القرض الكويتي لبناء مدارس بيروت: «نَصْب» على حساب الفقراء


رغم أن القرض الكويتي (75 مليون دولار)، بنى مدارس تتسع لأكثر من اعداد التلامذة المسجلين في مدينة بيروت، جرى تشغيل المباني بأقل من ثلث طاقتها الاستيعابية، وأبقي على المدارس المستأجرة لحسابات سياسية وانتخابية


تثير «إعارة» مجمع المدارس الرسمية في زقاق البلاط مجاناً لمدرسة «ليسيه عبد القادر» تساؤلات عدة حول إنفاق قرض مشروع الأبنية التعليمية في بيروت، الممنوح بموجب الاتفاقية الرقم 650، الموقعة عام 2002، بين الجمهورية اللبنانية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، واتفاقية القرض الإضافي الرقم 745، عام 2007، وبما مجموعه 75 مليون دولار.

وبحسب القانون 552/ 2003، كان يفترض إنشاء 22 مدرسة وزيادة 34 ألف مقعد دراسي لتلامذة بيروت، على أن يشمل المشروع الاستملاكات وتشييد أبنية مدرسية في العاصمة وتجهيزها. ومع أن الاتفاق ينص على بدء المشروع عام 2002 وإنهائه عام 2006، بدأ التنفيذ عام 2005 وانتهى عام 2022، فيما تضاعفت، بين 2002 و2007، كلفة البناء، فعدّل لبنان، عام 2009، عدد المباني من 22 مدرسة إلى 14 تستوعب 22 ألف تلميذ بدلاً من 34 ألفاً.

اللافت أن إتفاقية القرض 650/2002 تنص في مادتها الرابعة على آلية استخدام العقار وتحصر تشغيله وإدارته بوزارة التربية والتعليم العالي، ما يعني أن إعارته أو تأجيره إلى بلدية بيروت أو إلى القطاع الخاص غير قانونية، والوزارة ملزمة بتأمين الهيئة التعليمية وصيانة المبنى وتجهيزه.

ووفق النشرة الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء للعام الدراسي 2021 - 2022، بلغ عدد المدارس الرسمية في مدينة بيروت 56 مدرسة (26 تملكها الدولة، وواحدة للبلدية و19 مدرسة هي أملاك خاصة مستأجرة). وتضم المدارس نحو 15800 تلميذ. ومن ضمن هذا التعداد، المدارس الـ 12 الكبيرة المبنية من القرض الكويتي، باستثناء مجمع الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح - زقاق البلاط «الموهوب» لـ«ليسيه عبد القادر».

وبحسب بيانات مجلس الإنماء والإعمار، فإن المباني المدرسية الكبيرة، المبنية من القرض وفق المعايير الدولية المعتمدة، تتسع لـ 20050 مقعداً دراسياً، وتتجاوز سعتها عدد التلامذة المسجلين في مدارس بيروت مجتمعة. ولكن، لا يجري استثمار هذه المباني كما يجب، إذ يتم تشغيلها، فعلياً، بأقل من ثلث طاقتها الاستيعابية، فمدرسة «الشيخ جابر الأحمد الصبّاح الرسمية (رأس بيروت الأولى سابقاً)، مثلاً، تستوعب 1704 مقاعد من الروضات حتى «البريفيه»، فيما وصل عدد تلامذتها عام 2022 إلى 479 تلميذاً، كذلك الأمر بالنسبة إلى بقية المدارس الجديدة، فيما المدارس القديمة هي في الغالب مكتظة.

المدارس الجديدة موزعة في مختلف دوائر بيروت: رأس بيروت (3)، زقاق البلاط، المزرعة (2)، الأشرفية، المصيطبة (2)، الباشورة، إضافة إلى مدرسة في بئر حسن (المجمع التربوي) وأخرى في الشياح (محاذية للمجمع التربوي). أما المدارس المكتملة المراحل من الروضات حتى الثانوي وعددها 8 فتتراوح سعتها بين 1320 و2225 مقعداً، بينما تتسع المدارس حتى نهاية المرحلة المتوسطة بين 900 و1700 مقعد.

الجدير ذكره أن معظم المدارس اكتمل بناؤها وتجهيزها قبل 2014 (بعضها قبل 2010)، إلا أن الوزارة لم تقم بإعادة توزيع التلامذة عليها، وأبقت على المدارس المستأجرة، رغم إمكانية نقل التلامذة واستيعابهم في المباني الجديدة المجهزة والواسعة، ما يشكل هدراً للمال العام والطاقات لدى الهيئات التربوية والإنفاق على صيانة المباني من دون تفعيلها الكامل. ويرى مراقبون تربويون أن العائق الرئيسي يكمن في محاصصة تعيينات مديري المدارس، باعتبار أن دمج المدارس يعني خسارة نحو 50 مديراً ومديرة وعدد من النظّار في بيروت لوظائفهم الإدارية، ما سيولد بلبلة وتداعيات انتخابية.

أرقام وزارة التربية للقدرة الاستيعابية للمقاعد الدراسية لمدينة بيروت في المراحل ما قبل التعليم الثانوي تشير إلى وجود 17389 مقعداً، ما يتناقض مع القدرة الاستيعابية للمدارس الجديدة فقط (دون احتساب القدرة الاستيعابية للمدارس الـ 56 مجتمعة)، بحيث يوازي استيعاب المدارس الجديدة وحدها أكثر من 17 ألف مقعد للمرحلة المتوسطة. علمًا أنه بحسب بيانات غير رسمية لوزارة التربية، تسجل، بداية العام 2023، في مدارس بيروت للمراحل قبل الثانوية نحو 10131 تلميذاً. إلا أن سكان بيروت يعانون من صعوبة إيجاد مقعد لأبنائهم في بعض مدارسها.

ككل قرض، يتوجب على المقترض إعادته إلى الجهة المقرِضة، وبالتالي، على لبنان إعادة القرض على دفعتين سنوياً بقيمة 3 ملايين دولار حتى العام 2036. ويحدد موقع مجلس الإنماء والإعمار ما أنفق على مشاريع الأبنية المدرسية في بيروت بقيمة 64 مليون دولار (59 مليوناً من القرض الكويتي ونحو 5 ملايين دولار من اعتمادات مجلس الإنماء والإعمار) ولا نعرف كيف أنفقت بقية القرض، أي 16 مليوناً، إذ بقي من دون بيانات واضحة، ولا نعرف كم أنفق على استملاك العقارات، وهل تم ذلك من القرض أم من خزينة الدولة أم كانت في الأساس عقارات مملوكة من الدولة؟

وشملت اتفاقية القرض إنفاق نحو 59 مليون دولار على إنشاء مبان مدرسية، 12 مليون دولار للأثاث والتجهيز، 600 ألف دولار للاستشارات والإشراف، 3.4 ملايين دولار احتياط، ليكون مجموع القرض 75 مليون دولار.

يبدو أن التحايل على المقرض بدأ في عام 2007، حين طلب لبنان من الصندوق الكويتي قرضاً ملحقاً بقيمة 25 مليون دولار على القرض الموقع عام 2002 وكان بقيمة 50 مليون دولار بحجة أن أسعار مواد البناء ارتفعت عالميًا كما أسعار العقارات في بيروت والكلفة العامة، مع العلم أن الاتفاقية كانت قد حددت إنفاق القرض نهاية 2006، والانتهاء من بناء المدارس، إلا أن الدولة لم تحقق ذلك وذهبت إلى اقتراض إضافي يوازي نصف القيمة الأساسية للقرض، علمًا أن نسبة ارتفاع الأسعار والعقارات لم تتجاوز 50% بين عامَي 2002 و2006.

التحايل الثاني يكمن في خفض عدد المدارس المزمع إنشاؤها من 22 مدرسة بسعة 34 ألف مقعد إضافي إلى 14 مدرسة بسعة 22 ألف مقعد، والنتيجة النهائية كانت بناء 12 مدرسة بسعة 20 ألف مقعد معظمها غير مجهزة بشكل كامل وتعمل بأقل من ثلث قدرتها الاستيعابية.

بمعنى آخر، أوصل هذا التحايل إلى خفض فعالية القرض إلى أقل من ثلث قيمته وأضعفت الخطة المرسومة له من قبل المقرض والاتفاقية مع الدولة اللبنانية.

كذلك يلاحظ أي مراقب أن الكلفة المرتفعة جدًا لبناء المدارس تمثل بحد ذاتها تحايلاً يعرفه اللبنانيون في كل التلزيمات، إذ إن الكلفة الحقيقية لبناء المدرسة المكتملة المراحل وسعتها نحو 2000 تلميذ تتراوح بين 5 و10 ملايين دولار، والمدارس حتى المرحلة المتوسطة بسعة 1000 مقعد بين 3 و5 ملايين دولار.


أوصل التحايل إلى خفض فعالية القرض إلى أقل من ثلث قيمته


وآخر التحايلات هو ما ورد في تقارير مجلس الإنماء والإعمار تحت العقد 15224: المؤازرة الفنية والإشراف على بناء المدرسة الرقم 8 والتي انتهى العمل بها عام 2021، وهي المبنى المدرسي الجديد في زقاق البلاط الذي تشغله مدرسة خاصة (ليسيه عبد القادر) من دون مسوغ قانوني أو عقد، وبشكل مخالف لاتفاقية القرض التي تلزم الدولة وضع المبنى المدرسي وتشغيله وصيانته وتجهيزه ومدّه بالهيئة التعليمية لأداء الوظيفة المحددة له في اتفاقية القرض. فالدولة تنفق من القرض على ترميم مبنى يشغله قطاع خاص من دون مقابل.

الخسارة مضاعفة للمواطن اللبناني، فالمقرض لم يكن يعرف السبل اللبنانية لنهب المال العام والهبات والقروض، وهذا النموذج يفقد فعالية القرض بسبب سوء الإدارة والنيات المبيتة والنهب المشرعن ما يقارب ثلثي قيمته ندفع ثمنه يومياً في أزمتنا الاقتصادية الحالية، وبمنع أطفالنا من الإفادة من مبان مدرسية كاملة التجهيز لأن أحدهم يفتقر إلى الرؤية المستقبلية وفهم معنى المنفعة العامة.


* باحث في التربية

عودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: