محمد مخزوم: محطات وطنية وثقافية في حياة حبيب صادق


ولد حبيب صادق من أب إكتسب شهرة واسعة في مجال العلوم الدينية والأدبية كما يعود نسبه الى شيوخ آل مخزوم (ريحانة قريش)، ومن أم تميّزت بعمق الإيمان والفطنة والنباهة وطهارة القلب ودماثة الخلق وتوقّد الذاكرة ورهافة الشعور.

تلقى حبيب دروسه الإبتدائية في المدرسة الرسمية في النبطية، وأكملها في المدرسة الرسمية في الخيام بعد أن إنتقلت الأسرة إليها في أعقاب وفاة الوالد ليعود بعدها الى النبطية لمتابعة دراسته التكميلية.

إبتدأ حبيب خوض الحياة العملية كمدرّس في وزارة التربية الوطنية بعد نيله شهادة البريڤيه.

ورغم المصاعب التي عاناها في مدرسة كفرمان لجهة البناء، إلا أنه يتغنى بالعلاقات الحميمة التي إنعقدت بينه وبين الطلاب وذويهم الطيّبين لينتقل بعدها الى متوسطة النبطية، فإنفتحت أمامه النشاطات الثقافية والإجتماعية والسياسية وأتيح له تنمية الملكة الشعرية لتتسع بعدها علاقاته بالأدباء والشعراء أمثال العلامة اللغوي الشيخ أحمد رضا والعلامة الشاعر الشيخ سليمان ظاهر والمؤرخ علي الزين والشاعر الشيخ محمد علي الحوماني وغيرهم من رواد الأدب والشعر والثقافة.

في عام 1953، إنتقل مركز الوظيفة الى بيروت وتحديداً مدرسة الرميل الرسمية وفيها توثقت علاقته بأساتذة المدرسة، ولكن ما لبث أن تمّ نقله الى مدرسة البسطا الفوقا، وهنا تبدأ مشاغبات حبيب صادق، لأن نقله بعد مرور شهرين فقط كان بسبب إعتراضه على أحد قرارات المدرسة الذي ينصّ على أن ينتعل كلّ تلميذ حذاءً نظيفاً وجوربين أبيضين وثياباً مكوية.

لم تتجاوز المدّة التي قضاها حبيب في مدرسة البسطا الفوقا الأشهر الثلاثة وذلك للسبب نفسه الذي تمّ نقله إليها (يفسّر حبيب هذه التصرفات الى الذهنية البيروقراطية المتخلّفة لدى المسؤولين عن إدارة هذه المدرسة أو تلك، وذلك بسبب رفض الآخر مهما كانت صدقيته).

كانت المحطة التالية بعد البسطا الفوقا هي مدرسة طريق الجديدة ومديرها الشهير محي الدين البواب الذي إنتفض بوجهه حبيب عندما أمسك به يتلصص عليه وهو في الصف من خارج الباب.

قضى حبيب هذه المرة مدة ستة أشهر لينتقل بعدها الى مدرسة حوض الولاية.

كان موقف حبيب في حوض الولاية مختلفاً عن مواقفه السابقة في المدارس التي مرّ بها، إذ أن الرئيس شمعون إنساق وراء المخطّطات الغربية الإستعمارية الهادفة الى إقامة أحلاف عسكرية في المنطقة، فذهب شمعون بعيداً في سياسته عندما قام بدعوة الرئيس التركي الى زيارة لبنان من أجل تسويق الدعوة لينضّم الى حلف بغداد، وعندما طُلب من طلاب وأساتذة المدرسة الإستعداد لإستقبال الرئيس التركي على أحد أرصفة الشوارع ثارت ثائرته لهذا الطلب لأن الرسالة التربوية برأيه لا تبيح لنا أن نساق سوق النعاج لنصفّق لزائر يحمل في جعبته قنابل موقوتة من شأنها أن تمزّق وحدتنا الوطنية.

ومع أن هذا الرأي لاقى تأييداً من معظم زملائه، إلا أنه عندما حضر المفتش التربوي ملوّحاً بالطرد لمن يخالف هذا الأمر، إمتنع حبيب وحيداً من بين زملائه مفضلاً الطرد على حساب كرامته كمربٍ وكمواطن.

هكـذا تـمّ نقـل حبيـب الى مدرسـة الزلقـا الرسـمية معلقاً على القرار بقوله: "يا سبحان الله لقد إنتهى بي أمر التعليم الرسمي الى الإنزلاق الإكراهي فأي مصير ينتظرني في متاهة هذا المجهول؟".

في مدرسة الزلقا حدث العدوان الثلاثي على مصر، وصادف أن دخل حبيب غرفة الأساتذة وهم يستمعون الى إذاعة لندن وهي تشيد بنجاح غارات الطيران الحربي للحلفاء وهي تلقي بحمولته النارية على أحياء بور سعيد بنسائها وأطفالها ورجالها، وعادت الى قواعدها سالمة، علت عندها عاصفة من التصفيق إبتهاجاً بهذا النصر. يذكر حبيب قائلاً: " عندها إنفجر في صدري سؤال نازف:كيف تُراني أستمر في بيئة معادية كهذه لقيم العدالة والحرية وتقرير المصير؟".

هكذا جاء قرار النقل بالنسبة لحبيب مطلباً بل حلماً جميلاً.

لقد ضاقت المدارس الرسمية بحبيب وضاق صدره بالمسؤولين فيها، فصدر بحقّه قراراً بنقله من مدرسة السجن في الزلقا الى مصلحة السجون التابعة الى وزارة الداخلية، ما جعله في غاية السعادة والغبطة، فقد قضى هذا القرار للقيام بدور تربوي في سجنين هما سجن الرمل وسجن القلعة.

لم تكن معاناة حبيب في المدارس الرسمية التي مرّ عليها أقل منها في السجون، لا من تصرّف المسجونين بل من قبل المسؤولين عن السجن، ومع ذلك ورغم تنوّع السجناء من الناحية الإجتماعية والعلمية والثقافية ومستوى الذكاء، إلا أنه إجتهد في إستخدام أساليب التدريب التربوي، سواء لمحو الأميّة أو إشغال السجناء بعمل تعاوني مفيد حتى تكلّلت مهمته بالنجاح.

خلال هذه الفترة التي قضاها حبيب لم تقتصر فقط على المشاكل البيروقراطية التي عانى منها، بل إنصرف الى الإنخراط في حضور الندوات المتنوعة في المراكز الثقافية والى المشاركة في المؤتمرات التي عقدها الكتّاب العرب. كما أنه لم ينقطع عن الكتابة السياسية والأدبية وكتابة الشعر ثمّ الكتابة الإذاعية في عدة إذاعات، هذا الى جانب إنخراطه في العمل الوطني.

فكان مراقباً للحياة الإجتماعية والسياسية التي عرفها لبنان في مرحلة الإستقلال وبالأخص في النصف الثاني من الخمسينات، وأثناء الصراع السياسي في لبنان إبتداءً بحرب السويس مروراً بمبدأ أيزنهاور وثورة 14 تموز في العراق وبالثورة التي إندلعت ضد كميل شمعون عام 1958.

في عام 1964، إنتقل حبيب من وزارة الداخلية الى وزارة الصحّة رئيساً لدائرة المحاسبة، وذلك بفضل تحصيله العلمي في تلك الفترة التي قضاها في التعليم، ممّا أحدث إنعطافاً كبيراً في مسيرة حياته ما لبث أن أدرك أن وظيفته هي مسؤولية مهمّة جداً، فهي عصب الوزارة ممّا يسّر له علاقات وطيدة بينه وبين رؤساء المستشفيات والمستوصفات والمصحّات وغيرها، وممّا أفرح قلبه أن ذلك فتح أمامه أبواب الخدمة العامة للناس، ممّا يسّر له تعيين موظفين متنوعي الإختصاص بين أطباء وممرضات وسائقي سيارات إسعاف وإداريين.

هكذا تحوّل مكتبه الى مكتب خدمات عامة للمواطنين كافة وللخياميين بخاصة. لكن ما إستفزه هو مشهد الإدارة العامة بتقليديته المتخلّفة المعيبة والوساطة من أحد النافذين.

ومع ذلك فخلال السنوات العشر التي قضاها حبيب في خدمة الناس، إلا أن الخصومة السياسية إنفجرت في آخر المطاف خالعة الأقنعة عن الوجوه الراصدة، فكان نقله ظلماً وتعسفاً الى المختبر المركزي مع تخفيض رتبته من رئيس دائرة الى رئيس قسم شبه عاطل عن العمل حتى 1983 عندما طلب إحالته على التقاعد.

ما هي المحطات الأساسية التي مارسها حبيب صادق الى جانب الوظيفة:

أولاً- تجربة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي

لقد أمضى فيها حبيب ما يناهز الخمسين عاماً، كانت تجربة رائعة ورائدة في لبنان بما إحتضنته من تاريخ مشّع للجنوب عبر التاريخ سواء لجهة الإطلاع على مؤلفات المبدعين من الشعراء والأدباء والمثقفين والمؤرخين أو لجهة مناهضة الإستعمار ثمّ الإحتلال الإسرائيلي حتى أصبح شائعاً شعار "كل الجهات الجنوب" ومن المفيد هنا أن نستشهد بما ذكره المؤرخ قسطنطين زريق بقوله: "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وقف نفسه على إحياء التراث الثقافي والقومي لجنوب لبنان ومن خلاله للبنان عامة".

ثانياً- تجربة إتحاد الكتّاب اللبنانيين وما رافقها من مشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية في عواصم آسيوية وأفريقية.

ثالثاً- تجربة الممارسة النيابية (التي يطلق عليها عزيزنا أيام المحنة) كانت التجربة الثالثة بعد 1968 و1972 نتيجة الجهود الإجتماعية والسياسية التي مارسها حبيب بإندفاع مع الناس على إختلاف أنواعهم (ثقافة، سـياسـة، خدمـات)، فقـد أصبح بعدها رقماً صعباً في الجنوب لا يمكن لأحد مهما علا شأنه أن يتجاهل ذلك (.. أما بقية القصة فالجميع يعلم بها ..).

رابعاً- تجربة فريق العمل الديموقراطي

لقد شكّلت رابطة وصل بين الحركة الشعبية الديموقراطية وبين المنبر الديموقراطي ومن مبادئها:

- مقاومة الإحتلال الإسرائيلي.

- مواجهة التحالفات الطائفية.

- العمل لوضع حدّ للفساد بإستخدام المال والنفوذ والإثارة الطائفية والمذهبية.

خامساً- تجربة المنبر الديموقراطي التي حفلت بالنشاطات السياسية والفكرية على الساحة اللبنانية، كما أكّدت على وضع حدّ للإستباحة الشاملة بوضع اليد السورية على لبنان، إنطلاقاً من الإعتراف الدقيق والصريح بإستقلال وسيادة كلّ من البلدين.

ما هي المعالم الأساسية التي أرستها مدرسة حبيب صادق؟

تمتّعت مدرسة حبيب صادق بمنهجية واضحة وصارمة منذ أن بدأ حياته السياسية سواء كان ذلك على مستوى منافعه أو صداقاته أو أسرته أو مجتمعه وقد تضمّنت الآتي:

- الخدمات الإجتماعية لكل شخص يحتاجها وهي من الأولويات بالنسبة إليه.

- الصداقات من الركائز الثابتة.

- التحديّات والمواقف المبدئية في السياسة والعلاقات الإجتماعية.

هذه المسيرة حافلة بالعطاء والإنجازات والإخلاص عبر ما يزيد على ستين عاماً، بل إنها مسيرة مضيئة لا تحتاج شهادة من أحد.

أما أسلوب حبيب فيتميّز بالسلاسة والفصاحة لتصبح مفرداته ذات إيحاء خاص ضمن فضاء رحب، لم يتوقّف عند الحدث الداخلي فحسب، فقد شغلته التحديّات التي واجهها.

هذا هو حبيب صادق الذي لم أستطع أن أفيه حقّه في هذه الكلمة الوجيزة.

* مداخلة في 15/9/2015 للدكتور محمد مخزوم حول كتاب "حوار الأيام" للأستاذ حبيب صادق

عودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: