المزروعات تموت من العطش، في عزّ الموسم الزراعي في الجنوب(علي علوش)
"عادت المياه إلى مجاريها"، هي العبارة التي استخدمها مسؤولون في قرى بنت جبيل والجوار بعد مساءلتهم عن أزمة انقطاع المياه التي تضرب غالبية المناطق اللبنانية، لا سيّما الجنوبية. فقدت البلديات السيطرة على الأزمة، وبات لكل قرية جنوبية فعاليّاتها وأصحاب نفوذها الذين يتحكّمون بالمياه لتغذية منازلهم ومنازل أقربائهم. ويعيش سكّان الحي نفسه في بعض القرى تفاوتاً كبيراً في كمية المياه التي يتلقّونها، أو التي لا تصل بالأساس.
تلاعب بـ"السِكر"
يؤكد عدد كبير من السكان ان المياه تتوزع بشكل عشوائي، أو يتلاعب في "السّكر" بعض السّكان "النافذين"، أو بعض موظفي مصلحة مياه لبنان الجنوبي، حتى باتت "جنّات" المياه حكراً على المقتدرين.
يتغذى قضاء بنت جبيل بشكل أساسي من مشروع الطيبة (قضاء مرجعيون)، وآبار وادي الحجير، ويعاني المصدران من مشكلتي انقطاع الكهرباء وأعطال في المضخات فلا تصل مياه كافية إلى البلدات. يضاف إلى ذلك، ان بعض الآبار الإرتوازية (كلفة الواحدة بين 100 و120 ألف دولار)، التي تمّ حفرها في بعض القرى على نفقة مجلس الجنوب أو فاعليّات البلدات، مخالفة للقوانين والمعايير، ممّا أدى في بعض الحالات إلى جفاف الينابيع.
بلدة شقرا نموذجاً
"على مدار ثلاث سنوات، أشتري نقلات المياه دورياً كل 4 أيام، ويتراوح سعر الـ20 برميلاً بين 15 و20 دولاراً"، يقول أحد سكّان بلدة شقرا. يعاني معظم أهالي البلدة من توزيع جائر للمياه، فيما يتم التحكّم بضغط المياه عبر فتح "سنّ أو سنَّين" مثلاً، مما يقلّل من وصولها بشكل سليم.
هناك مشكلتان أساسيتان يعاني منها بعض سكّان البلدة، الأولى عدم امتلاك آبار منزلية، وبالتالي، عدم الاستفادة من مياه الأمطار، والثانية تمركز المنزل في طريق عالٍ مّما يخفّف ضخ المياه.
تروي لنا بعض المصادر في البلدة، أنّ في الحيّ نفسه، هناك شخصان يتحكّمان في "السّكر"، يرفعون "الريجار" ويخفّفون المياه أو يحولونها، حتى بات لبعض السّكان أكثر من خطّ مياه.
"فتح له سكر المياه وطلب منه توصيل نقلتين إلى منزله"، هذا ما قام به أحد موظّفي مصلحة مياه لبنان الجنوبي، الذي كان يعمل جابي مياه قبل أن يتغيّر منصبه. الأخير هو من سكان بلدة شقرا أيضاً، يُلقّب بـ"المهندس"، يتحكم بالمياه من دون أي حجّة قانونية، فيما يتقاضى المال مقابل فتح المياه في بعض الأحياء، بحسب ما أكّده بعض أهالي بلدة شقرا لـ"المدن".
منذ حوالى السنة، توجّه "المهندس" إلى حي "الفلل" في بنت جبيل، حيث المغتربون العائدون، وعلّق لافتة مكتوب عليها: "ممنوع دخول أي شخص من مصلحة مياه لبنان الجنوبي بقرار من أمن الدولة بنت جبيل"، لكن سرعان ما علمت المصلحة وألقى أمن الدولة القبض عليه حيث بقي ليلة واحدة فقط، خصوصاً أنّه مدعوم حزبياً.
تواصلت "المدن" مع الموظف، فتذرّع بـ"حماية أهالي بلدته" متّهماً البعض بسرقة المياه، ونفى كل التّهم الموجهة إليه، من ضمنها توقيفه لدى أمن الدولة.
بلدة عيناثا: "فالج ما تعالج"
أما في بلدة عيناثا في القضاء نفسه، فالحال ليس أفضل، إذ اتّبعت البلدة نهج "كل ضيعة بتشدّ لحالها". يقول أحد سكّان البلدة لـ"المدن"، أنّه يحتاج لكمية كبيرة من المياه كونه يملك ثلاثة كروم، أي يدفع ما يقارب المئة دولار شهرياً. بينما ينظر في من حوله من الجيران، يجد من يملك أكثر من خط للمياه، ومن تصله المياه وهو غير مشترك.
"هناك شخص مسؤول عن توزيع مياه وادي جيلو، يستقوي بالسلاح والغطاء الحزبي"، تؤكّد مصادر من عيناثا. وتضيف أنّ الأخير هو من الفاعلين في مهمّة التوزيع الجائر للمياه مقابل تقاضيه مبالغ مالية من أصحاب النفوذ في عيناثا وغيرها. فيما راجع الأهالي أكثر من مرة مصلحة مياه بنت جبيل ولكن على حدّ تعبيرهم: "فالج ما تعالج".
من جهتها، أطلقت بلدية عيناثا نظام تكرير في منطقة عين الجوزة، حيث يتوجه إليها الأهالي لشراء غالونات بسعر لا يتخطّى الـ25 ألف ليرة لبنانية، "هي خدمة ناجحة ولكنها لا تكفي خصوصاً للريّ"، بحسب ما قاله أحد الأهالي. ويعاني آخرون من "شخصنة الأمور" حيث فقدوا الأمل في حال اعترضوا على أي تجاوز للقانون، ليتحول إلى خلاف شخصي.
التوزيع غير العادل هي حالة جماعية متفشّية في هذه البلدات، تطاول قرى أخرى مثل برعشيت وصفد البطيخ وغيرها. إذ تؤكد مصادر من عيناثا لـ"المدن" أنّ هناك مشاريع كانت مخصصة للبلدة لكن القليل منها يصل إليها، والجزء الأكبر يكون من حصّة أهالي ميس الجبل الحدودية، حيث تتواجد الشخصيات المقتدرة والقيادات الحزبية والدينية. ولم يصل للأهالي أي توضيح حول مصادر المياه "التي اختفت فجأة"، مثل مياه مشروع الطيبة، ووادي السلوقي، ووادي جيلو، وآبار أخرى حُفرت من فاعليات بنت جبيل وعيناثا.
يعتبر رئيس بلدية عيناثا رياض فضل الله أنّ المسؤولية الأساسية تقع على عاتق مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، فلو أنجزت كل المشاريع بشكل كفوء، لكان الجنوب بحيرة. ويضيف: "منذ التحرير إلى الآن، شبكات المياه التي أنجزت تجعلنا نعوم فوق المياه"، مشيراً إلى أزمة قلة التوزيع والسرقة والتعدّي على الشبكة العامة.
مصلحة المياه: إلجأوا لخط الشكاوى
قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية، لم تكن أزمة المياه بهذة الحدّة، لكن تفاقمت بشكل كبير بسبب دولرة أسعار مجموعات المياه والتمديدات. كما إن موازنة مصلحة المياه بالليرة اللبنانية فتضطر إلى الاعتماد على الجهات المانحة (اليونيسيف). يقول رئيس المصلحة الإدارية المركزية حسين الغول: "هناك بعض الأعطال في محطتي الوزاني والطيبة، ونحن بدأنا بالعمل عليهما حيث سيتحسن الوضع تباعاً في الفترة المقبلة. أما محطة وادي السلوقي ومياه الوزّاني فتمت صيانتهما، وكمية المياه المنتجة جيدة".
وعن الشكاوى تجاه بعض موظفي المصلحة وأزمات الصيانة، يقول الغول أنّه يتم معالجة الأمور من دون أي إهمال. ويلفت الغول إلى أنّ هناك خط شكاوى 1785، يمكن لأي مواطن تقديم شكوى لانقطاع المياه أو طلب صيانة أو للتبليغ عن فساد موظف. وفيما يخص محاسبة الموظفين المتجاوزين للقانون، فإن المصلحة ترسل لهم إنذاراً أو توقفهم مؤقتا عن العمل. "من الصعب أن نجد موظفاً جديداً براتب 30-40 دولار شهرياً، لكن إن تكرّر التجاوز نقوم بفصل الموظف"، يردف الغول.
أزمة إنقطاع المياه أزمة عامة، وان كانت أشد ايلاماً في بعض المناطق الجنوبية، على الرغم من زعم البعض أنّها عادت لمجاريها. فبعض المزروعات تموت من العطش، في عزّ الموسم الزراعي في الجنوب، الذي يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، فيما الأحزاب القابضة على السلطات المحلية، ومصلحة مياه لبنان الجنوبي، تستمر في عدم ايلاء هذا الملف ما يستحقه من اهتمام. وعلى رغم معرفة كثر من المواطنين باسماء المتورطين في "احتكار" المياه والتجاوزات المرتكبة الا أن كثراً منهم يتحفظون عن تقديم الشكاوى باسمهم أو الاعتراض علناً خوفاً ويأساً من أن لا شيء سيتغيّر.
تعليقات: