تجاوز فترة الإقامة القانونية يستطيع إجراء هذه التسوية). هذا فيما يعزو غالبية المطلعين على الحملات الأمنيّة الأخيرة، والتّي بلغت حتّى تاريخه حوالى 16 حملة، رُحل فيها المئات، وسُلّم العشرات منهم لقوات نظام الأسد، أن غاية السّلطات في حملاتها هذه هي إثارة الهلع الدائم في صفوف اللاجئين، وتدجين الشارع اللبناني الغاضب، والإمعان في ابتزاز المجتمع الدوليّ للمزيد من الدعم.

وفي هذا الإطار يُشير المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الإنسان، محمد حسن، في حديثه مع "المدن" قائلاً: "شروط الإقامة صعبة للغاية، والطريق الأسهل للاجئين هو إيجاد كفيل لبناني. وهذا الخيار يتيح للكفيل استغلال اللاجئ بكثير من الأحيان، مثل دفع مبلغ أو العمل بالسخرة. وغالبًا ما يتم رفض طلبات الإقامة للاجئين رغم التزامهم بشرط التقدم لطلب الإقامة، والأسباب غير معروفة من جهة الأمن العام.

كلفة استحصال الإقامة تتراوح بين 800$ لأوراق الكفالة العادية الشخصية، وتصل إلى 3000$ للإقامة من الفئة الأولى مع إجازة عمل. أما عن الداخلين بطريقة غير نظامية فلا يوجد قانون يحميهم حتى عند صدور قرار التسوية، لإن قرارات التسوية للسوريين الداخلين بطريقة غير نظامية تخيفهم، ولم تظهر الحكومة أي نيات بمساعدتهم في تحصيل أوراق إقامة قانونية. وفيما لا تزال الحملة الأمنية الزجريّة مستمرة، من دون أي إجراء قانوني، ليس لدى اللاجئين أي خيار للمثول أمام القضاء، ولا يوجد لديهم فرصة لإجراء اتصال مع عائلاتهم أو طلب محام دفاع. وعليه، فإن معظم اللاجئين الذين لا يتم تسليمهم للسلطات السورية، يعودون من خلال مهربين تعلم السلطات بوجودهم على الحدود".


ما بين السمسار والكفيل والأمن العام

وبسبب هذه القرارات، فقد الكثير من اللاجئين آمالهم في إيجاد سُبل للاستحصال على إقامات، ونشطت على وسائل التواصل الاجتماعي وبين مجموعات اللاجئين، مكاتب سمسرة غير نظاميّة، تعرض خدماتها مقابل اصدار الإقامات وإيجاد الكفيل. وتتراوح تكلفة هذه الإجراءات -حسب ما أشار أحد السماسرة الناشطين في بيروت- بين 300 دولار أميركي مقابل إجراءات التسوية، و1000 دولار للكفيل، وحوالى الألفي دولار لإصدار الإقامة. ويلفت عدد من اللاجئين لـ"المدن" أنهم اضطروا في ظلّ الحملات الأخيرة للتواري عن الأنظار مؤقتًا، خوفًا من الاعتقال، أو حتّى استدانة مبالغ طائلة من مجموعات تقوم بالإقراض بـ"فائدة" باهضة لإنجاز أوراقهم عبر السماسرة. هذا فيما تُحذر الجمعيات الحقوقيّة من هذا النوع من الاستغلال الذي يقوده محامون وسماسرة لبنانيون، ناهيك بالكفلاء الذي يعمد شطر منهم لتعنيف اللاجئين واستغلال حاجتهم لهم، عبر المطالبة المستمرة بمبالغ شهرية أو مضاعفة أوقات العمل لساعاتٍ طويلة تصل إلى 15 ساعة يوميًا، فضلاً عن الاعتداءات اللفظية والجسديّة.. وأحيانًا الجنسيّة.

لا شكّ أن سياسة السّلطات اللبنانيّة في هذا الملف لا تختلف عن سياساتها المعتمدة في سائر الملفات، والتّي تعمد إلى رفد المستغلين والمهربين والمستفيدين من أزمة اللجوء السّوري بالعدّة اللازمة والموارد المتجددة بالدولار الفريش، ومراكمة الثروات على حساب اللاجئين. أما عن القرارات غير القانونية الصادرة عن الأمن العام والتّي حرمت اللاجئين من حقوقهم في تحصيل الإقامات، فيُحذر مركز "وصول" من تبعات هذه القرارات وحملات الترحيل المستمرة قائلاً: "على مدار 13 عامًا، لم تنجح الحكومات اللبنانية في تطبيق أي مشروع يتعلق بإدارة وتنظيم ملف اللاجئين، أو خلق إجراءات وسياسيات واضحة للتعامل مع اللاجئين وحماية حقوقهم وكرامتهم. وقد صدرت عدة قرارات تمييزية من قبل البلديات والأجهزة الأمنية خارجة عن القانون وعن الأعراف الدولية لحقوق الإنسان، وقد تم التحايل على تطبيق القوانين والاتفاقيات الدولية التي تُلزم لبنان بالحفاظ على كرامة الإنسان، مما يتعارض مع التزامات لبنان الدولية في هذا المجال. ولقد أصبح ملف اللاجئين السوريين في لبنان أداة لجذب انتباه المجتمع الدولي لاحتياجات لبنان، من دون الالتفات إلى مصير اللاجئين الذين يتعرضون لسياسة الترهيب والتضييق التي تنتهجها السلطات اللبنانية بشكل دوريّ".

العودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: