حدّثيني عن الخيام *

من قلب الخيام  خلال عدوان تموز 2006 للمرحومة فاطمة الحاج محمد حسن عواضة (أم نبيل مهنا)
من قلب الخيام خلال عدوان تموز 2006 للمرحومة فاطمة الحاج محمد حسن عواضة (أم نبيل مهنا)


ها هو السجن، عنوان الظلم والألم على مدى السنوات.. الصرخات الأولى من حناجر مشتعلة:

«لا حرّاس! رحلوا! رحلوا!».

«رحلوا! رحلوا!» أعاد الصدى في قلوبهم السكرى. لا ضبّاط إسرائيليين ولا لحديّين على المدخل.

يدخلون الباحة. حملوا الأسلحة التي تركها السجّانون مرميّة على الأرض، وراحوا يطلقون النار في الهواء. لم يطلقوا النار ابتهاجاً منذ الاحتلال. صراخ وتكبير ودموع. يتّجهون نحو البوّابة الرئيسيّة. أصوات قلقة من الداخل تسأل ما الذي يحصل. الأسرى لم يعرفوا بعد. «رحل الإسرائيليّون»، أنشدت الأصوات الملتهبة، «جايين نحرّركن». تكبير وصراخ من الداخل، وأيدي السجناء تمتدّ من الطاقة الصغيرة في البوّابة الحديديّة. تهبّ أيدي القادمين لتلاقيها في لمسة تختصر التاريخ. شلّ التاريخ ماجدة، فوقفت تعيش تلك اللحظة من السعادة الخالصة والدموع تنساب من عينيها، لن تعيش أبداً بعد لحظة بهذا الصفاء... والدة حسن ديب كانت أيضاً هناك، فابنها الذي دخل معتقل أنصار وهو شابّ صغير بعد التظاهرة في ملعب المدرسة، عاد ودخل معتقل الخيام قبل سنتين إثر عمليّة نوعيّة. أمّ حسن نادت على ابنها ومدّت أصابعها من الكوّة لتلامس يده. حمل شكرالله أداة حديديّة وراح يضرب القفل في البوّابة حتى انكسر.. وخرجوا. كسروا أبواباً عديدة وأخرجوا الجميع. وجدوا بعض السجناء جالسين قرب الجدران وهم يرتعشون خوفاً. كانوا يظنّون أنّ السجّانين قادمون لإعدامهم. خرجوا حاملين حقائب يد صغيرة فيها كلّ مقتنياتهم ، فيها سنوات عمرهم الأسير. مشهد تلك الحقائب مزج الوجع بالفرح. قال أحد الأهالي: «عددهم مئة وأربعون». مئة وأربعون حقيبة صغيرة. منهم من مات، رحل معلّقاً من يديه أو رجليه ورأسه ملفوف بكيس، سمعوا صراخه الذي ضلّ طريق الحياة ففارقها. كانوا معلقين على أعمدة العذاب قربهم، ولكنهم لسبب يجهلونه، صمدوا أمام العذاب وبقوا. لا لسبب واضح، بعضهم كان ضعيف البنية ولم يمت، وبعضهم كان قويّاً وانهارت قواه، فأيقظوه ليعيدوا تعذيبه ولم يستيقظ. منهم من أُطلق سراحه، فخرج حاملاً جروحه الجسديّة والنفسيّة وغصّة بسبب بقاء رفقائه بين أيدي السجّانين.

راح بعضهم يركض صوب البوّابة الخارجيّة، ومنها إلى الخيام. أحاط بها ساعدان قويّان ورفعاها عن الأرض. خالها سعاده. شعره مشعّث ووجهه شاحب وجسده هزيل، وحقيبته الصغيرة خلف ظهره، ولكنّه هنا.. وهم رحلوا.

* فصل من رواية بالعنوان نفسه صدرت عن «دار الآداب» عام 2014


تعليقات: