بتسليطها الضوء على الحمام والعريّ، ومن خلال دراسة أرشيف المحكمة الشرعية في حلب القرن الثامن عشر، تُبرز المؤلفة إليز سمرجيان، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في Whitman College، المُخجِل والمُضمر في تواريخنا المحلية واليومية، وقد يتبدى أحيانًا، في ثنايا هذه الدراسة، أننا إزاء عوالم ألف ليلة وليلة، بغرائبيتها وسورياليتها، وهي تتحفنا بوصف تفصيلي شيق وتحليل مُتبصر للسياقات الاجتماعية والسياسية والفقهية والتاريخية وللتفاعلات الانسانية المُثقلة، وتُجادل بوطأة التاريخ والنص والغيب والرقيب والهوامات الجنسية على الأجساد حتى في أدق خصوصياتها.
نُشر المقال في International Journal of Middle Eastern Studies وحصل على جائزة أفضل مقال لجمعية الدراسات السورية العام 2014.
بعد القسم الأول من المقال والثاني والثالث
، هنا الرابع والأخير.
على الرغم من أن أوامر المحكمة بررت الفصل بين المستحمات المسلمات وغير المسلمات "دفاعًا عن حرمة النساء المسلمات" داخل حمامات المدينة، إلا أن المصادر نادرًا ما شرحت المنطق القانوني وراء مثل هذه الأحكام. وبرغم ذلك، ثمة وثيقة فريدة، وهي حكم 1762 المذكور في مقدمة هذه المقالة، تقدم أوضح الحجج القانونية لمثل هذا الفصل. فبخلاف الاتفاقات الأخرى، قام القاضي الذي ترأس القضية، الحاج أحمد بن حسن، بتضمين الاستشهادات القانونية لتبرير الاستحمام المنفصل، وبالتالي شرح سبب حظر الاستحمام المختلط للمرأة المسلمة والذمية قانونًا. بدأ القاضي استشهاداته بالنص الكلاسيكي للفقيه الحنفي شمس الدين تمرتاش (المتوفى 1595)، تنوير الأبصار، الذي يبرر فصل النساء المسلمات عن الذميات من خلال المنطق التناظري: "والذميّة كالرجل الأجنبي في الأصح فلا تنظر إلى بدن المسلمة" ومخالطة النساء للرجال الأجانب ممنوعة ولذلك فهي ممنوعة بدورها بين نساء "الكفار" والنساء المسلمات.
ويدعم هذا الحكم، مقترنًا بمراجع وإحالات أخرى، حجة القاضي بأن المرأة غير المسلمة تعتبر ذكرًا عندما تنظر إلى امرأة مسلمة عارية. ومن أجل فهم أفضل لكيفية فهم القاضي للعري والوضع الحدي للمرأة الذمية "المتذبذبة" بين الجنسين، يجب أن ننتقل إلى الحجج حول العري والطهارة في الأخلاق الإسلامية.
ذلك أن الطهارة، كمفهوم، تتجاوز النظافة المطلوبة في الأخلاق الإسلامية لتشمل التغطية الصحيحة لأجساد المسلمين. ففضلًا عن إلزام الذميين المستحمين بتمييز أنفسهم أثناء الاستحمام، فإن الأحكام تدعو أخلاقياً الرجال والنساء المسلمين ليكونوا محتشمين في جميع الأوقات من خلال تغطية عريهم. وتدعو الآية القرآنية 24: 30-31 النساء على وجه الخصوص إلى عدم إظهار "عوراتهن". ويحمل مصطلح العورة معانٍ متعددة، بما في ذلك "النقيصة" و"السوءة" و"العُري". وتناقش الأعمال الكلاسيكية في التفسير والفقه الإسلاميين بإسهاب الحدود المقبولة للعري والحشمة المناسبين، والتي تتغير بناءً على درجة العلاقة بين الأفراد الذين يتعاملون مع بعضهم البعض. إذ تُعرَّف العورة عادةً في الإسلام للرجال والنساء على أنها المسافة بين السرة والركبتين. لذلك يجب تغطية هذه المنطقة في جميع الأوقات، حتى أمام المسلمين الآخرين. وتتغير أجزاء الجسد التي تعتبر عورة أحيانًا اعتمادًا على السياق الاجتماعي والعلاقة بين الأفراد المعنيين. فقد أيّد التفسير الحنفي الموقف القائل بأن عورة المرأة تتكون من المنطقة الممتدة من السرة إلى الركبتين في حال وجو أقارب ذكور غير متزوجين. ووصف ابن عابدين (ت 1836) عري الإناث على النحو التالي: "وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الصَّدْرَ وَمَا قَابَلَهُ مِنْ الْخَلْفِ لَيْسَ مِنْ الْعَوْرَةِ وَأَنَّ الثَّدْيَ أَيْضًا غَيْرُ عَوْرَةٍ".
وبالرغم من أن حشمة الإناث كان في الغالب المحور الأساسي للنقاش الشرعي، فقد برز الرجال أيضًا في المناقشات حول متطلبات الاحتشام، نظرًا لأن متطلبات القرآن تنطبق على كلا الجنسين. ورأى الفقيه الدمشقي ابن عابدين أن "أَعْضَاءُ عَوْرَةِ الرَّجُلِ ثَمَانِيَةٌ: الْأَوَّلُ الذَّكَرُ وَمَا حَوْلَهُ. الثَّانِي الْأُنْثَيَانِ وَمَا حَوْلَهُمَا. الثَّالِثُ الدُّبُرُ وَمَا حَوْلَهُ. الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْأَلْيَتَانِ. السَّادِسُ وَالسَّابِعُ الْفَخِذَانِ مَعَ الرُّكْبَتَيْنِ. الثَّامِنُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ مَعَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ مِنْ الْجَنْبَيْنِ وَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ"، وينبغي تغطية كل هذه الأعضاء بغض النظر عن مكانة الشخص بين صحبه. وفي حلب، ركزت إحدى القضايا في المحكمة بشكل حصري على حشمة الرجل، دون الإشارة إلى المكانة الدينية، موضحة كيف تعاملت المحكمة بشكل موحد أكثر مع موضوع عري الذكور. ففي 16 سبتمبر 1768، مثل النقيب حسن جلبي بن الحاج قاسم وثمانية أعضاء من نقابة أصحاب الحمامات أمام المحكمة مع السيد علي بن محمد، صانع المناشف.
وأصر رجال النقابة على أن يستخدم الرجال المناشف التي تغطي خصوصياتهم بالكامل وأن "المناشف المستخدمة لم تكن تستر عورات الناس" وأُحضِر صانع المناشف إلى المحكمة من أجل تسجيل اتفاق لإطالة المناشف التي كان يرتديها المستحمون حول الخصر، وهو ما ردد صدى حكم صدر قبل ست سنوات عندما تعهد أصحاب الحمامات بتوفير مناشف أكبر للزبائن. وتصور كلا الوثيقتين، المُسجلتين في العقد ذاته، تطبيق المحكمة الموحد لمتطلبات الاحتشام على الرجال المسلمين وغير المسلمين، وهو ما يُناقض على نحو صارخ سياسة الفصل تجاه النساء.
كانت حجة القاضي بشأن حشمة المرأة المسلمة أمام النساء الذميات مستمدة من التفسيرات الفقهية للآية القرآنية 24: 30-31. وتطلب الآية من المرأة أن ترتدي الحجاب أمام جميع الأشخاص باستثناء الأقارب غير المتزوجين، والأقارب الإناث، والأطفال، والعبيد، بما في ذلك العبيد الذكور الذين يُفترض أنهم مخصيون، إذ اعتُبر هؤلاء أشخاصًا متحررين من الرغبة الجنسية. على أي حال، شكلت النساء الذميات نوعًا معينًا من التهديد الأخلاقي للمرأة المسلمة بالنسبة لعديد من الفقهاء الذين جادلوا أيضًا بأن المرأة الذمية المُستعبدة لا تشكل تهديدًا لحشمة المرأة المسلمة لأنها في تلك الحالة كانت منعتقة من الرغبة الجنسية، ولا سيما الانجذاب إلى النساء، وكذلك كان حال الأطفال والخصيان. وعلى الرغم من عدم وجود إشارة مباشرة إلى المرأة الذمية باعتبارها خطرًا مثليًا على المرأة المسلمة في هذه الدراسة، فقد رُبطت المرأة الذمية خطابيًا بالرغبة الذكورية في الكتابات الفقهية.
ولا يمكن تجاهل الرمزية الدينية للمياه فيما يتعلق بنقاء الطقوس. إذ عملت لوائح الحظر وقوانين الطهارة على تحديد النظام الاجتماعي من خلال تحديد المقدس من المدنس. ومن ثم كان الاتصال الطائفي بهذا المعنى يلوث المجتمع المقدس ويعرضه للخطر، وليس ثمة دليل على أن محكمة الشريعة عالجت المخاوف داخل المجتمعات المسيحية واليهودية بأوامر الحمام هذه، فقد استُهلِت جميع الاتفاقات من قبل المدعين الذكور المسلمين وتم صياغة اتفاقيات الحمامات في حلب من حيث حماية النساء المسلمات من النساء غير المسلمات، وتحديدًا منع دخول النساء المسلمات في حالة وجود غير مسلمات. ومن الواضح أن النساء المسلمات قد رُقين ورُفِعن باعتبارهن نقيات بشكل قاطع في هذا الخطاب وأُتيح لهن وصول أكبر إلى الحمام. وثمة أيضًا قليل من الأدلة على أن المحاكم كانت تأخذ في الاعتبار الممارسات الدينية المسيحية واليهودية في أحكامها.
لهذا السبب، تأخذ شخصية الأنثى الذمية صفات "الكائن الحدي"، ويفتقر هذا الكائن الحدي غير المصنف إلى هوية مستقرة، وهو ما يمكن أن يساعد في تفسير التجنيس المتناقض للأنثى الذمية لأنها تتأرجح بشكل استطرادي بين الذكر والأنثى. وباعتبارها وسيطًا للدنس، فإنها تشكل خطرا على نقاء المجتمع المسلم. والدنس، في هذه الحالة، هو النظرة غير النقية للمرأة الذمية، والتي تعمل كقناة لتحديق الذكر. وبشكل عام، أعاد هذا البناء الجديد لفئة الذميات تصنيف فئة المسلمات المعيارية و"النقية". وبالمثل، فُلتِرت مزاعم الحقيقة حول نقاء المرأة المسلمة من خلال الخطابات السابقة حول الدين، ولا سيما الخطابات حول "الآخر الذمي" المجسدة في شخصية المرأة الذمية الفاسدة. وبهذه الطريقة، يوحي الخطاب حول الاستحمام مُختلِط الطوائف بالاتجاهات الحديثة القادمة، بما في ذلك تبلور الهويات المجتمعية وضبط الرغبة، والتي بنت حدودًا صارمة حول فئات من الإناث والشخصيات غير المسلمة.
* ترجمة أزدشير سليمان
تعليقات: