رئيس مجلس النواب نبيه برّي ولودريان.. فليستعد الجميع لفراغ طويل، ربما أطول مما اقتضاه وصول ميشال عون (Getty)
اعتاد لبنان تاريخياً، على تجربة تصارع الأضداد، أو التقاء الأطراف المتناقضة لانتاج التسويات فيه. عبور بسيط على استحقاقات رئاسية كثيرة، يتضح كيف تلاقت أطراف خارجية على تسويات، منذ بشارة الخوري، إلى كميل شمعون وما بعده فؤاد شهاب، وصولاً إلى الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. من كسر قاعدة التوازن بين الأطراف المتناقضة كان مصيره أسود محتوماً، كالرئيسين بشير الجميل ورينيه معوض. أما من جاء بقوة التفاهم والتقاطع، واستمر فيه، فقد مرّ عهده بسلاسة، فؤاد شهاب والياس الهراوي مثلاً. أما من وصل بتفاهمات داخلية وخارجية، وقد خرج عليها أو تبدلت ظروفها فكانت الأزمات أو الحروب نتاجاتها، كميل شمعون، سليمان فرنجية، وميشال عون أمثلة.
بضاعة كاسدة
حالياً يعيش لبنان في وقت ضائع. السبب الأساسي أنه غدا بضاعة كاسدة، لا أحد يريد أن يشتريها. وبعض الطامحين، يعتبرون أن عارض الشيء للبيع سيحترق أكثر عند المبيع. فالرهان على طول الوقت، يبخس الثمن. لذلك لا يبدو الصراع أو التصارع أو التنافس بين القوى الخارجية مشهوداً. الجميع يدعي أنه غير معني، وأنه لا بد من التوافق بين اللبنانيين. هذا يعني ان اللحظة لم تحن بعد.
لا أحد يريد ان يصنّف كطرف في لبنان. لقاءات لودريان تؤكد ذلك. خروج كل من يلتقي بالرجل بالانطباع الإيجابي، يشير إلى أن ما سمعه هؤلاء من المبعوث الفرنسي لا يتعارض مع رغباتهم. ففرنجية خرج مرتاحاً من الاجتماع. وقد عبر عن ذلك. جبران باسيل بدا عليه الارتياح في ما تم تسريبه بأن فرنسا تخلت عن مبادرتها، وأن وجهة النظر تلاقت عند ضرورة الاتفاق الداخلي. أسمع لودريان ما يطيب سماعه لقوى المجتمع المدني، للمستقلين، وللقوى السياسية على اختلاف تنوعاتها.
برّي-ماكرون
تقصّد الثنائي الشيعي تقديم مقاربة شاملة حول رؤيته وتبنيه لخيار سليمان فرنجية. أعاد رئيس مجلس النواب نبيه برّي تعريف لودريان بكل مقاربته، وبما كان من تنسيق بينه وبين الرئيس الفرنسي شخصياً. تعاطى برّي مع لودريان، وكأنه لا يمتلك كل المعطيات التي بين رئيس المجلس ورئيس فرنسا، منذ الدعوات إلى الحوار وصولاً إلى تبني ترشيح فرنجية.
ما استفاض الثنائي الشيعي في عرضه على المبعوث الفرنسي وتذكيره به، هو أن تنسيقاً مباشراً قد سبق خطوات ترشيح رئيس تيار المردة، وصولاً إلى نجاح باريس بالحصول على رفع الفيتو السعودي. وحتى ما سُرّب عن أن ماكرون قد أقنع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بخيار فرنجية، وأخذ منه موافقة على ذلك. هنا تقول المصادر إن باريس انطلقت من مقاربتها هذه بالتشديد على رئاسة الحكومة وصلاحياتها، والإصرار على تسمية نواف سلام رئيساً للحكومة. وبناء عليه، لم تجد باريس مجالاً للتحرك وتحقيق ذلك إلا من خلال طرح فرنجية لرئاسة الجمهورية.
هذا التفسير يناقض فكرة أخرى، تقول إن التمسك بفرنجية والسعي إلى إيصاله لم يكن ليحصل من دون طرح فكرة المقايضة، لإرضاء الآخرين.
فراغ طويل
بالنسبة إلى حزب الله وحركة أمل، فإن المعركة وجودية. ترشيح سليمان فرنجية يرتبط بسياق استراتيجي بعيد وعميق، لا يمكن أن يكون من السهل التخلي عنه. بعض المصادر القريبة منهما تشير إلى ضرورة التفكير ملياً بهذا الأمر، وإلا فليستعد الجميع لفراغ طويل، ربما أطول مما اقتضاه وصول ميشال عون. وهذا كلام سمعه الفرنسيون كما غيرهم. وعندما طرح لودريان على الثنائي الشيعي تساؤلات عن موقف المسيحيين، كان الجواب بأن العمل مستمر للتفاهم مع أحد الاطراف الأساسيين. هذا أيضاً يعزز التوقعات بالفراغ الأطول.
كل الرضى الذي عبّر عنه اللبنانيون، صدقاً ام مناورة، حيال نتائج لقاءاتهم مع لودريان، يعني أن باريس لم تتخذ مواقف مباشرة، لا في التخلّي عن الصيغة أو المقاربة القديمة، ولا في تقديم مبادرة جديدة. ركز الرجل على الاستماع، قائلاً أنه سيعود بعد شهر، ولا بد من أن يتفق اللبنانيون فيما بينهم. بذلك يمكن القول إن الحضور الفرنسي يبقى في الإطار الديبلوماسي أو ربما رفع العتب، أو الإشارة إلى الاستمرار بالاهتمام بلبنان، من دون تقديم رؤية جدية أو جديدة. وهو ما يعكس ضياعاً فرنسياً.
أخذ لودريان لنفسه مهلة شهر، مؤكداً أنه سيعود حاملاً طرحاً ومقاربة من دون توقع بإمكانية نجاحه، في مسيرة التعثر الفرنسية المستمرة منذ العام 2020 إلى اليوم.
الرفض الأميركي
سعودياً أيضاً، لا تتعاطى المملكة مع لبنان كطرف. كل الآليات السياسية السابقة أصبحت من الماضي. فلا موقف بتبني أحد، على ما تجلى برفع الفيتو. فيما العشاء الذي نظمه السفير السعودي وليد البخاري لوزير الخارجية وحضور السفير الإيراني في بيروت، والقائم بأعمال السفارة السورية، يثبت وجهة النظر التي تشير إلى أن الرياض تريد التعاطي وفق منطق دولة مقابل دولة، لا التمايز ولا التمييز في العلاقة بين الحلفاء والخصوم. وهو ما يحيل مهمة الاتفاق على اللبنانيين ايضاً.
يحاول الفرنسيون، والسعوديون، مع الإيرانيين الوصول إلى نقاط مشتركة، على قاعدة ادعائهم جميعاً بالوقوف على الحياد. في المقابل، لا يمكن لهؤلاء إنتاج رئيس من دون الحصول على موافقة أميركية أو غض نظر على الأقل. هذا يدفع كثيرين إلى التفسير بأن واشنطن لا تزال على اعتراضها، أو على تمنّعها من التدخل. فيما موقف السفيرة الأميركية بالعودة إلى بيان نيويورك، ربطاً برسائل فيكتوريا نولاند وباربارا ليف، يمكن للمرء أن يستنتج الرفض الاميركي الضمني لكل ما هو مطروح، هذا فضلاً عن مسألة العقوبات ورسائلها واشاراتها.
بناء عليه، لا بد من التعايش مع الفراغ الطويل، بانتظار نضوج ظروف معينة. وكأن الجميع يقرأ في كتاب حافظ الأسد، الذي علّم كثيرين مسألة الرهان على الوقت، مغلفاً بعبارة الصبر الاستراتيجي، وهو أكثر ما يجيده الثنائي.
ويجد آخرون أنفسهم مراهنين على الوقت أيضاً، بما فيهم من يراهن على الذهاب باتجاه انتخاب قائد الجيش جوزيف عون، على قاعدة امطري أنّى شئت فخراجك سيعود إلي. وحتى أكثر معارضي جوزيف عون ربما يراهنون على الوقت، وإلى ما بعد كانون الثاني 2024 ليكون الرجل قد ألقى رتبه عن كتفيه وغادر منصبه، فلا يعود مرشحاً أبرز.
تعليقات: