يبلغ عدد المخيمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، اليوم، ستة عشر مخيّماً عمرها من عمر النكبة عام 1948. كما عرف لبنان إبّان حربه الأهلية، ما اصطلح على تسميته بالتجمعات الفلسطينية، مثل القاسمية، الشبريحا، المعشوق.. وهي تجمعات يعاني أهلها ما يعانونه من ظروفٍ صعبة تستحقّ تسليط الضوء عليها.
تعود أبرز أسباب معاناة التجمعات الفلسطينية على وجه الخصوص إلى عدم اعتراف “الأونروا” بها كمخيمات، مع ما يعنيه ذلك من حرمان أهلها من الخدمات التي تقدّمها المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة. ويزداد الأمر سوءًا مع عدم اكتراث معظم الفصائل في هذه التجمعات بمعاناة أهلها ـ أهلهم!
“جلّ البحر”..
جنوباً، وفي مدينة صور تحديداً، يوجد تجمع فلسطيني يُعرف باسم “جلّ البحر”. تبلغ مساحته ما يقارب 1 كلم٢، ويقطنه ما يقارب 3000 لاجىء (240 منزلاً). المكان هنا صالحٌ لكي يعمل عدد من الفلسطينيين في استصلاح وزراعة الأرض والبساتين، فيما يتيح موقع التجمع على الشاطئ لآخرين منهم مزاولة مهنة صيد الأسماك وبيعها، غير أنهم يواجهون تحديات شتى، ليس أقلها محاربة المسامك في المدينة؛ حتى بلغ الأمر حدّ إزالة عددٍ من بسطات البائعين بحجة مخالفة القانون من قبل الدرك اللبناني، وذلك تلبية لطلب بلدية صور، التي تتحرّك بفعل شكوى مقدمة من إحدى المسامك المحمية، في تهديد حقيقيّ لمصدر رزق صيادي “جل البحر”.
غياب “الأونروا“
تبلغ نسبة الأمية بين أبناء “جل البحر” حوالي التسعين في المئة (90٪)، حسبما يُقدّر أحد وجهاء التجمع هناك، والسبب هو خلوّ المنطقة من أي أي مدرسة أو مؤسسة تربوية تابعة لوكالة “الأونروا”. وفي حين تتواجد في المخيمات الفلسطينية القريبة (الرشيدية والبص) مدارس تابعة للمنظمة، فإن بُعد هذه المخيمات يحول دون قدرة التلاميذ على ارتيادها، حتى وإن قصدوها مشياً على الأقدام، إذ أنّ خطراً آخر ينتظرهم والحال هذه، وهو حوادث الطرقات التي اختطف ثمانية عشر طفلاً من التجمع منذ العام 2000 حتى يومنا هذا.
والجدير ذكره أن منظمة “الأونروا” قد قدمت خلال هذا العام الدراسي الجديد (2023/2022) باصات مجانية لنقل تلاميذ تجمع البرج الشمالي الذين يتعلمون في مدرستي البص والرشيدية، مستثنيةً تجمّع “جلّ البحر” مجدداً من خدماتها. ويخلو التجمع أيضاً من عيادة تابعة لـ”الأونروا”، مما يجبر الأهالي على دفع كلفة إضافية للوصول إلى عيادة مخيم البص.
منازل مهدّدة!
مخاطر عديدة تهدد منازل تجمع “جلّ البحر” التي لا تزال أسقفها مكونة من الصفائح المعدنية (الزينكو)، إذ تمنع الدولة اللبنانية القيام بأعمال البناء أو الترميم أو تغيير الصفائح أو طلاء الجدران وما شابه منذ سنوات عديدة.
شتاءً، كما هو الحال اليوم، تتعرض معظم المنازل للجرف نتيجة عدم وجود كاسر للأمواج، باستثناء بعض البيوت التي أقامت لها إحدى الجمعيات كاسراً مساحته لا تغطي إلا جزءاً بسيطا من مساحة التجمع. أما صيفاً، فتوضع على بيوت الزينكو مادة الأندولين، التي يجب فصلها عن الزينكو كل فترة للحؤول دون تجمع الجرذان والتسبب بروائح قذرة في البيوت. لكن هذا أيضاً ممنوع على الأهالي إزالته، الأمر الذي يزيد من معاناتهم في فصلين الشتاء والصيف.
مبادرات متناثرة
منذ تسعينيات القرن الماضي، وبغطاء من منظمة التحرير الفلسطينية، أفرزت دائرة شؤون اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ممثلين عنها لتشكيل لجنة شعبية تابعة للمنظمة في كل مخيم وتجمع فلسطيني. غير أن تجمع “جل البحر”، تديره لجنة تابعة للفصائل الفلسطينية، بغض النظر عن كفاءة هؤلاء ونزاهتهم في العمل الخدماتي، كما يلفت الأهالي في التجمع. وقد يشكل ضعف الإمكانيات أحد أبرز عوامل القصورفي عمل اللجنة، لكن لا يمكن لهذا العامل أن يكون أيضاً السبب فيما يعتبره البعض مساعٍ لإجهاض محاولات التغيير الشبابية في التجمع.
يقول عيسى مناصري، أحد الناشطين في التجمع، أنّ صندوقاً للمغتربين أنشئ عام 2008 بمبادرة من قبل شباب التجمع، كان الهدف منه تغطية حالات استشفائية من واجب “الأونروا” تغطيتها، إلا أن تقاعس واستهتار الفصائل في المطالبة بحقوق أهل التجمع دفعم إلى البحث عن طريقة أخرى، وعادة ما تكون هذه البدائل رجعية في مضمونها كما يقول غير أنها عملياً بمثابة إنجاز.
الفصائل vs الشباب
ويعيش معظم سكان التجمع حالة مادية صعبة تجعلهم يعتمدون في الأساس على الأبناء المغتربين كما يحصل مع عيسى وعائلته وزوجته، وهو الذي مكث ثلاث سنوات منذ الأزمة الاقتصادية التي حلت بلبنان من دون عمل، وبالتالي من دون أي مدخول.
يلفت الشاب الفلسطيني الناشط أنه في العام 2012، تشكّلت في تجمع “جل البحر” مبادرة شبابية أسوة بباقي المبادرات الناشئة في مختلف المخيمات والتجمعات من أجل العمل الاجتماعي الشبابي، وكان من ضمن أهداف المبادرة التشبيك مع باقي المبادرات والخوض في العمل الاجتماعي في المخيم من أجل تحسين أوضاع الناس، الا أن “الفصائل” رفضت التعاون مع الشباب. وعلى هذا المنوال، فقد حصلت محاولات عدة من قبل عدد من شباب التجمع من أجل ردم الفجوة بين اللجنة الفصائلية لتفعيل عمل الشباب، كما يقول عيسى نفسه، وهو الذي يعد من المساهمين في إنشاء أول مركز محو للامية في العام 2016 ضمّ ما يقارب الأربعين شابا، بالإضافة إلى كونه قدّم دروساً خصوصية للأطفال، وبعض الأنشطة الرياضية، “لكنه لم يستمر للأسف”، يقول عيسى.
يشير أحمد العلي، إلى أن القيمين على المبادرة لطالما طلبوا من اللجنة الفصائلية فرز عدد من شبابها الحزبيين من أجل الخوض معهم في العمل الاجتماعي والإغاثي والشبابي، غير أنها هذه الطلبات قوبلت بالرفض أو اللامبالاة. ثم يذكر جملة من التحديات الاخرى التي واجهت هذه المبادرة وغيرها من المحاولات، حائلةً دون استمرارها، منها محاربة الشباب عبر التخوين والاتهام بالتبعية لجهة سياسية ما!
وعلى الرغم أنه من مهام اللجان الشعبية في لبنان، ووفقا لنظامها الداخلي، التواصل ومتابعة ومراقبة أعمال “الأونروا” وغيرها من المؤسسات المعنية، للحث على تحقيق المطالب الخدماتية، فإن هذا ما لم يحصل؛ بل إنها لم تستطع حتى المطالبة في زيادة نسبة تحويلات التغطية المادية من قبل “الأونروا” في حالات الاستشفاء التي تحق لكل لاجئ، وهي تحويلات تتعلق بالصور الشعاعية والعمليات الجراحية.
تخريب ثم تخريب!
ويشير عيسى مناصري إلى أنه تم القيام بحملة تبرعات لإكمال نسبة تغطية حالات الاستشفاء أو الحالات المتعسرة من صندوق المغتربين سابقاً، كما يؤكد أن “الأونروا” تُقصّر في مسألة تغطية التحويلات للتجمع، إذ لا يحصل الأمر إلا لمن تتيح الواسطة له بذلك، ولعل حرمانهم من المواصلات المجانية مؤخراً “خير دليل” وفق قوله. ويستطرد أنه منذ بداية افتتاح المركز التعليمي، تمت محاربته وإحباط العمل الشبابي بطرقٍ فظّة من قبيل رمي النفايات على مدخله، أو من قبيل ما حصل عندما قدمت منظمة أخرى تعمل في المخيمات الفلسطينية مشروع ملعب على الشاطئ، ونُفذ المشروع بالفعل وخلق مساحة آمنة للأطفال وملاذاً للشباب.. غير أنه خلال مدة قصيرة تم تكسير الٕاضاءة والعارضات وتخريب المشروع من قبل مجهول. ويذكر مناصري مبادرات أخرى باءت بالفشل، حيث أقيم كاسر للأمواج إلا أنه لم يغطِّ سوى مساحة ضئيلة من الشاطئ، مما زاد من احتمال خطر تصاعد الأمواج على البيوت المتاخمة للبيوت التي حُصّنت بكاسر الموج.
في المحصّلة، ووفق أهالي “جل البحر”، أجهضت محاولات الشباب على مدار السنين في الوصول لأي نوع من التغيير، وقد حورب البعض انطلاقاً من أن اللجان لا تسمح للمؤسسات بالدخول إلى التجمعات والمخيمات الا عبرها، بل أنها بحسب البعض حاربت الشباب خوفا على مكانتها الشرعية وحفاظاً على منظومة مصالحها.
تجمع “جل البحر” ليس التجمع الفلسطيني الأول المهمش، والمبادرات الشبابية منذ أكثر من عشر سنوات لا تعدو أن تكون عملياً سوى أحد أوجه الصراع بين فصائل حزبية تقليدية وشباب يريد التغيير.. والمؤسف أن الشباب يدفع الثمن في غياب الإمكانات والحاضنة السياسية والإجتماعية لهم.
تعليقات: