بعلبك-الهرمل: وفرة زراعية بالفاكهة والقمح ومشاريع لنساء وشباب

بعلبك-الهرمل بحاجة ماسة اليوم لسياسة إنمائية (Getty)
بعلبك-الهرمل بحاجة ماسة اليوم لسياسة إنمائية (Getty)


إذا شئنا الحديث عن القطاع الزراعي في محافظة بعلبك-الهرمل، فإن أي مقاربة لمشاكله وتحدياته لا تختلف بصورةٍ جذريّة عن المقاربات المُختصة في باقي القطاعات المأزومة. ولا نقصد بالمأزومة عن تلك التّي تأثرت حصرًا بالأزمة الاقتصاديّة المستجدّة منذ ثلاث سنوات ونيف، بيّد أن هذه الأزمات التّي جعلت أكبر المحافظات اللبنانيّة على ما هي عليه اليوم، متناسلة منذ عقود، وما كان على الانهيار الاقتصادي التّاريخيّ سوى تسعير وتيرتها ومضاعفة وطأتها على السّكان. وإن كان الإهمال الرسميّ وما يحدوه من سياسات إنمائية مبتورة، جعلت من انسداد الأفق الشعبيّ أمرًا واقعًا وحتميًا، فإن تلافي الخوض في مضمار الحلول الجديّة والحقيقيّة، جعل من العصيّ اليوم تدارك الخلّل الجسيم ووضع أي خطّة إنقاذيّة تؤتي بثمارها على المدى القريب والمتوسط.


الموسم الزراعي

في الفترة الممتدة بين مطلع أيار وأواخر آب من كل عام، يشهد البقاع الشمالي حركة زراعيّة حيويّة ونشطة، لكون هذه الفترة هي موسم الحصاد الزراعي الذي يعتاش عليه ما يناهز 20 بالمئة من العاملين الزراعيين في المنطقة (25 بالمئة منها تغطيها الأراضي المزروعة) أكان من السّكان، أو العمال الأجانب الموسميين من السوريين والفلسطينيين وغيرهم. وتتنوع المزروعات بالتوازي مع المناخ والتقاسيم الجغرافية، بين البلدات والقرى صعودًا من مركز المحافظة في بعلبك وصولاً لأطراف الهرمل، التّي تتدرج من المثمرة كاللوزيات (المشمش، والكرز، والخوخ، والدراق.. إلخ) إلى التّوتيات على أنواعها، والتفاح والكرمة، والقمح والشعير والبطاطا، والشمندر السّكري، والخُضر، والحبوب. ناهيك بالتبغ والقنب الهندي. يُذكر أن غالبية هذه المزروعات تُصرف في الأسواق البقاعية المحليّة، أسواق المونة البيتية على وجه التحديد.

وفي هذا السّياق يشير رئيس تجمع مزارعي البقاع، ابراهيم ترشيشي، في حديثه إلى "المدن" لكون المواسم هذا العام وفيرة قائلاً: "العوامل المناخيّة وتأخر هطول الشتاء أفادت المواسم الزراعيّة وخصوصاً القمح والزراعات البعريّة، لكن العقبة الكبرى التّي تواجهنا اليوم كمزارعين في المنطقة هي في ضيق أفق التصدير، أكان برًّا باتجاه سوريا التّي تفرض ضرائب، وعلى شاكلتها الأردن التّي تفرض ضرائب على دخول منتجاتنا.. وأيضاً إغلاق معابر الترانزيت البريّ أمام الشاحنات التّي تنقل هذه المنتجات، ناهيك بعدم إمكانيّة تصريفها في السّوق السعودي، الذي كان يُدر علينا أرباحًا في السّابق، أو بحرًا بسبب غلاء النقل البحري (يتجاوز 2000 دولار سعر الحمولة)، وقد طالبنا شركات النقل الأخذ بالاعتبار تخفيضات أجور النقل فضلاً عن مطالبتنا المستمرة بتقليص كلفة النقل الداخلية وأجرة التخليص والكهرباء، وأجرة الأرضية في المرفأ".

هذا فيما تُسهم عمليات التهريب بين سوريا ولبنان سلباً على القطاع الزراعي اللبناني، وذلك بسبب انخفاض تكلفة الإنتاج في سوريا، مقابل ارتفاعها في لبنان. وفي حين يؤثر التهريب على العلاقات التجارية والتبادلية، مع تهريب معظم البضائع عبر المعابر غير الشرعية، يبقى طريق التصدير الشرعي (طريق المصنع)، الوحيد الذي تصدر منه الدولة اللبنانية منتجاتها. وبسبب الظروف الأمنية، قد تتوقف شاحنات النقل لأيام وأسابيع على الحدود، مما يؤدي إلى تلف المنتجات.


القمح البقاعي

أما عما يطال المزارع من تحديات وعقبات يوميّة يلفت ترشيشي قائلاً: "إلى جانب عدم المقدرة على تصريف الإنتاج، فإن غياب السّلطات الرسميّة قد حال دون وضع خطط وحلول لهذا الأمر، وازداد الأمر سوءاً مع وقف مؤسسة "إيدال" وتأخير استلام القمح (وعدم تحديد آلية أصلاً لاستلامه) وعدم تسعيره أو تأجيره منا لغاية اليوم. فيما وعدت الدولة مرارًا بالاهتمام بهذا الشأن، لكننا لا نجد هذا الاهتمام ملموسًا. ونحنا كمزارعين دائمًا ما نرى اهتمامًا ولا نرى تطبيقًا". هذا فيما يُذكر أن "المدن" حاولت التواصل مع وزير الزراعة للاستفسار منه عن الآليات المُزمع اتباعها في موضوع استلام القمح، لا سيما أن أزمة الطحين والقمح في البقاع مستمرة ومستفحلة منذ سنتين، إلا أن الوزير لم يتعاون ولم يرد على اتصالاتنا.

وبالعودة إلى موضوع القمح وأزمة الطحين والخبز وارتفاع أسعارهما، تتغاضى السّلطات اللبنانيّة عن وجود بديل محليّ عن الاستيراد (هي نفسها السّلطة التّي وقعت اتفاقيات استيراد عشوائي، فيما تقاسمت الحكومات المتعاقبة أرباحها على حساب القطاع الزراعي في المنطقة) متذرعةً بالأزمات الخارجية، كالحرب الروسية على أوكرانيا، والتّي زعمت أنها أدت إلى تناقص المواد الأولية، فيما تصرف مبالغ كبيرة وبالعملة الصعبة (التّي تدعي شحها) لشراء القمح. هذا فيما موسم حصاد القمح بنوعيه (القاسي: يُستعمل لصناعة الحلويات والبرغل. والطري: يستعمل لإنتاج الخبز) في البقاع موجود، وقد ارتفعت صرخات المزارعين في السنوات الأخيرة للمطالبة بتصريف محاصيلهم التّي غالبًا ما تفسد بسبب تكدسها. فيما يستمر التناقض الصارخ بين الوعود التّي تقدمها وزارة الزراعة التّي توالى على استلامها وزراء الثنائي الشيعي (وتقاعس التشريع والحكومات المتعاقبة)، والذين عادةً ما يكونون من هذه المنطقة، وبين الممارسة الفعلية على أرض الواقع.

ويُضيف ترشيشي: "قبل عام 2019 كان المزارع باستطاعته استلاف قرض ميسر طويل الأجل من المصرف المركزي وغيره. أما المزارع اليوم فقد فُقر ويزرع ليسد كفاف يومه فقط". لافتًا لكون "ميزانية وزارة الزراعة المنخفضة مقارنةً بوزارات أخرى، أضعف الكوادر المسؤولة. وبالتالي، انعكس سلبًا على تطور الزراعات والمنتجات اللبنانيّة في سوق التصريف الخارجي. ناهيك باحتكار السماسرة والمافيات التجارية للأسمدة والأدوية الزراعية، في ظلّ عدم ضبط الدولة لأسعار المستلزمات الزراعية، ما أدى إلى ارتفاع تكلفتها وبالتالي سعرها. فضلاً عن مشاكل التسويق ومنافسة المحاصيل المستوردة خصوصاً السورية منها، وبُعد الأسواق عن المناطق الزراعية، ما أدى لتكبد المزارع البقاعي كلفة نقل محاصيله بأسعار مرتفعة وبالأخص في أزمة المحروقات الراهنة، وغياب المشروع الأخضر الذي أقامته الدولة عن أداء مهامه في المنطقة الزراعية الأكثر إنتاجًا وحجمًا. كذلك تقاعس الجهات المولجة بالرقابة وحماية المستهلك".


مبادرات وتعاونيات

وعلى الضدّ من كل الأزمات التّي تهيمن على يوميات المزارع البقاعي، لا بدّ من أن نلفت لكون حركة القطاع الزراعي مستمرة بالرغم من العثرات المفروضة أمام المزارعين. وإلى جانبه تنشط حركة استثماريّة لا بأس بها، بين الخيم والتعاونيات الزراعيّة التّي تديرها نسوة بقاعيات. هذا فيما تتزايد المبادرات الشبابيّة والأهلية لدعم المزارعين. والغنيّ عن الذكر هو انكباب المزيد من السكان على الزراعة انطلاقًا من عوامل توفيريّة وصحيّة.

ومنطقة بعلبك- الهرمل بحاجة ماسة اليوم لسياسة إنمائية وخفض معدلات البطالة التّي تتجاوز 45 بالمئة من مجمل القوى العاملة، التي تبقى سبباً أساسياً وجوهرياً للأزمات الأمنية المتلاحقة، وما الخطط الزراعيّة الجديّة سوى الضمانة الوحيدة التّي قد تعيد الحيوية الاقتصادية لأهالي هذه المنطقة، الذين يحتاجون للتشجيع الفعلي لإعادة الاستثمار في هذا القطاع الأساسي.

عودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: