عريّ مُقلِق.. ضبط استحمام النساء اليهوديات والمسيحيات والمسلمات

جان جيروم
جان جيروم


عريّ مُقلِق.. الحمّامات والمرأة الذمّية في حلب القرن الـ18

ترجمة أزدشير سليمان

القسم الأول من المقال


بتسليطها الضوء على الحمّام والعريّ، ومن خلال دراسة أرشيف المحكمة الشرعية في حلب القرن الثامن عشر، تُبرز المؤلفة إليز سمرجيان، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في Whitman College، المُخجِل والمُضمر في تواريخنا المحلية واليومية. وقد يتبدى أحيانًا، في ثنايا هذه الدراسة، أننا إزاء عوالم "ألف ليلة وليلة"، بغرائبيتها وسورياليتها، وهي تتحفنا بوصف تفصيلي شيّق وتحليل مُتبصّر للسياقات الاجتماعية والسياسية والفقهية والتاريخية وللتفاعلات الانسانية المُثقلة، وتُجادل بوطأة التاريخ والنص والغيب والرقيب والهوامات الجنسية على الأجساد حتى في أدق خصوصياتها. نُشر المقال في International Journal of Middle Eastern Studies وتحصل على جائزة أفضل مقال لجمعية الدراسات السورية العام 2014.

هنا القسم الأول من المقال...

إبان القرن الثامن عشر، تجاوز غير المسلمين والنساء الحدود الاجتماعية خلال فترة زيادة الاستهلاك العالمي، ما دفع المسؤولين العثمانيين إلى التدخل. فعلى المستوى الإمبراطوري، أصدر السلطان مراسيم لتقييد مثل هذه التجاوزات، متبعًا بذلك مسار القوانين السابقة التي كانت تنظم الأماكن العامة بما في ذلك الحمّامات. وفي حلب، تجلى الانعكاس المحلي لهذه الاتجاهات في القرن الثامن عشر من خلال زيادة مراقبة العريّ والاتصال بين المسلمين وغير المسلمين داخل حمّامات المدينة. فقد اشترطت اللوائح أن يوفر أصحاب الحمامات أدوات استحمام منفصلة للمسلمين وغير المسلمين، وحُظر الاستحمام المُشترك لأفراد من طوائف مختلفة وللنساء على وجه الخصوص. وبمساعدة النقابات - وبدرجة أقل ممثلي المِلل - سُجلت جداول الاستحمام المعقدة للنساء المسلمات وغير المسلمات في المحكمة لدعم سياسات الفصل. وأعلن الفقهاء ممن ناقشوا متطلبات الحشمة للنساء المسلمات أن النساء غير المسلمات (الذمّيات) ينبغي أن يُعامَلن كرجال غرباء من حيث منعهنّ من النظر إلى امرأة مسلمة عارية.

وشُيِّدت أحكام الشريعة الصادرة عن المحكمة على المنوال نفسه، ما يشير إلى أن المرأة الذمية كانت فئة اجتماعية متقلقلة وحدية بفعل تصنيف نظرتها في بعض الظروف على أنها ذكورية. ووضعت النخب الذكورية المسلمةن والنقابات المحلية، في نهاية المطاف، لوائح استحمام منفصلة لحماية نقاء النساء المسلمات من الخطر الذي تشكله الذميات.

في 24 كانون الثاني (يناير) 1762، جرى التوصل إلى اتفاق مطوّل بين أعضاء نقابة أصحاب الحمامات ومفاده الأمر بفصل النساء المسلمات عن غير المسلمات في حمّامات حلب في أيام محدّدة بحكم قضائي "المرأة الذمّية كالرجل الأجنبي" ولذلك فمن الأصح ألا تنظر إلى أي جزء من جسد المرأة المسلمة". قلب هذا البيان الترتيب النموذجي للامتياز حسب الجنس والدين في التسلسل الهرمي الاجتماعي العثماني. إذ كيف يمكن أن ينتج عن الاستحمام مختلِط الطوائف، ما يكفي من القلق لدفع الفقيه إلى استنتاج أن جنس المرأة غير المسلمة يمكن أن يتحول فجأة من أنثى إلى ذكر؟ وتشكل وثيقة 1762 واحدة من عشر قضايا من سجلات محكمة الشريعة في حلب بين العامين 1726 و1795 التي سعت إلى تنظيم حمّامات المدينة.

ووثق المؤرخون تصاعداً أوسع في اللوائح التي استهدفت النساء والأقليات الدينية في أنحاء الإمبراطورية خلال القرن الثامن عشر. وركزت تواريخ عديدة على اللباس - وهو مؤشر رئيس لكل من الوضع الاجتماعي ومدى السيطرة الإمبراطورية - خلال هذه الفترة من الأزمة الاجتماعية والسياسية.

وبسبب من توكيد رأس المال الاجتماعي عبر عروض الملابس في المجتمع العثماني، فقد أسفرت إزالتها إلى وضع النظام الذمّي بأكمله، القائم على التقاليد الإسلامية المبكرة التي تؤكد تفوّق الذكور المسلمين، في حالة تغير مستمر. ويُظهر توثيق الأرشيف، القلق المتزايد بشأن العُريّ والاستحمام المختلط بين الطوائف في حلب القرن الثامن عشر، ويكشف كيف شكّل جسد الأنثى مجالًا للنزاع، وبناء عليه، "أي جسد الأنثى"، استُخدمت تعريفات العُري لتحديد الهوية المجتمعية، حيث خضعت النساء لمراقبة أشد من تلك الخاصة بالرجال لأن احتشام الإناث كان مفضلًا دائمًا.

واستكشفت الدراسات الحديثة الفئات المتداخلة بين الجنس والدين التي شكلت المحاور المعقدة والمتقاطعة للتسلسل الهرمي الاجتماعي العثماني. ويُظهر الانتباه إلى الهويات متعددة الطبقات للرعايا العثمانيين تعقيد العلاقات الجنسانية بسبب علامات أخرى على الوضع الاجتماعي. فبشكل عام، ثمة امتياز للرجل غير المسلم على المسلمة، في حين تُصنف المرأة المسلمة فوق المرأة غير المسلمة. وأظهر مارك ديفيد باير Marc David Baer أن التصنيفات الاجتماعية المرنة في اسطنبول القرن السابع عشر، ساعدت على استيعاب المتحولين المسلمين الجدد، ومع ذلك كانت المرونة الزائدة مصدر قلق لرجال الدين المسلمين والدولة، ممن سعوا أحيانًا إلى وقف مثل هذا العبور وتعزيز التسلسل الهرمي الاجتماعي. فالانتقال من فئة إلى أخرى، وضع المرأة في موقف حدّي حيث افتقرت إلى هوية دائمة ومستقرة وبالتالي شكلت خطرًا. تميل هذه الحالة الحدية المسبّبة للقلق - أي قدرة الأفراد على التقلب بين الفئات الاجتماعية- إلى تخلل الخطاب الاجتماعي في أوقات الأزمات. درور زئيفي Dror Ze’evi أظهر من جهته أن عدم استقرار التعريفات الجسمانية للذكور والإناث دفع الفقهاء العثمانيين الحديثين الأوائل إلى وضع حدود قانونية لتعريف الجنس بشكل أكثر دقة ومن ثم تجنب الفوضى الاجتماعية (الفتنة) التي كان يُخشى اندلاعها إزاء عدم وضوح الجنس. وتتفاعل الدول بدورها، مثل الفقهاء، مع أزمات النوع الاجتماعي من خلال فرض بنية، لها شكل هوية اجتماعية هرمية، على المجموعات الاجتماعية غير المُطابِقة من أجل استعادة النظام.

كما دفع عدم اليقين حول الحيز المناسب للنساء والأقليات الدينية في المجتمع العثماني، السلطات، إلى زيادة إنفاذ أحكام الملابس، أحيانًا من طريق التهديد بالقتل أو غير ذلك من العقوبات الشائنة، من أجل دعم التمييز الاجتماعي للمرأة والأقليات الدينية في وقت كانت تنكمش فيه "أحكام الملابس". ومن ثم وُضعت، في القرن الثامن عشر، لوائح أكثر صرامة في الحمّام داخل بيئة من الاستهلاك المُبهرج، والتزمت الديني المتصاعد، وترسيخ نظام المِلل. كما اعترض رجال الدين المسلمون والمسيحيون على طمس الحدود في الممارسات الاجتماعية اليومية والتأثيرات الخارجية المُفسِدة في مجتمعاتهم الدينية. وإلى جانب سجلات المحكمة، تكشف السجلات والخطابات التي كتبها رجال دين مسلمون ومسيحيون معاصرون، محاولة لتثبيت الحدود الاجتماعية وفرض الامتثال لفصل اجتماعي أكثر صرامة.

وتمكنت النخب المسلمة، بالوسائل العديدة المُتاحة لها، والتي تفوق إمكانيات الذمّيين، من تأكيد تفوقها الموضعي من خلال الأجهزة القانونية والسياسية لتنظيم فضاء الحمّامات، وهو موقع مشبوه غالبًا بسبب ارتباطاته الثقافية بالانحراف الاجتماعي والأخلاقي. وأدى القلق المتزايد من العري إلى لوائح تستهدف النساء المسلمات وغير المسلمات، ما يشير إلى أن المجموعتين الاجتماعيتين كانتا تُعتبران تهديدًا للنظام العام ورأس المال الرمزي الذي كانت النخبة من الذكور المسلمين تمتلكه. وارتبطت المحاولات الجديدة لتنظيم الحمّام في هذه الفترة بالتأديب المكثف للجسد الاجتماعي. فعلى مدار القرن الثامن عشر، قامت لوائح الحمامات في حلب بفصل مجموعات النساء، تدريجيًا، وخصصت المزيد من الوقت والمساحة للنساء المسلمات حتى في الحمّامات الموجودة في الأحياء الحضرية غير المسلمة.

أزعمُ أن هذه السياسات سعت إلى تحديد نقاء المرأة المسلمة وتفوقها على نظيرتها غير المسلمة ومن ثم شكل أنثوي مثالي من خلال هذا البنية المزدوجة. وجرى "تخصيص أو تعريف الأفراد" هذا من خلال التشديد الخطابي للحدود المجتمعية، وتجريب أنظمة تنظيمية جديدة، وتطبيق طرق جديدة للمراقبة. وبرغم ذلك، ثمة تناقض داخلي ضمن هذه السياسات: فعدم اليقين الفقهي المتصل بالمرأة الذمّية وذكوريتها أثناء الاستحمام المختلِط الطوائف، قوّض النظام الذي سعت النخب المجتمعية إلى الحفاظ عليه. كما يشير تكرار مثل هذه السياسات أيضًا إلى أن السلطات ربما واجهت صعوبة في إنفاذها.


الذمّيون في النظام العثماني للأشياء

تزامن اندماج الإمبراطورية العثمانية المتزايد في الاقتصاد العالمي في القرن الثامن عشر، مع زيادة مراقبة الأقليات الدينية والنساء. وأسفرت التغييرات في الاستهلاك عن رد فعل ديني غاضب ضد ما اعتبره رجال الدين المسلمين والمسيحيين تدهوراً أخلاقياً في العالم. وفي الوقت نفسه، أدى تشديد الحدود بين المجتمعات الدينية وإنشاء نظام الملل إلى ترسيخ سلطة رجال الدين على مجتمعاتهم الدينية. ومع اندماج العثمانيين في الاقتصاد العالمي، بدأ العديد من غير المسلمين الميسورين في ارتداء أحدث صيحات الموضة العالمية، وطمس الحدود الدينية وتجاهل قوانين "الإنفاق". كما ازدادت جرأة النساء العثمانيات ممن انتمين إلى النخبة، في ملابسهن، فارتدين حجابًا شفافًا محظورًا وعباءات تبرز شكل الجسد مصنوعة من أقمشة ملونة وزينة من الفراء، اعتبرتها الدولة بمثابة مظاهر تفاخر بالثروة وزي استفزازي جذب انتباه الذكور في الفضاء العام. وقد وثق العمل الرائد الأخير لمادلين زلفي Madeline Zilfi رد الفعل العنيف ضد هذه التجاوزات، بما في ذلك "فرمان" السلطان عثمان الثالث للعام 1757 الذي منع النساء من دخول الأماكن العامة لأغراض خارج تلك المسموح بها في الشريعة الإسلامية.

واستهدف الفرمان على وجه التحديد، النساء اللواتي خالفن قواعد الحياء الإسلامية بارتدائهن أزياء معاصرة، ومعاطف ضيقة، وأغطية رأس فضفاضة، وأقمشة ملونة. كما أصدرت الدولة أوامر بمنع أشكال معينة من اللباس للأقليات الدينية لتعزيز تبعيتهم ومنعهم من الظهور كمسلمين في الأماكن العامة. وبالمثل، مُنع المسلمون من ارتداء ملابس غير المسلمين لأن التقليد النبوي والآراء الفقهية العثمانية أكدت أن أولئك الذين فعلوا ذلك قد تخلوا عن دينهم ومن ثم فهُم مُدانون بالردّة، وهو انتهاك يُعاقَب عليه بالإعدام.

ولم يكن السلاطين العثمانيون وحدهم من استهدف العروض الباهظة للثروة خلال عصر الاستهلاك المتزايد. ففي العام 1709، كتب البطريرك الماروني في بكركي (لبنان حاليًا) يعقوب عوض الحصروني، رسالة إلى الطائفة المارونية في حلب يشكو فيها ملابس النساء اللواتي غامرن بالخروج إلى الحمّامات العامة وإلى الكنيسة. ودان عروض الثروة هذه باعتبارها تنفر أبناء الرعية الأفقر. وأشار إلى أن النساء المسيحيات "يختلطن" [بالمسلمات] ويكتسبن عاداتهن. وأنحى البطريرك باللائمة خصيصًا على اندماج الطوائف الدينية في تدهور أخلاق رعيته من الإناث. وأشار إلى المفارقة المتمثلة في منع النساء المسيحيات من ارتداء اللون الأخضر أمام قاضٍ عثماني، في حين شعرن بالحرية في ارتداء ما يردن للكنيسة. وفي النهاية، أوصى القساوسة بالاقتراب من النساء في الكنيسة اللواتي يرتدين ملابس غير لائقة لطلب المزيد من الملابس المحتشمة، واقترح، في حال إصرار النساء، أن ينصح الكاهن "أزواجهن بالتدخل".

وانبثق خطاب أكثر تطرفاً من حركة قاضي زاده Kadızadeli (1621-1685)، سعى إلى دعم تعاليم الإسلام والقضاء على الممارسات الاجتماعية غير الأخلاقية، بما في ذلك استهلاك القهوة والتبغ. واكتسب قادة الحركة المصداقية والسلطة بتحالفهم مع السلطان محمد الرابع (1648-1687)، الذي تبنى أيديولوجيتهم المتزمتة القائمة على "التحول إلى التقوى". وسرعان ما انتشرت الحركة في إسطنبول ثم امتدت إلى المحافظات، مشكّلة ما أطلقت عليه مادلين زلفي "بؤرًا ملتهبة وسط مخاوف القرن الثامن عشر".

حدثت هذه النقاشات الاجتماعية حول الاستهلاك والأخلاق بينما كانت الدولة العثمانية تواجه عددًا من الأزمات السياسية الداخلية والخارجية: انتفاضتان رئيسيتان في بداية القرن، الخسائر الإقليمية الناجمة عن الحروب، وتنافس الأعيان الحضريين والانكشارية على جذب الباب العالي، وانتهاك غير المسلمين بشكل متزايد لمراسيم الإنفاق السابقة وتباهيهم بازدهارهم. وفي الوقت نفسه، سعى رجال الدين المسيحيون العثمانيون إلى تعزيز مركزية الدولة من خلال نظام الملل لمواجهة الاستحواذ على رعيتهم من قبل المبشرين الكاثوليك. إذ ركز الكاثوليك، الممنوعون من اعتناق الاسلام وغير المعترف بهم من قبل الدولة العثمانية، على تحويل المسيحيين الأرثوذكس إلى نسختهم من المسيحية، ليصبحوا شوكة في خاصرة رجال الدين ممن سعوا إلى السيطرة على مجتمعاتهم. وفقًا لبروس ماسترز Bruce Masters، ادعى البطريرك اليوناني (الروم) الأرثوذكسي أن هذا الدمج كان عودة إلى النظام الذي سُن في عهد محمد الثاني، لكنه كان في الواقع نتاج سلسلة جديدة من العلاقات التي خدمت مصالح السلطان والقيادة المسيحية المحلية في حلب، وكلاهما سعيا، لأسباب مختلفة، للحفاظ على الفروق الطائفية.



عريّ مُقلِق...ازدواجية الحمّام العثماني وتوبيخ "الشباب ذوي الخدود الناعمة"

ترجمة أزدشير سليمان

القسم الثاني من المقال


بتسليطها الضوء على الحمام والعري، ومن خلال دراسة أرشيف المحكمة الشرعية في حلب القرن الثامن عشر، تُبرز المؤلفة إليز سمرجيان، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في Whitman College، المُخجِل والمُضمر في تواريخنا المحلية واليومية، وقد يتبدى أحيانًا، في ثنايا هذه الدراسة، أننا إزاء عوالم ألف ليلة وليلة، بغرائبيتها وسورياليتها، وهي تتحفنا بوصف تفصيلي شيق وتحليل مُتبصر للسياقات الاجتماعية والسياسية والفقهية والتاريخية وللتفاعلات الانسانية المُثقلة، وتُجادل بوطأة التاريخ والنص والغيب والرقيب والهوامات الجنسية على الأجساد حتى في أدق خصوصياتها.

نُشر المقال في International Journal of Middle Eastern Studies وتحصل على جائزة أفضل مقال لجمعية الدراسات السورية عام 2014. بعد القسم الأول من المقال هنا القسم الثاني..

وفرت الحمامات العامة، بوصفها مساحات لممارسات الترفيه الشعبية، منفذاً اجتماعياً للمرأة العثمانية في حين كانت المقاهي، التي كانت رائجة أيضًا في تلك الفترة، حكراً على الرجال فقط. وبسبب من متطلبات الاحتشام في الشريعة الإسلامية، ازدهر اقتصاد نسائي بالكامل داخل الحمامات العثمانية. إذ قدمت العاملات في الحمامات خدمات بالغة الأهمية للزبائن خلال ساعات عمل النساء ومن ثم كان لمنع النساء من مثل هذا العمل أن يؤثر ليس فقط على دخلهن ولكن أيضًا على جهود الزبائن لتطهير أنفسهم، بما أن الحمامات الخاصة لم تكن موجودة إلا في بيوت النخب. وبهذا المعنى، كانت طقوس النقاء والصحة العامة تتطلب من العاملات والمستحمات عبور الحدود بين الفضاء العام الخاص بالرجال والمساحة الخاصة بالنساء.

ومن ثم وجد الفقهاء أنفسهم في موقف شائك وسط هذه المفارقة: فمن ناحية، كانوا مضطرين للدفاع عن المصالح الذكورية من خلال حماية حرمة المرأة، ومن ناحية أخرى، كانوا مجبرين بحكم الشريعة على السماح للمرأة بأداء الطقوس التطهيرية المطلوبة. وهكذا، بينما كان المحافظون يناقشون المكان المناسب للمرأة، لاحظ المراقبون المعاصرون ظهور النساء في الأماكن العامة أثناء مغامرتهن من وإلى حمامات حلب التي تفاخرت بضرورات الحشمة الإسلامية علنًا.

خلال هذه الفترة من النهضة الإسلامية، أدان فقهاء قاضي زاده Kadızadeli وجود المرأة في الأماكن العامة، مستندين إلى التقاليد والأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد. وأعلن زعيمهم الروحي أنه "لا ينبغي إرسال النساء ليكن مع غير الأقارب [namahremler]، ولا إلى منازلهم أو حفلات زفافهم، أو إلى الحمام العام، ولا لزيارة المرضى إذا لم يكونوا أقارب حميمين [mahremler] ، وإلا "فإن الملائكة سوف تلعن المرأة إلى حين إيابها إلى بيتها". إلى جانب الأوامر الصارمة ضد النساء في الأماكن العامة، أبقى الفقهاء المحافظون على سلطة الذكور لمنع النساء بشكل فردي من حضور الحمامات. وبرغم ذلك، كان من المستحيل فعليًا حظر النساء تمامًا لأن الفقهاء غالبًا ما اتفقوا على أن المرأة بحاجة إلى الوصول إلى الحمام بعد الولادة، وهو حكم يتوافق مع حكم الفقيه التقليدي الغزالي (المتوفى 1111 م)، الذي جادل في أطروحة حول آداب الحمام بأن" الحمام مُحرّم على النساء إلا مريضة أو نُفَسَاء".

يساعدنا هذا التوتر الخطابي بين الإدانات المتحفظة على ظهور النساء في الأماكن العامة ومتطلبات التطهير الطقسي، في تفسير كيفية تشابك مخاوف متعددة في ما يخص الحمام العام. تؤكد كتابات رجالات الأدب المسلمين والمسيحيين من تلك الفترة القلق بشأن الحمام بسبب ارتباطه بالجنس غير المشروع والفجور العام. فها هو الفقيه الدمشقي عبد الغني النابلسي (1640-1731) يقدم في عمله لتحليل الأحلام، قراءة مُجنسة للغاية لرمزية الحمامات، حيث ترتبط الحرارة (الحميم) ارتباطًا مباشرًا بكل من الأنوثة والجنس غير المشروع. ويكتب"ومن رأى أنه حمامي أو القائم فيه لا يخدم الناس في الحمام فإنه قواد ولد زنا لا يطاوع الناس ولا ينتفع منه". فالحمام، بالنسبة للنابلسي، مكان للنميمة التشهيرية، لأن الشخص الذي يزوره لفترة طويلة من الوقت قد يتكلم بالسوء عن امرأة وستنتشر التفاصيل المسيئة لمثل هذه المحادثة إلى المجتمع بأكمله. ويكتب أيضًا أن "الحمام موضع كشف العورة"، وهو مساحة حيث يشكل عُري المرء لا محالة تهديدًا لمتطلبات الاحتشام المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية وفي تحليله لحلم الرجل ببناء حمام، يجادل النابلسي بأن ذلك يمثل "الفحشاء" و"يشيع عليه ذلك ويخوض فيها ويفتش عن العورات".

وبالرغم من أن النابلسي جَنسَن الحمام وربطه بالسلوك الجنسي غير المشروع للمرأة، إلا أن بعض الكتّاب ربطوا ذلك بالجنس غير المشروع بين الرجال. ففي القرن الثامن عشر، قدم أحمد الحيمي الكوكباني (ت 1738/39) موضوعات مماثلة. وأشاد، في عمله على الحمامات، بجمال الشباب المرتادين للحمام، وأسهب في رواية مشاهد حكائية عن المغازلة بين الزبائن والفتيان. في وقتٍ دعت فيه المراسيم السلطانية التي ترجع إلى أواخر القرن السادس عشر مفتشي الحمامات إلى توبيخ "الشباب ذوي الخدود الناعمة" الذين أفسدوا المستحمين الذكور الأكبر سنًا. وتشير هذه المراسيم، بوصفها جزءًا من خطاب أوسع حول العلاقات الجنسية المثلية في الحمامات العثمانية، إلى وجود روابط بين الحمام والفجور الجنسي، ويشير والتر أندروز Walter Andrews إلى أن السلطات العثمانية كانت مستعدة للتدخل في مثل هذه الأمور فقط عندما يشتكي الجمهور أو عند تعرض فتى لاعتداء جنسي.

وربط المسيحيون أحيانًا، مثل نظرائهم المسلمين، الحمامات بالفجور الجنسي. ففي القرن السابع عشر، امتدح الرحالة الأرمني البولندي سيميون ليهاتسي Simeon Lehatsi حمامات حلب الساحرة، لكنه أدان أيضًا التجاوزات الأخلاقية داخل الحمام بطريقة مشابهة لكل من المسلمين العثمانيين والمستشرقين الأوروبيين كاتبًا أن النساء العربيات "متهتكات ووقحات، لا يخجلن من بعضهن البعض ويمشين عاريات بشكل مُخٍز. يذهبن إلى الحمام عاريات وسافرات، وأن الخدم يُضجعون الرجال والنساء ويغسلون أعضائهم الحميمة". قضى ليهاتسي وقتًا طويلاً مع الأرمن في بلاد الشام، ومن المحتمل أن بعض وجهات النظر هذه قد تأثرت بمخبريه المسيحيين المحليين. وتؤكد إدانته لعدم احتشام الرجال والنساء في الحمامات على استحواذ خطاب الافراط الجنسي المتصل بثقافة الحمامات على مخيلة كل من الأخلاقيين المسيحيين والمسلمين في هذه الفترة.

وبعد قرن من الزمان، سيعرب القس الروم الأرثوذكسي ميخائيل بريك عن استنكاره للنساء المسيحيات اللائي يرتدين ملابس غير لائقة ويتصرفن بشكل غير أخلاقي في الحمامات العامة والمتنزهات وحتى المقابر. وأشار، في تأريخه لعام 1759، إلى أن الثراء المسيحي أدى إلى الفساد، حيث كانت النساء "تدخن التبغ في المنازل والحمامات والحدائق، وحتى في مشاويرهن بجوار الأنهار أثناء مرور الناس". وكما يوضح جيمس جريهان، لم يكن استهلاك التبغ قد أصبح أمرًا مألوفًا بين الرجال، مما يجعل استهلاك النساء له أكثر إثارة". واشتكى بريك من أن النساء المسيحيات، وبتدخينهن مادة ترتبط بشكل متزايد باستجمام الذكور في الحمامات العامة، "تعدين الحدود" بشكل واضح.

تنظيم الحمامات في حلب القرن الثامن عشر

تكشف سجلات محكمة حلب الشرعية عن الطريقة التي تلاقت بها المصالح المحلية والإمبراطورية لتنظيم تعدي الأقليات الدينية والنساء في القرن الثامن عشر. إذ كانت حلب، في ذلك الوقت، ثالث أكبر مدينة في الإمبراطورية العثمانية، وتمتعت بموقع مركزي على طول طريق الحرير. ويقدر تاريخ أبراهام ماركوس الاجتماعي الأصيل لحلب أن غير المسلمين شكلوا ما بين 20 و 24 في المائة من سكان المدينة في القرن الثامن عشر، وهي نسب تبرر بالتأكيد المزيد من استكشاف تفاعلات السكان اليومية داخل مثل هذا المجتمع غير المتجانس.

وضمت حلب العثمانية خمس محاكم شرعية، حيث نُظِر في قضايا من جميع الأنواع، من الجرائم الصغيرة إلى القتل، حكم فيها القاضي، ولخصها كاتب المحكمة في سجل محاكمته. وتستند الدراسة الحالية إلى مسح لستة وخمسين سجلاً من سجلات محاكم الشريعة الإسلامية، حيث برزت سلسلة من القضايا المتعلقة بالحمامات بين عامي 1718 و 1795. إذ اكتُشفت عشرة تسويات قضائية سعت إما إلى فرض متطلبات لباس محددة للرجال داخل الحمامات أو لتفويض الفصل بين المستحمات المسلمات وغير المسلمات، في حين لم تظهر مثل هذه الاتفاقات قبل أو بعد هذه السنوات في السجلات الأرشيفية. وركزت حالة واحدة فقط على موضوع حياء الرجل واستهدفت جميع المستحمين الذكور بغض النظر عن دينهم.

كما كانت غالبية اللوائح تتعلق بالنساء، فسبع من عشر حالات كانت محاولات لحظر الاستحمام مختلِط الطوائف بين عامي 1726 و1795. وكانت معظم الوثائق المسجلة في محاكم حلب عبارة عن اتفاقيات بين أعضاء مسلمين من نقابة عمال الحمامات الذين قاموا، كما هو الحال في الأمور الأخرى، بتوثيق اتفاقياتهم في المحكمة. غير أن وثيقتين اتفاقيتين سُجلتا بين نقابة أصحاب الحمامات والرجال المسيحيين واليهود ممن مثلوا نظام المِلة العثماني المتفق عليه. ولم يكن أي من المدعين في هذه القضايا امرأة، وفي الواقع، لم تظهر النساء أمام المحكمة على الإطلاق.

ويستحق الدور المهم الذي لعبه نظام النقابة في السوق العثماني وفي حفظ النظام بشكل عام استطرادًا وجيزًا. إذ كانت النقابات وسطاء بين السوق والدولة، تنظم السلع والخدمات الهامة، بما في ذلك الحمامات العامة. ونظرًا لأن الضبط المديني المبكر ممثلًا بالشرطة كان غالبًا ضعيفًا، فقد قامت كل من النقابات والمجتمعات المحلية بمراقبة السلوك غير الأخلاقي لأعضائها. ورصدت النقابات الغش في الأسعار والأوزان وأسعار السلع والخدمات المنظمة في الاقتصاد العثماني، بما في ذلك رسوم الحمامات. ونظمت السلطات العثمانية الأسعار وسيطرت على الخدمات الأساسية والمواد الغذائية بكفاءة من خلال هيكل النقابة.

ولم تكن كل النقابات مسلمة حصريًا، بالرغم من أن رجال النقابات المسلمين وضعوا لوائح الحمامات المسجلة في المحاكم الشرعية في حلب. وكان ممثلو نظام الملة إلى جانب النقابات، ذراعًا رئيسيًا آخر للسلطة العثمانية. وكُلِّف كلاهما بتحصيل الضرائب والتمسك بالمعايير الأخلاقية والقانونية التي وضعتها الدولة. ولذلك، شكّل ممثلو النقابات والملة امتدادين مهمين للسلطة العثمانية وعُهد إليهما بضبط الحدود التي لم ترغب الدولة ورعاتها من ذكور النخبة في تجاوزها.

في المقابل، أكدت السلطات العثمانية سيطرتها المباشرة على المناطق العامة - الحمامات والمساجد والأسواق - من خلال لوائح السوق، والمراسيم الإمبراطورية، والفرمانات، والآراء القضائية. كما ساعد السكان المحليون، وهم المنسقون الرئيسيون للإدانات العامة، في الضبط غير المباشر للمساحات الحضرية الخاصة وشبه الخاصة. وشهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تصاعدًا في مراقبة النساء وغير المسلمين من قبل السلطات العثمانية والنخب المسلمة المحلية التي سعت إلى تأديب كلا المجموعتين، وخاصة النساء، عندما تجاوزن الحدود المقبولة.

وشهدت حلب طفرة في الضبط الجنسي على المستوى المحلي في القرن الثامن عشر على وجه الخصوص. وشمل هذا الملاحقات القضائية لانتهاكات الأخلاق العامة، مثل البغاء، والاختلاط بين الرجال والنساء، والجماع المثلي. ونُفذ كثير من أعمال الضبط والمراقبة هذه من قبل البلدات والقرى والعائلات حيث عرّف القانون العثماني هذه المجتمعات على أنها "أجسام وهيئات قانونية" مكلفة بمراقبة أفرادها. أظهرت فاريبا زارينباف Fariba Zarinebaf أنه بحلول القرن الثامن عشر، وسعت الدولة العثمانية بشكل كبير من قدرتها على مراقبة سكان إسطنبول، باستخدام مزيج من الأشكال القديمة للمراقبة المجتمعية والشرطة الحديثة والسجون.



عريّ مُقلِق.. ضبط استحمام النساء اليهوديات والمسيحيات والمسلمات

ترجمة أزدشير سليمان

القسم الثالث من المقال


بتسليطها الضوء على الحمام والعريّ، ومن خلال دراسة أرشيف المحكمة الشرعية في حلب القرن الثامن عشر، تُبرز المؤلفة إليز سمرجيان، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في Whitman College، المُخجِل والمُضمر في تواريخنا المحلية واليومية، وقد يتبدى أحيانًا، في ثنايا هذه الدراسة، أننا إزاء عوالم ألف ليلة وليلة، بغرائبيتها وسورياليتها، وهي تتحفنا بوصف تفصيلي شيق وتحليل مُتبصر للسياقات الاجتماعية والسياسية والفقهية والتاريخية وللتفاعلات الانسانية المُثقلة، وتُجادل بوطأة التاريخ والنص والغيب والرقيب والهوامات الجنسية على الأجساد حتى في أدق خصوصياتها.

نُشر المقال في International Journal of Middle Eastern Studies وحصل على جائزة أفضل مقال لجمعية الدراسات السورية العام 2014.

بعد القسم الأول من المقال والثاني.. هنا الثالث.

استهدف عديد من القوانين الإمبراطورية العثمانية (kanunname)، التي تعود إلى القرن السادس عشر، الاختلاط العام من خلال منع الرجال والنساء من التجمع بالقرب من الحمامات ومصادر المياه العامة. وتكشف سجلات المحكمة أن الرجال كانوا، وبالرغم من الحظر الوارد في القانون الإمبراطوري العثماني، يتسكعون أحيانًا في الحمامات وحولها أو يختلسون النظر من أسطح المنازل من أجل إلقاء نظرة على النساء أثناء مغامراتهن للاستحمام. كما اقتحموا، في مناسبات أخرى، الحمّامات وانخرطوا في أشكال مختلفة من المضايقات بل واعتدوا على المستحمات، ما عزز ارتباط الحمّامات بالخطر.

تسمي مادلين زلفي هذه "المساحات الدنيوية" - مثل المقهى والحانة والحمام - "مواقع ملتهبة"، حيث تفاعل السكان المتنوعون بطرق أثارت شكوك السلطات. ومع أن الصفوة من المسلمين اعتبروا غير المسلمين في الحمامات مرفوضين بشكل عام، لم يُعثر على أي دليل على أن السلطات العثمانية منعت أهل الذمة من دخول الحمامات، فبعد كل شيء، يمكن لمثل هذا الحظر أن يعرض الصحة العامة للخطر. ومع ذلك، كان وجود مجموعات تابعة، وتحديدًا النساء وغير المسلمين، في الحمامات مصدر قلق في كل من الخطابين الإمبراطوري والمحلي لأن كلاهما شكل خطراً. وتبدى الحل العثماني لهذه المشكلة الأخلاقية على أفضل وجه في لوائح السوق للعام 1640 (narh defteri) التي نظمت الاتصال بين المستحمين المسلمين وغير المسلمين. فبدلاً من تحديد أوقات استحمام منفصلة، طُبقت لوائح الملابس التي نصت على الفصل الجسدي أثناء الاستحمام الحميم للمسلمين وغير المسلمين. ودعت القوانين المستحمين المسيحيين واليهود إلى ارتداء علامات مميزة على ملابسهم، وتضمنت تعليمات خاصة للنساء اللائي طُلب إليهن استخدام أحواض منفصلة، مُحددة وفقًا للدين، أثناء الاغتسال.

وهكذا كان على أصحاب الحمامات تقديم أحواض غسيل ومناشف وشفرات منفصلة للذميين والمسلمين. بالإضافة إلى ذلك شُجّع المستحمين على استخدام مناطق الاستحمام الخاصة (الخلوة) التي عادة ما تكون مدمجة في السمات المعمارية للحمام، ربما في زوايا غرفة ساخنة كبيرة، لاستيعاب المستحمين أثناء غسل المناطق الحميمة من أجسادهم. وقد وُصفت طقوس الاستحمام العامة، تلك التي انخرط فيها كل من الرجال والنساء في سلسلة من عمليات تقشير الجلد وإزالة الشعر في الحمامات العامة منتهكين الأحكام القضائية التي تطالب ببقاء تلك الأجزاء من الجسم مغطاة حتى أثناء الاستحمام، من قبل الكتّاب المعاصرين. كما تشير إحالة المستحمين إلى استخدام حوض معين qurna (طشت أو جرن)، وهو غالبًا ما يكون حوض رخامي ثابت تحت صنبور، إلى أن ايديولوجيا النقاء والطهرانية كانت مضمرة في تلك الأوامر.

وفي العام 1762، ثبتت نقابة أصحاب الحمامات اتفاقية لفرض اللوائح الإنفاقية التنازلية التي تستهدف الرجال، التي نصت على التزام الحمامات:

بتوفير منشفة "فوطة" ذات علامات تُوصف لاحقَا، ويخصص لكل مسلم "فوطتان" إحداهما تُسمى az¯ar "إزار" وتُستخدم حول خصره، وعلى جانبه شريط أحمر "كنار" بعرض إصبعين، بينما ينبغي أن تكون "الفوطة" الأخرى من قماش أبيض وعارية من العلامات. وبمقتضى ذلك، من حق كل مسلم أن يدخل أي حمام دونما اعتبار لفقره أو ثروته، في حين ينبغي على الرجال المسيحيين واليهود أن يلبسوا أولًا منشفة "فوطة" سوداء تُعرف باسم mi_zar "مئزر" خالية من أي علامات مميزة، وبعد مغادرة الغرفة الساخنة يُعطى لكل مسيحي ويهودي اثنان من هذه المناشف ذات الأشرطة السوداء على جانبها لتمييزهم "عن غيرهم".

في حين سعت هذه المبادئ التوجيهية لتقليل التمييز بين الأغنياء من الرجال المسلمين والفقراء منهم، حددت النقابة، بالاشتراك مع المحكمة، الممارسات الإنفاقية التي من شأنها أن تميز المسلمين عن أهل الذمة. وتستحضر اتفاقية القرن الثامن عشر هذه الضوابط الإسلامية السابقة الموجودة في أطروحة أبو يوسف الحنفية التأسيسية في القرن الثامن حول الضرائب "الخراج"، والتي أوعزت للمستحمين الذكور "بارتداء قلائد من الخيوط الحمراء أو السوداء أو إظهار رموزهم الدينية، مثل الصلبان في حالة المسيحيين". وفي حين تعترف معظم الدراسات بأن قوانين الإنفاق نادرًا ما أُنفذت تاريخيًا، إلا أن إنفاذها، كان يمكن أن يؤدي إلى معاقبة كل من صاحب الحمام والمستحم في حال عدم الامتثال.

يمكن أن تتضمن قوانين الإنفاق المُطبقة داخل الحمامات أكثر من مجرد تمييز المناشف والرموز. ففي القدس العثمانية في القرن السادس عشر والقاهرة القرن الثامن عشر، أُمر الرجال غير المسلمين بارتداء أجراس حول أعناقهم أثناء دخولهم الحمامات لتنبيه المستحمين المسلمين لتغطية أجزائهم العارية. وعندما صدرت مثل هذه الأوامر في القاهرة، كان أصحاب الحمامات يخشون أن يخسروا أعمالهم نتيجة لذلك، وقاموا برشوة أغا الإنكشارية، مُصدر المرسوم، بهدية مالية سخية، فألغى الأمر بعد فترة وجيزة. وصدر أمر مماثل في حلب عام 1795. وخلافًا للأوامر السابقة، فقد تطلب الأمر من الرجال غير المسلمين أن يرتدوا أجراسًا على نعال الحمام (القبقاب) أثناء الاستحمام وأن يستخدموا مناشف حمام محددة مصبوغة باللون الأسود على الجانبين لتمييز الرجال المسيحيين واليهود عن الرجال المسلمين. ورغم اختلاف جوانب معينة من القوانين وفقًا للسياق الزمني والجغرافي، إلا أن ثمة اتساق عام في الشرط القانوني القاضي بأن يميز الرجال غير المسلمين أنفسهم أثناء ارتياد الحمامات العامة. إلا أن المعايير الخاصة بالنساء كانت، رغم ذلك، أكثر قسوة بكثير.

ضبط استحمام النساء

في حلب القرن الثامن عشر، وبدلاً من إخضاعهن لأنظمة الملابس والمناشف، نُظمّت النساء غير المسلمات جسديًا وفصلن عن النساء المسلمات من خلال جداول الاستحمام. ففي الجدول الزمني الأول للحمامات، المسجل في عام 1726، خُصصت معظم أيام الاستحمام للأقليات الدينية في الأجزاء من المدينة حيث يشكلون أغلبية، إلا أن الأحكام اللاحقة منحت النساء المسلمات تدريجيًا مزيدًا من الوقت في الحمامات الواقعة في الأحياء التي يغلب عليها الطابع الذمي. وبالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما منعت المحكمة النساء المسيحيات واليهوديات من الاستحمام معًا، أو منحتهن الحد الأدنى من التداخل. فيما خُصصت جميع الأيام المتبقية للنساء المسلمات، وبالتالي فُرض تفوق النساء المسلمات في التسلسل الهرمي الاجتماعي العثماني على النساء الذميات، اللائي كن متفوقات على العبيد فقط.

كما لوحظ سجلان إضافيان يفصلان أوقات الاستحمام بين النساء المسيحيات واليهوديات بترتيب متتالٍ في سجل المحكمة في 26 و 27 مارس 1752، وكلاهما كان يمثل اتفاقًا مع أعيان الطائفتين المسيحية واليهودية. كان السجل بين ممثلي المجتمع المسيحي ونقابة أصحاب الحمامات، ووفقًا للسجل تحدث ممثل واحد (وكيل) في المحكمة عن كل من الطوائف المسيحية المعترف بها رسميًا (الروم الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس والآشوريون الأرثوذكس والمسيحيون الموارنة). واتفق هؤلاء الممثلين المسيحيين وكبير ممثلي نقابة أصحاب الحمامات في حلب "شيخ الكار"، الحاج أحمد بن الحاج محمد، على تحديد أيام استحمام للنساء المسيحيات في حمامات مختارة. وبعد يوم واحد من إثبات جدول حمامات النساء المسيحيات، أُدخل تضمين أكثر اختصارًا يفرض وجود حمامات محددة بالإضافة إلى أوقات استحمام مخصصة للمرأة اليهودية في سجل المحكمة. إذ اتفق يوسف بن ناتان Yusuf walad Natan ممثل الجالية اليهودية في حلب، مع الحاج أحمد على استحمام النساء وفقًا لجدول محدد.

يشير تحليل هذين الجدولين إلى بعض التداخل بين النساء المسيحيات واليهوديات في حمامين، وسُمح للمجموعتين بالاستحمام في حمام التل الواقع في حي بحسيتا اليهودي، وإن كان ذلك في أيام استحمام منفصلة. كما سُمح باستحمام النساء اليهوديات والمسيحيات أيام السبت في حمام البكاش، ما يشير إلى سياسة فصل أقل صرامة. ومُنحت النساء اليهوديات يومًا واحدًا فقط في الأسبوع لزيارة حمام التل على الرغم من موقعه داخل الحي اليهودي، في حين مُنحت النساء المسيحيات اللائي يعشن في الأحياء المجاورة يومين للاستحمام. يمثل هذا خروجًا عن الجدول الزمني السابق لعام 1726 الذي سمح لمجموعة واحدة فقط من أهل الذمة بالاستحمام في أي حمام معين في اليوم المحدد، بينما كانت أيام الاستحمام الأربعة المتبقية في حمام التل مخصصة للنساء المسلمات.

يُظهر الفحص الدقيق لجداول الحمامات محاولة لتنظيم القرب المادي للنساء المسلمات وغير المسلمات، لا سيما في الحمامات الواقعة داخل المناطق المكتظة بالسكان المسيحيين واليهود. وتوضح الجداول أن حمامات النساء المسيحيات كانت موجودة في الحي المسيحي بالقرب من باب النصر، شمال وسط حلب، بينما يقع حمام التل في حي بحسيتا اليهودي بالقرب من مدخل الحي. وعملت الجداول الزمنية أيضًا على تنظيم أيام الاستحمام. إذ لم يوفر أمر صادر عام 1794 أوقاتًا للنساء المسيحيات للاستحمام يومي الجمعة والأحد في الحمامات المختارة. ومُنحت النساء اليهوديات فرصة ضئيلة أو معدومة للاستحمام في أيام السبت. ويبدو أن هذه الجداول تفترض أن النساء المسيحيات واليهوديات لا يرغبن في الاستحمام يوم السبت لأن ذلك سيتعارض مع الأنشطة الدينية، وفي المقابل، تفترض الجداول أن المرأة المسلمة ستستحم في أيامها الدينية.

من الصعب تقدير كم كانت هذه الجداول مُقيدة بالنسبة للمقيمات، لأن القائمة التي اتفق عليها القائمون على الحمامات لم تكن عبارة عن قائمة كاملة لحمامات حلب التسعة والأربعين (اثنان وثلاثون منها تقع داخل أسوار المدينة). إذ تنطبق الجداول فقط على عشرة إلى ستة عشر حمامًا، يقع معظمها بالقرب من باب النصر، وبالتالي تلك التي كان من المرجح أن يستخدمها اليهود والمسيحيون. وبحلول أواخر القرن، حدت السياسات بشكل كبير من خيارات الاستحمام للنساء غير المسلمات في أحيائهن، وذلك لتقليل وجود النساء الذميات النجسات وجعل المساحات أكثر ملاءمة لاستخدام النساء المسلمات.

وفي العام 1726، أعطيت النساء اليهوديات خمسة أيام في الأسبوع للاستحمام في حمام التل. بينما خُصص يوم واحد فقط للاستحمام في جدول العام 1752. وفي العام 1794، عادت المحكمة إلى تخصيص أكبر، إذ منحت النساء اليهوديات أربعة أيام للاستحمام، بيد أنها، وبعد عام، خفضت هذا التخصيص إلى ثلاثة أيام في الأسبوع. وبالمثل، يُظهر فحص جدول حمام بهرام باشا أن المحكمة حدت تدريجيًا من وصول النساء المسيحيات إلى هذا الحمام، وهو مبنى عام شيده العثمانيون في عام 1583 لخدمة المجتمع المسيحي على وجه التحديد. وفي عام 1726، أمر القاضي بستة أيام استحمام للنساء المسيحيات في بهرام باشا. وقُلصت إلى يومين في الأسبوع بحلول عام 1752. وبحلول نهاية القرن، أعادت المحكمة العمل بيوم واحد للاستحمام ، ما وفر ثلاثة أيام في الأسبوع للنساء المسيحيات في آخر جدولي استحمام في ذاك القرن. كان حمام الحي هذا في حارة بقيت مسيحية بحدود 93 بالمائة حتى القرن العشرين.

ربما كان لتقييد الوصول إلى الحمامات العامة تأثير أكبر على النساء اليهوديات. فاليهودية، مثل الإسلام، ألقت بعبء الطهارة على النساء أكثر من الرجال. ووجدت الدراسات أن النساء اليهوديات خالفن القواعد في الممارسة بسبب الصعوبة التي واجهنها عند محاولتهن الوفاء بمتطلبات النقاء، لذلك، قد لا يكون من غير المعتاد أن تستحم النساء اليهوديات مع نظيراتهن المسيحيات والمسلمات أو استخدام الحمامات العامة بما يتعارض مع الشريعة الحاخامية. فقد استوعبت الحمامات مثل حمام الخراب (حمام اليهود) في دمشق النساء اليهوديات من خلال توفير حوض "ميكفاه" من أجل التطهير الطقسي المطلوب. ويجدر النظر في كيف أن تقييد الوصول إلى الاستحمام - وهو مطلب طقسي قبل ممارسة الجنس وبعد الحيض في الشريعة الإسلامية - كان أكثر إزعاجًا لليهوديات منه للنساء المسيحيات في حلب في القرن الثامن عشر.

واستمرت القيود الصارمة ضد الاستحمام المختلِط الطوائف في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر. وظهرت اتفاقيات مطولة في العامين 1794 و1795. كما وضع القاضي لائحة بأوقات الاستحمام للنساء وفقًا لطوائفهن الدينية.


تبرير اللائحة

يمكن فهم التحولات المحيرة في عدد الأيام المخصصة لكل طائفة من جدول استحمام إلى آخر بطريقتين. فأولاً، ترتبط أشد القيود التي صدرت عام 1752 بتغير المواقف الإمبراطورية تجاه غير المسلمين، حيث سعت الإمبراطورية إلى تقييد سلوك وزي غير المسلمين في فترة شهدت ما أشارت إليه مادلين زلفي باسم "حروب الملابس". وبهذا المعنى، توفر جداول الحمامات مرآة إقليمية للسياسات الموجهة إلى أهل الذمة من العاصمة الإمبراطورية. وثانيًا، قد يكون للتحولات في أوقات الاستحمام المخصصة للنساء غير المسلمات وبمرور الوقت علاقة بالتكوين الديموغرافي المتغير في حلب.

ولطالما كان تنظيم الطوائف الدينية كمجتمعات معترف بها مبدأ من مبادئ الحكم العثماني. وفي حين أن كلاً من القانون الإسلامي والعثماني جمع عمومًا غير المسلمين معًا بصفتهم "الآخر الجنسي"- الذميين أو أسوأ من ذلك، الكفار- قامت الإدارة القانونية والاجتماعية العثمانية، فضلًا عن نظام الضرائب في الدولة، بتصنيف هذه المجتمعات على أسس دينية معترف بها. وتم الاتفاق على الوثائق التي تسجل أوقات الاستحمام للنساء المسيحيات واليهوديات في عام 1752 من قبل نفس الممثلين المسيحيين واليهود الذين كُلفوا بتحصيل الضرائب. وتشير هذه الخصوصية في فصل المسيحي عن اليهودي إلى أن الوثائق تعكس وجهة نظر عثمانية معينة للتسلسل الهرمي الاجتماعي في القرن الثامن عشر، والذي لم يكن مخطّط تصنيفه إلا جنسيًا. وإجمالًا تؤكد الجداول المسجلة في المحكمة على التفوق الموقعي للمرأة المسلمة حتى في الأحياء التي تشكل فيها أقلية. وقد حدث هذا في وقت كانت فيه المدينة تخضع لنزوع نحو "بلورة طائفية"، حيث أصبح الطابع الديني للأحياء أكثر وضوحًا بشكل تدريجي. وأدى التقاء العديد من التيارات الأيديولوجية - تقليدية قاضي شاه، وترسيخ نظام الملل العثماني، والتحديث - إلى تعزيز الانقسامات الطائفية في الوقت الذي وُضعت فيه جداول الاستحمام هذه. في ضوء ذلك، تشير الجداول الزمنية إلى طريقة جديدة في التفكير، وهي شكل أكثر بطشًا من الضبط لم يكن موجودًا في السجلات السابقة، حيث ظهرت أشكال تنظيم إمبراطورية ومحلية جديدة داخل الأحياء الحضرية في حلب. وعلاوة على ذلك، تشير السجلات إلى زيادة توحيد المعايير التي حاولت ضبط عادات الاستحمام لدى النساء، إذ مُنعت النساء اليهوديات والمسيحيات من الاستحمام في أيام السبت الخاصة بهن، بينما سُمح للمرأة المسلمة بالاستحمام يوم الجمعة، مع افتراض ضمني أنها لن تذهب إلى المسجد. كما تحدد الجداول، بدورها، فئات النساء اليهوديات والمسيحيات والمسلمات من خلال تقسيم الزمان والمكان داخل حمامات حلب.

عودة إلى الصفحة الرئيسية

جان جيروم
جان جيروم


Domenico Morelli (1826-1901)
Domenico Morelli (1826-1901)












تعليقات: