الفنانة التشكيلية إيفيت أشقر
كم سررتُ حين اطلعتُ من خلال إحدى الصحف اللبنانيّة عن الفنانة الكبيرة إيفيت أشقر التي يُمكن وصفها بالفنانة الأجمل بروحها وعطائها وعملها. كنتُ أعتقد أنّها تعيش في أميركا بعيداً من وطنها لبنان، إلّا أنّ ما حملته الصحيفة من خبر وجودها في لبنان في منطقة رومية (بالطبع ليس السجن) أثلج قلبي؛ فهي محرّرة الإنسان من أوجاعه وقيوده وبشاعاته. تعيش عزلتها عن عمر بلغ الرابعة والتسعين. «تحيا في زاويتها، في محترفها، على نحو متقشّف وملتئم على الذات»، كما تقول صاحبة المقال في الصحيفة الناقدة ريما النخل. إيفيت أشقر صاحبة قلب كبير يتسع العالم. فنانة حسّاسة رقيقة، دمثة، راقية، محبّة، كثيفة المشاعر كلوحتها الغنائيّة. مهما قلنا في إيفيت الإنسانة والفنانة نبقى مقصّرين. أعمالها الغنائيّة تذكّرنا بأعمال كبار التجريديّين في العالم، يأتي على رأسهم الفنان الفرنسيّ نيقولا دو ستايل، حيث تتمدّد الألوان بأشكالها الحرّة والمدروسة بتمعّن، وتحبو في فضاء حرّ خالٍ من الثرثرة والسرديّات والمواضيع وهموم الإنسان، إلّا من الموسيقى والشعر اللذين تطرب لهما العين والأذن، وتعشقها القلوب العطشى للون والحبّ والأمان والسلام. لوحة إيفيت تشبهها بشفافيّتها وحضورها. فنانة متينة واثقة الخطى، ملكة اللون والضوء والنور. تبعث لوحتها الدفء حيث نحتاجه، تحضننا كعباءة رسول آتٍ من السماء والإيمان والصلاة. وقد تكون غيوماً ترسل الخير للأرض العطشى للماء، فتتحوّل إلى قوس قزح يُزيّن الأرض بعد ارتوائها. لوحاتها سمفونيّة الروح والسحر والحنان. لسانها اللغويّ son langage الفنّيّ التجريديّ التصويريّ يحدّثنا عن هويّة فرديّة متألّقة وحاضرة بقوّة خطابها الجماليّ الذي يجعلنا نصغي إلى كلّ مفردة تقال في اللوحة ومساحاتها.
أمّا إيفيت الإنسانة والأستاذة الجامعيّة، فأوجزها بما يلي: قبل سفري إلى فرنسا عام 1985 للدراسة زرتها في منزلها المطلّ على حديقة الصنائع، طالباً منها النصح والمساعدة اللغويّة الفرنسيّة. لم تبخل عليّ. شرحت لي طبيعة الفرنسيّين، وكيف يُمكن التعامل معهم، ولا سيّما الطلاب منهم في كلّيّة الفنون في باريس. أعطتني دروساً أوّليّة في اللغة الفرنسيّة التي كنتُ أعاني ضعفاً شديداً بها. ولم يختلف عنها زوجها بهذا الأمر. كانت إيفيت أستاذتي في معهد الفنون الجميلة (الروشة)، قبل أن يتحوّل اسمه إلى كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة، وقبل أن تتفرّع الجامعة وتتشظّى. كانت الأستاذة الأرق والأرقى والألطف والأحب في الكلّية، إلى جانب أستاذين آخرين: فضل زيادة ومحمد عزيزة (مع حفظ الألقاب) على سبيل المثال لا الحصر. لا ننسى عطاءات الأساتذة: موسى طيبا وكامل لطفي وحسين ماضي وعماد أبو عجرم.. لا أنسى منظر إيفيت وهي تحمل لوحتي الكبيرة، (التي تفوقها طولاً) وهي قصيرة القامة، بمشهد سورياليّ كاريكاتوريّ، لتعرضها على طلاب الصفوف الأخرى ولا سيّما طلاب الثالثة والدبلوم (كنتُ حينها طالباً في السنة الثانية) بسبب نجاح اللوحة ومحبّتها لها. من يفعلها من الأساتذة غيرها؟ لا أحد!
كان بعض الأساتذة، وهم من الأسماء الكبيرة، لا يقومون بواجباتهم التعليميّة؛ حيث حضورهم مساوٍ لغيابهم؛ حضور جسديّ فقط! على عكس إيفيت المشجِّعة المعطاءة، الواثقة من نفسها، لا تخاف تخريج طلاب فنانين ينافسونها الساحة (كما كان يُفكّر البعض). زرتُها إحدى المرّات، وكانت منهمكة بالرسم على مجموعة تخطيطات بالحبر الصينيّ على أحجام صغيرة توسّطتها الفنانة كطفل صغير يلهو بلعبه. سألتني أيّها الأجمل، فأشرتُ إلى الجميع. أصرّت على معرفة الأفضل منها حسب رأيي. هو موقف محرج. بعد تأمل دقيق، وبناء على رغبتها، أشرتُ إلى واحدة منها، فقالت هي لك هديّة منّي. ما زلتُ أحتفظ بها بفرح وفخر منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. كانت تسكن شقة صغيرة الحجم حيث لا مكان يكفي لإقامة محترف لها سوى ملتقى درجين لا تزيد مساحته عن مترين مربّعين. قالت لي إنّ المساحة الكبيرة ليست شرطاً للإبداع والعطاء. كانت تنفّذ جداريّات في هذا الركن الصغير!
نعم يا إيفيت، الجميع أضحى وحيداً، وفي قلوب الناس جروح من كلّ نوع، كما تقولين في المقابلة.
إيفيت أشقر قامة فنّيّة ناجحة محبّة معطاءة شفافة، حماها الله وأطال بعمرها.
أحبّك يا إيفيت طالما أنّ هناك نوراً في عينيّ وحياتي..
الفنان التشكيليّ
* د. يوسف غزاوي
تعليقات: