هدى سلطان.. كيف تحوّلت من فريسة إلى صياد؟!

فيما كانت هند رستم مارلين مونرو العرب.. راحت هدى سلطان إلى إضافة العنصر المصري على دور الإغراء
فيما كانت هند رستم مارلين مونرو العرب.. راحت هدى سلطان إلى إضافة العنصر المصري على دور الإغراء


نستطيع القول بكل ارتياح، أنّ الممثلة والمطربة هدى سلطان التي رحلت عن العالم في الخامس من حزيران 2016، قد ولجت عالم السينما من باب جمال الصوت، شأنها في ذلك شأن الكثيرين من المطربين والمطربات الذين عرفوا طريقهم إلى الشاشة الكبيرة. لكن يمكنك القول أيضاً بكل اطمئنان أنها استطاعت بعد وقت قصير من بداية تجربتها الفنية أن تردم المسافة بين حضورها كممثلة وكمطربة، بل وواحدة من صاحبات أجمل الأصوات التى عرفتها الأذن العربية حتى أن المشاهد لم يستنكف أو يدهشه ظهورها في أعمالها الدرامية كممثلة فقط، وباتت قدراتها الغنائية قيمة مضافة تميّزها عن غيرها من الممثلات.

"جَمَلات بهيجة حبس عبد العال الحو"، وهذا هو اسمها الحقيقي، مولودة في قرية كفر أبو جندي محافظة الغربية بدلتا النيل في 15 آب 1925، لأمّ من أصول تركية اسمها رقية محمد نسيم، وأب مزواج أنجب من الأولاد الكثير. وكأي طفلة ريفية في ذلك الوقت أجبرها أهلها على الزواج بمجرد أن ظهرت عليها تباشير الأنوثة، لكن ذلك الموظف البسيط في سكة حديد طنطا، لم يستطع السير بقطار أسرته أكثر من محطة ابنته الأولى من "جملات"، وبعدها خرج القطار عن مساره وانفصل الزوجان فلم تجد العشرينية المطلّقة لملء فراغها إلا الفن الذي عشقته بالوراثة عن والدها، ثم التأثر بأخيها الأكبر المطرب ذائع الصيت محمد فوزي الذي كان قد قطع شوطاً طيبا في دنيا الفن. ورغم اعتراض الأسرة وخصوصاً شقيقها المذكور، فقد نجحت فى اختبار الإذاعة، وقدم لها الملحن أحمد عبد القادر أول ألحانها "حبيبي ما ليش مثاله" سنة 1949.

لكن من ذاقت حلاوة الخطوة الأولى لم تكن لتقبل أن تتوقّف عند مجرد الغناء فى الإذاعة، فتقدمت للامتحان الذي أعلن عنه "ستوديو نحاس" لأصحابه جبرائيل وادوارد نحاس وأنطون خوري ويوسف وهبي، وكان هدفه اختيار وجه جديد لديه القدرة على الغناء ليشارك في فيلم "ست الحسن" أمام ليلى فوزي وسامية جمال وكمال الشناوي وفريد شوقي. ورغم صغر الدور فقد خرجت منه هدى سلطان وقد أصحبت أكثر اقتراباً من عالم الشهرة، وهو ما تأكد لها بعد فيلمها الثالث "الأسطى حسن" سنة 1952 للمخرج صلاح أبو سيف. وحينما دخلت هدى سلطان، عالم السينما، كانت فاتن حمامة على وجه التحديد قد جرفت كل بنات جيلها تقريباً (ماجدة، مريم، شادية، مديحة يسري) إلى تيار المليودراما الذي أسس له يوسف وهبي وقاده بإصرار حسن الإمام، فانجرفت هدى هي الأخرى مع تيار المليودراما في أفلام: بيت الطاعة ليوسف وهبي، حكم القوي، وتاجر الفضائح لحسن الإمام، المكتوب على الجبين لإبراهيم عمارة، لمين هواك لحلمي رفلة. وفي معظم هذه الأفلام إن لم نقل كلها، كانت تمثل النموذج الفاتني – نسبة إلى فاتن حمامة - أي الفتاة البائسة المغلوبة على أمرها، وان بأسلوب أداء مختلف عن حالة القهر البيّن أو قُل الانسحاق الذي أدت به الأخريات هذه النوعية من الأدوار.

ولم تكن المليودراما فقط هي السائدة في ذلك الوقت، وإنما كان للفيلم الغنائي صوت مسموع خصوصاً مع زيادة الطلب الخارجي عليه. فوجدت هدى سلطان لنفسها مكاناً في أفلام كثيرة، منها "تاكسي الغرام" أمام عبد العزيز محمود واخراج نيازي مصطفى، و"حبيب قلبي" أمام الملحن رياض السنباطي في تجربته السينمائية الوحيدة من إخراج حلمي رفلة. وبين تيار المليودراما ونسائم الفيلم الغنائي، تقلّبت هدى في معظم النوعيات الأخرى، كما هو الحال في "الأسطى حسن"، "المحتال"، "حميدو"، "جعلوني مجرماً"، و"رصيف نمرة خمسة".

وعندما انتصف عقد الخمسينيات، كان المخرج حسن الإمام قد قرر أن يخلق للسينما المصرية نموذج الإغراء الذى يناسبها، ولو كان ظلاً للنموذج الهوليوودي المُمثَّل في مارلين مونرو، وكانت أداته في ذلك الفنانة هند رستم التي فعلت الشيء ذاته الذي فعلته فاتن حمامة مع المليودراما حين جرفت معها بعض الأسماء الأخرى إلى عالم الأنوثة والإغراء، مثل صباح وبرلنتي عبد الحميد وهدى سلطان التي فضلت تغيير جلدها الفني والذهاب إلى النموذج المعاكس تماماً للفتاة البائسة المغلوبة على أمرها. صحيح أن هدى سلطان كانت قد قدمت شخصية المرأة القوية المثيرة المغوية في فيلم "نحن بشر" للمخرج إبراهيم عمارة سنة 1955 بالتزامن مع تجربة حسن الإمام مع هند رستم، إلا أن إلحاح المخرج الكبير على إبراز نموذجه الجديد شجع هدى وغيرها على السير فى هذا الاتجاه. ولئن كانت هند رستم قد تأثرت كثيراً بحالة مارلين مونرو في الغرب، فقد حاولت هدى سلطان أن تضفي روحاً مصرية واضحة على نموذج المرأة القوية المثيرة، فجاءت أقرب إلى الطبقة الشعبية أو المتوسطة. بدا ذلك واضحا في "سواق نص الليل"، "كهرمان"، "العاشقة"، "عبيد الجسد"، "حب ودلع"، "نساء محرّمات"، وكذلك فيلماها المهمان مع حسن الإمام "زوجة من الشارع" و"صائدة الرجال".

غير أن ذروة نضجها الفني والأنثوي، كانت في رائعة المخرج عز الدين ذو الفقار "امرأة في الطريق" سنة 1958 وليس "امرأة على الطريق" كما يكتبه البعض، فشتّان بين معنى أن تعترضك امرأة متفجرة الأنوثة والرغبة وأنت في طريقك، وبين أن تجد امرأة ملقاة على الطريق بلا فاعلية او حراك، أو تكون هي في الطريق ذاته الذي تسير أنت عليه. وهدى سلطان في رائعة عز الدين ذو الفقار، كانت في الطريق. الشيطان الأنثوي الذي يعترضك ويلفحك بنيران رغباته، أو إذا أردت التعاطف معها، قُل إنها المرأة المتفجرة التي دفعها ضعف الزوج وطمع المحيطين بها إلى البحث عن الإشباع والأمان عند الرجل الذي يتعفف عنها رغم انه يجدها في طريقه، حتى لحظة النهاية الدراماتيكية. على أية حال، أثبتت هدى سلطان في هذا الفيلم، ليس فقط قدرتها الفائقة على الأداء وفهم الأبعاد الداخلية والخارجية للشخصية التي تقدّمها، وإنما أيضاً حظوتها لدى الجماهير، الأمر الذي دعا الآخرين الى محاولة استثمار نجاح "امرأة في الطريق" فلعبت في العامين التاليين "قاطع طريق" لحسن الصيفي و"نهاية الطريق" لكمال عطية، وهكذا تحولت هدى سلطان من مجرد فريسة مقهورة في أفلام الميلودراما إلى صياد حاذق عند تحولها إلى أدوار الإغراء.

في الجانب الآخر، وفي الوقت الذي كانت فيه السينما المصرية ترحب بالثنائيات الفنية، شكلت هدى سلطان مع زوجها في ذلك الوقت فريد شوقي، ثنائياً لافتاً، وقدّما معاً 19 فيلماً، بدأت بفيلمي "ست الحسن" لنيازي مصطفى عام 1950، و"حكم القوي" لحسن الإمام عام 1951، وفيهما لم تكن هدى سلطان قد وصلت بعد لمرحلة البطولة المطلقة التي تحققت لها في فيلمهما الثالث "الاسطى حسن" سنة 1952 لصلاح أبو سيف الذي دفع نجاحه الجيد إلى تهافت المخرجين على الجمع بين الزوجين في أفلام أخرى وصلت إلى 16 فيلماً، بخلاف الأفلام الثلاثة السابقة. ورغم أن الجو السينمائي كان يسمح في ذلك الوقت بوجود الثنائيات النمطية من قبيل شادية وكمال الشناوي، أو فاتن حمامة وعماد حمدي، أو فريد الأطرش وسامية جمال، فإن التنوع كان السمة الغالبة على الثنائي هدى سلطان وفريد شوقي، إذ قدّما المشكلات الاجتماعية كما في "الأسطى حسن" و"جعلوني مجرماً" وأفلام الحركة مثل "حميدو" و"رصيف نمرة خمسة" و"سواق نص الليل"، والمليودراما في "حكم القوي" و"بيت الطاعة" و"تاجر الفضائح"، والأفلام الوطنية مثل "بورسعيد"، وكذلك الكوميديا في "المحتال" و"أبو الدهب" و"العائلة الكريمة"، وهو آخِر فيلم جمع بينهما – 1964 – قبل أن تنجح ابنتهما المنتجة ناهد فريد شوقي في جمعهما معا سنة 1992 في فيلم "امرأة آيلة للسقوط " حتى وان لم يلتقيا في مشهد واحد داخل هذا الفيلم.

ومع توالي سنوات الستينيات وبدايات السبعينيات، كانت هدى سلطان قد وصلت إلى النضج العمري والفني كما في أفلام: السيرك والاختيار ودلال المصرية و3 نساء والسكرية، و... رائعة كمال الشيخ "شيء في صدري" الذي كان بمثابة إعلان دخولها رسمياً مرحلة أدوار الأمومة. صحيح أنها جمعت في الوقت ذاته بين تلك الأدوار وأدوار "العَوالم" وصاحبات أماكن اللهو، كما في "الاختيار" و"بدور" و"شلة الأنس"، لكنها شيئاً فشيئاً أصبحت واحدة من أشهر الأمهات في الشاشتين الكبيرة والصغيرة بعدما انطلقت من نجوميتها السينمائية إلى عالم الدراما التلفزيونية الرحب والأكثر تنوعاً.

والمدهش أنّ هدى سلطان لم تقع في هوى الأم النمطية إلا نادراً، كحال الأم في "شيء في صدري"، أو دور "أمينة" الشهير في ثلاثية نجيب محفوظ عندما تم تحويلها الى التلفزيون. فرغم أنها لم تفقد عطفها وحنانها فى كل الأحوال، إلا أنها لم تكن الضعيفة المسكينة وإنما القوية المحركة أحياناً للأحداث أو التي يجتمع حولها أفراد الأسرة. هكذا أكملت مشوار الحياة وحدها فى مسلسل "لا يا ابنتي العزيزة"، وهكذا احتوت وحركت ابنيها في حلقات "أرابيسك"، وهكذا اجتمع عند قدميها كل أفراد عائلة عامر عبد الظاهر في الدراما التلفزيونية "زيزينيا"، وهكذا كانت أيضاً "أم رحيم" في "الليل وأخره" ثم... في النهاية "فاطمة تعلبة" في "الوتد" هذه الشخصية التي تغلغلت فينا فأصبحت مرادفاً لاسم هدى سلطان حتى اليوم رغم مرور سبعة عشر عاماً على رحيلها.

عودة إلى الصفحة الرئيسية


امرأة في الطريق
امرأة في الطريق


الأسطى حسن
الأسطى حسن


نساء محرّمات
نساء محرّمات


تعليقات: