حسَن العبدالله: حظُّهُ القليل وراءَهُ وراءَهُ.. والزمن طويل

الشاعر حسَن العبدالله (هيثم الموسوي)
الشاعر حسَن العبدالله (هيثم الموسوي)


معرفةُ شخصيةِ الشاعر حسَن العبدالله (1943 - 21 /6/ 2022)، تقطع الشكّ باليقين، في أن شخصية الشاعر جزء أساسي من شِعره إذا لم تكن هي كلّ شِعره. صفاتُه، نفسيته، ردود أفعاله، أفكاره وحتى تعليقاته على المواقف في أبسط الأشياء وأكبرها تحضُر في شِعره، كما هي في أعماقه كما هي في مجالسه. يمكن القول إن قراءة حسَن كشاعر، عبر دواوينه الأربعة، ونصوصه الكثيرة للأطفال، قد تحصل من دون أن تقرأه، أي بوجود صداقة غير عابرة بينك وبينه، صداقة حقيقية. وأشدّد على الصداقة الحقيقية لأن حسَن حذِر في طبعه، لا يتأقلم بسرعة، ولا يعرِض نفسَه على آخرين، ويُبقي المسافة قائمة إلى أن تزول «منها لحالها»، وعندها تأخذ منه سجيّتَه عارية ويكون في الحال الشعرية التي هي الحال الشخصية.

فحسَن لطيفٌ وشِعره لطيف، وحسَن عميقٌ وشِعره عميق، وحسَن حنونٌ وشِعره حنون، وحسَن ذاكرةٌ وشِعره ذاكرة، وحسَن راعي الضباب وشِعره راعي الضباب، وحسَن ساخر وشِعره ساخر، وحسَن ابن الخيام وشعره ابن الخيام، وتستطيع أن تَعُدّ من الآن إلى الغد خصائلَه وخصائصَه التي ستجدها ماثلة في شِعره.

الشاعر الكذّاب يظهر واضحاً ليس في فلتات لسانه التي هي شِعره، بل في كل ما يقول ويفعل، سواء وقفَ أو قعَد أو أكل أو نام أو تحدّث، ومهمّةٌ الإشارة إلى أن الشعراء، وكذلك الأدباء والروائيين والفنانين، مكشوفون على الملأ للذين يعرفونهم شخصياً ولو كرهوا أو تستّروا أو تحصنوا خلف قناعٍ أو خلف ابتسامة المجاملة التي تُظهِرُ أنياباً في بعض الأوقات، وفي بعض الأوقات الأخرى غباراً قاتماً! أمّا حسَن فلا يبتسم إلا لسبب، ولا ينَكّت إلا لحاجة، ولا يعطي رأياً إلا بناء على رأي، ولا يكتب شِعراً إلا عندما يطفح الكيلُ في عقله وقلبه، ويصبح غير قادر على حبس الكلام أو ردّه. لذا، فإن ورقتَهُ مكشوفة ولا يعنيه ذلك سلباً، فما بين عينيه من المشاعر يتدفق رغماً عنه، وما بين يديه من القصائد يُعلنُ عن نفسه، وما في صدره من الاختلاجات تكاد تَسمع رنينَها عن بُعد. وصدْقُ حسَن كافٍ ليُدلي بدلوه في قضية أو قصيدة أو شاعر بلا مُماراة ولا مُداراة، وإذا أُعجبَ قال أُعجبت وإذا لم يُعجَب قال لم أُعجَبْ، إلّا قليلاً. وهذه إلا قليلاً هي سياسة قد يتبعها حسَن مع مخادعين أو متفذلكين!

ليست هذه مقدّمة عن حسَن العبدالله كما قد يتبادر إلى الذهن، هي أصل الموضوع الذي هو شِعره، وشِعره هو شخصيته وشخصيته كانت جميلة على طِيبةٍ على طفولةٍ على كلمات تلوح في سماء صافية أو ماطرة أو بين بين فتنزل عليه على شكل غيمة أو جناحَي طير أو نسمة هواء ويلفّها بين أوراقه آمناً مطمئناً راضياً مَرْضيّاً، ويقدمها لنا في دواوين قليلة لكنْ كثيرة، وأغانٍ قليلة لكنْ على انتشار، وحظٍّ قليل بقيَ وراء حسَن، وراءه والزمن طويل!

حظُّه قليل أنه شَقيَ منذ الطفولة إلى يوم الرحيل. وحظّه قليل أنه عمِل فلم يجنِ من عمله إلا الذي سرقته المصارف، ككل اللبنانيين سواسية كأسنان المشط إلّا الذين لهم أيادٍ طويلة في الفساد، وفي تخليص أموالهم من السرقة. وحظّه قليل أن شِعره لم يُعَامَل بما يقتضي من التقدير المُستَحَق وهذا أيضاً سياسةُ فساد في الأذواق لدى مَن يُفتَرَض بهم التعويض عبر قراءة ما كتب بغير عيون اللصوص والجاحدين. وحظّه قليل أنه لم يتزوّج ولم ينجِب ككل عِباد الله من أضرابه وأترابه، ولولا شقيقتُه رَباب لانتهى حسَن العبدالله وحيداً خلف باب. وحظّه قليل أن الذين مَشَوا في جنازته تُحصيهم على أصابعك، فلا يتجاوزون عدد الأصابع. وحظّه قليل لأن نبع الدردارة لم يستطع أن يواكبه في حياته، فزعِل النبع منه ولم يُغسّلْهُ غُسْلَه الأخير. وحظّه قليل لأن آخِر ما كان يريد أن يقوله لم يقُلهُ وها هي رَباب تجمع الأوراق وتبكي على أمل أن تجد مكاناً فوق هذه الأرض الناكرة ليُطبَع ديوان حسَن الذي أراده ظِلّ الظلّ!

يتذكر حسَن العبدالله أنه أحَبّ فيصدر ديواناً بعنوان «أذكر أنني أحببت»، فلو أنه كان في السبعين وتذكر حباً في العشرين لهان الأمر، أمّا أن يكون هو في الثلاثين ويستخدم فعل أذكرُ لحبّ قبل سنوات قليلة، فمعنى ذلك أن المشكلة عند حسن في الزمن. كان الزمن في شخصية حسَن متناقضاً جداً، فهو بطيء، يمر اليوم كأنه دهر ويمرّ العمر كأنه يوم، ويتخبّط هو بين الوقت والوقت ناسياً ما قد مضى متذكّراً ما لم يأتِ قابضاً على الريح. في قصائد حسَن العبدالله تشعر أنه يسيّر أيامه بيديه وتشعر أنه مقبوض عليه كالعصفور السجين بيَدَيّ غامض يراه حين يقول «أريد أن أعرف ماذا تخبّئ لنا الحياة حين تضع يديها وراء ظهرها». بهذه البساطة، بهذه الثقة، بهذه المرارة. ولم يكن الزمن يوماً إلّا دمعةً في عين حسَن لم تظهر. يتبادر إليّ أنّ حسن العبدالله كان سريع البكاء، وأن جناح فراشة مكسور قادر أن يُغرقه في الحزن الجدي. لم يكن مصفّحاً حسَن ضد أي نوع من نوع الأحزان في شخصه ولا في الآخرين، لذلك كانت «أجمل الأمهات» أجمل القصائد واصفاً تلك الأم التي انتظرت ابنها وكأنها أمه هو معبّراً عنها بطريقة تشابه التعبير من قلب المأساة لا التعبير عن المأساة.

ومشى راعي الضباب طريق حياته مدركاً أنه يرعى الضباب، يرعى ذلك السحرَ الذي يغمر الأمكنة ببياضه الجميل، لكنه تمكّن من الدخول أكثر فأكثر إلى الأعماق في أشياء كانت تهزّه وتغمره بالأسئلة. بدأ من هنا يترصّد الأجوبة التي تطلقها ذاتُه بين الحين والحين. كأن حسَن العبدالله في هذه المرحلة بدأ يعي ما يجري حوله عبر قلبه وخياله وعقله، وتجرّأ على كتابة ذلك. والجرأة هنا ليست نابعة من الخوف بل من إدراك ما يشعر ويفكّر تجاه السماء والأرض.

وحسَن كان يحب الله حباً صامداً منذ كان أصدقاؤه كلهم ملحدين. وجلس الله في قصائد حسَن كأجمل ما يكون. في أيامه الأخيرة حين كان يَسمع بعض حوارات أصدقائه عن الله، كان يقول «شو هالطريقة الأخوية بينكم وبين الله؟ولك يا عمي هلّق خلّصنا كل مشاكلنا عالأرض وما عاد في غير الله نتناقش فيه؟!». كان يتهيّب التحدث عن الله بغير انتباه حقيقي أو بأي كلام.

ولا أظنني مغالياً إذا قلتُ إن قصيدة «الدردارة» كانت قصيدة عمْر حسَن العبدالله. أفكار كبرى قالها حسَن وأفكار شخصية صغيرة قالها، وتحركت القصيدة في هذا المجال الحيوي الذي يربطنا بالعالَم. الأنا البسيطة الرقيقة السارحة والرب راعيها كشفَها حسَن متلبّسة بالصراع مع الدنيا ومشتقات أحزانها وذكرياتها وآلامها وآمالها وفنونها وجنونها ومهدها ولحدها من خلال صبيّ وجد نفسه يضرب في الأرض وحيداً شريداً، وشابٍ خرّبت سنينه عواصف اليوميات الضاغطة، وكهلٍ تفجرت في وجهه مخالب المرض والواقع وسيرورة الوقائع.

كانت «الدردارة» بمثابة حبْل طويل جرّه حسن العبدالله خلفه كل العمر مع كل العقَد التي تكوّنت في الطريق خلال الرحلة. وكلما تمكن حسَن من فكّ عقدة في الحبْل، كان يرمي عن أكتافه حِمْلاً ثقيلاً، ومع كل عقْدةٍ حَلٌّ حتى انتهت القصيدة وأظنها انتهت أحمال حسَن مما في الذاكرة من المَشَاهد النبيلة العذبة ومن العذابات معاً. «الدردارة» قصّة خرافية حقيقية حصلَت بتفاصيلها ومفرداتها في ذات شاعرٍ لم يعرف غير الطفولة ولم يصدّق غيرها ولم يكتب غيرها ولم يتعامل مع الآخرين بغيرها وظَلّ على حاله هذه يُصارِعُ. قصيدة «الدردارة»

قصيدة الذكريات لكنها بوضوح قصيدة النسيان. ولن أفكر كثيراً قبل القول (ولا بَعده) أن حسَن العبدالله تخلّص من إلحاح ذاكرته وحيويتها وبات متحرّراً من ضغطها، بعد كتابة قصيدته هذه وبات بإمكانه أن ينسى ما يريد. أُعيد: أن ينسى ما يريد. فمِن دوافع القصيدة الأساسية أن العبدالله كان مشغولاً ومنهمكاً ومُدَثَّراً بالقصيدة طوال عمره الذي ذهبَ قبلها، ووقتَ أنجزَها ارتاح. لم يكن حسَن قبل «الدردارة» ينسى كثيراً، لكنه بعدَها صار ينسى أين منزله وأين المقهى وأين أوقف سيّارته وأين الطريق إلى «الخيام». كأنه كاد يقول إن مدّة صلاحية ذاكرتي انتهت ما دمتُ أنهيتُ تفريغها من المادة التكوينية التي فيها، ذكريات بلدتي وذلك النبع الذي كان. في الحب وفي الحنين والذاكرة والعواطف والثقافة والعلْم تسكن قصيدة «الدردارة» وأظنّ أن مكانها أصلاً ما وراء العينين وما وراء الجبين حيث تقول الأسطورة إنّ جبين الإنسان مخزَنُه وأن العينين أداته ليرى ما خلفهما، لكن الإنسان لا يرى إلا ما هو أمامه. ولا أدري ما هي مساحة اللغة التي اخترقها حسَن العبدالله في قصيدته، فهي كنصّ طويلة لكن لغتَها أطول بكثير، بمعنى أنك تفرغُ منها ولا تفرغ منك، وتقول إنها قصيدة حياة فتجدها قصيدة حياة وموت وما بينهما من الهبوط والصعود الذي يستمر إلى ما لا نهاية.


كانت «الدردارة» بمثابة حبْل طويل جرّه خلفه كل العمر


في قصائده للأطفال، لا أعتقد أن حسَن العبدالله كان يؤلّف. كان يملأ كأساً من ذاته الطفلة ويضعها في كلمات، لا أكثر ولا أقل. في مكان ما عَثَر على زمن الطفولة وراح يَعُبّ منه ويكتب، يعُبّ ويكتب حتى امتلأت جرار كثيرة ممّا عَبّ وكتب. طفحت كؤوسٌ من خَيَال مدهش يرسم الحروف ويلونها، ولا أظنه سرق من طفولة أحد ولا استعار من أحد، بل قال للطفل فيه اخرُج وخرَج كما يخرج المارد من القمقم، وترك للمارد أن يتصرّف على هواه، يمسك وردة ويعُد أوراقها إذا كانت الحبيبة تُحبه أم لا، ينظر إلى نملة ويتبعها ويدخل معها إلى بيتها الضعيف حيث تجمع حبّات القمح، يأخذ غصن شجرة (وهو شاعر أشجار، كما يقول) ويصنع منه سيفاً ينقضّ به على رفاقه، يلعب بما كانت ألعابٌ في البال، وحين يتعب ينزع ثيابه ويغطس في الدردارة إياها ويشرب منها وينظّف رجليه وبدَنَه ويعود إلى القمقم بانتظار دعوة أخرى. وكانت النتيجة كتباً وقصائد وأغاني أنزَل حسَن بها كل سلاطين الشّعر على هيئة شيخ حكيم/ طفل جميل، وقال خذوا ما تحبون واتركوا لغيركم يأتون في زمان غير زمانكم وأبقى أنا معكم.

وسأبقى.

ورحلَ حسَن العبدالله كما نعرف جميعاً، وهو هنا بيننا يضحك ويلهو حسَن العبدالله كما نعرف جميعاً، والسنوات الثلاث الأخيرة التي استقرّ فيها مع جَمْعة رفاقٍ في ملتقى خيرات الزين، الرسّامة- الأُم التي علّمَته الرسم وحضّرَتْ له معرضاً، كانت سنوات مرَض لكنها سنوات تحضير لكتابِ خواطر ثمانينية نسيَ فيها «الحسّون» كل ما ورَدَ أعلاه!

عودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: