يبدو «الوشم» على الجسد ظاهرة اجتماعيّة ملفتة لجيل الشباب في مجتمعاتنا الحاليّة، وقد كثُر استعماله بشكل لافت وواسع، ولا سيّما المراهق منه، وقد تعدّى الأمر إلى أكثر من جيل. فهذه الشارات أو العلامات والرموز، تُشكّل موضوعاً جذّاباً، تجدر دراسته والوقوف على الأسباب المؤدّية إليه. فهل تُعتبر هذه الممارسة واستخدامها جديدة علينا، أم هي تقليد لمجتمعات وعادات قديمة وحديثة؟ هل هي مجرّد أشكال جديدة للعلاقة مع الجسد، أم هي نوع من طقوس التحوّل؟ أسئلة كثيرة يُمكن طرحها، ولا يمكننا الإسهاب في هذه العجالة التي تقتضي منّا قراءة سريعة ومختصرة وممكنة..
تناولتُ في كتابي «محطّات تشكيليّة، حديثة ومعاصرة»، منشورات الجامعة اللبنانيّة 2018، دراسة عن «فن الجسد» Bady Art، الذي حاولتُ من خلاله الإضاءة على هذا النوع من الفنون، والذي تحوّل إلى هاجس وجوديّ وهويّاتيّ، انتهك المحرّمات الإنسانيّة، وغال في تعذيب الذات والجسد. فقد شكّل الجسد مادّة تعبيريّة للإنسان منذ القدم، مركز الملذّات والمحرّمات والقوانين الإنسانيّة. بدأ الأمر مع الشعوب والقبائل البدائيّة عبر الوشم والتزيّن بالحليّ المصنوعة من العظام والمعادن والأخشاب التي كانت ترافق جثث الموتى أثناء دفنهم، مروراً بالتغضين والحنّاء والتحكّم بالعنق والرقبة والشفة السفلى عبر إطالتها كما يحصل مع القبائل الأفريقيّة، على سبيل المثال.
اختلف مفهوم الإنسان بجسده حسب المعتقدات والحضارات، بدءاً بتقديسه وانتهاءً بابتذاله وانتهاك هذه القدسيّة التي لازمته طويلاً.
كان الهدف من استعمال الجسد في الماضي دينيًّا طقوسيًّا احتفاليًّا، أو جماليًّا بحتاً، منه ما يتعلّق بطرد الأرواح، أو جذب الطرف الآخر، أو لتمييز أفراد القبيلة عن سواها من القبائل الأخرى، أو لتمييز المرأة العزباء من المتزوّجة، أو لإبراز المكانة الاجتماعيّة للفرد، ويكون ذلك عبر الرسم على الجسد بالألوان والأصباغ المأخوذة من الطبيعة.. أمّا اليوم، فقد اختلف مفهوم هذا الفنّ ومفهوم استعمال الجسد في مجتمعاتنا المعاصرة.
في مؤلّفهما القيّم «الهويّة والهويّات، الفرد - الزمرة - المجتمع»، تناول الباحثان الفرنسيّان «كاترين آلبيرن» و«جان كلود روانو بوربالان» هذا الموضوع عبر ربطه بقضيّة الهويّة المعاصرة. يرى الباحثان أنّ الشارات الجسديّة تُشكّل في مجتمعاتنا موضوعاً جذّاباً، ويسألان، إذا كان للاستخدامات الجديدة ارتباط بالقديم، وهل يمكن مقارنتها بما يُسمّى «طقوس التحوّل»، أم هي مجرّد أشكال جديدة للعلاقة مع الجسد؟
يُعرّج الباحثان على رأي علماء النفس الذين وصفوا الأشخاص الموشومين بالـ«وحشيّين»، أي، ناساً ذوي ذكاء متدنٍّّ، وبرابرة، ودلالة على عارهم وانشقاقهم عن القيم المطروحة كقيم للحضارة. ثمّ يُعرّجان على إعطاء أمثلة تحت مُسمّى «بزوغ ظاهرة ثقافيّة» في انكلترا وكاليفورنيا أواسط السبعينيّات، حيث انتشر الوشم، وبالتحديد مع ما يُسمّى «البانك» في لندن، رغبة بالسخرية من الأعراف الاجتماعيّة والمظاهر البدنيّة والملبسيّة؛ قاموا بثقب الجسد بالدبابيس، وعلّقوا صلباناً معقوفة، ورموزاً دينيّة، وكلّ نوع من الأشياء الغربيّة على أجسادهم. صار الجسد عرضة للحرق والبتر والثقب والتشطيب والوشم، كترجمة عن انشقاق فظّ عن المجتمع البريطانيّ. وقد انتشرت هذه الظاهرة في أميركا وأوروبا حيث تشرّبتها «القبائل الحضريّة» (البانك والهاردروك والتكنو (موسيقى إلكترونيّة راقصة) والغرنج (نوع من موسيقى الروك) وسائقو الدرّاجات «بيكرز» والمِثليّون الذكور والبدائيّون الحديثون.. يرى هذا الجيل من الشباب أنّ الجسد غير مُنجز وناقصاً، وعلى الفرد أن يكمله بأسلوبه الخاصّ. وفي ذلك بحث عن الفرادة الشخصيّة.. تتعدّد الأساليب من الوسم (رسم أو علامة على الجسد بالحديد الأحمر أو باللايزر) والتشطيب وتجريح الجلد، واصطناع ندبات ناتئة، والتوسيع، والطعوم تحت الجلد بإضافة أعضاء له.. ولعلّ الفرنسيّة «أورلان» Orlan خير مُعبّر عن ذلك من خلال تغيير ملامح وجهها ورأسها وجسدها.. اتخذت أورلان من وجهها مرآة لمحاكاة نماذج فنّيّة من الحضارات البدائيّة، أو مقاربة من أعمال بعض وجوه لوحات الفنانين عبر العصور، كالحصول على جبهة تقارب جبهة الموناليزا جمالًا، أو لمشابهة شفتي إحدى شخصيّات لوحات الفنان «فرانسوا بوشيه، الخ. وقد تقوم بزرع بعض الموادّ تحت جلدها لتحصل على انتفاخ أو بروز يخدم موضوعها وغرضها، أو لتستنسخ من نفسها كائناً جديداً. كانت عمليّاتها الجراحيّة تُنقل حيّة عبر الأقمار الاصطناعيّة ليراها العالم. واللحم المستخرج من العمليّة الجراحيّة سيُعرض في متاحف العالم مرفقاً بالأدوات المستعملة في العمليّة. وقد أدّت أيضاً حركات أدائيّة، هذه الحركات التي غالباً ما رافقت فناني الجسد. وهناك أيضاً الفنانة «يوكو أونو». وهناك الفنانة «أنغريد موانغي». وهناك الفنان الأوستراليّ «ستيرلاك» الذي استعمل أجهزة متطوّرة من التكنولوجيا الحديثة الملصقة بجسده العاريّ لعرض أداءاته، وكأنّ جسده تحوّل إلى آلة. وهناك الفنانة «جان بانيه» التي طغت الآلام والمعاناة والتضحية على عملها في السبعينيّات كفعل مازوشيّ حيث كانت تقوم بشطب نفسها، فتسيل منها الدماء متعرّضة للأخطار، ناهيك من العلامات والندوب الدائمة التي تتركها الجراح في قدميها وذراعيها وبطنها! أمّا الفنان الأميركيّ «ديفيد فوجناروفيتش» فقام بتشطيب شفتيه وإقفالهما كمن يخيط ثوباً! وقام أيضاً بطمر نفسه في الأرض تاركاً وجهه مكشوفاً في الهواء للتنفّس. وغيرهم الكثير. (للتوسّع، أنظر كتابنا المذكور).
إذاً، فإنّ للوشم قيمة هويّاتيّة كما يرى الباحثان المذكوران أعلاه: فهو يُعبّر عن انتماء الفرد إلى الزمرة، إلى منظومة اجتماعيّة، ويُحدّد بشكل دقيق التبعيّة الدينيّة.. يُركّزان على أنّ البُعد الجماليّ هو الذي يُحتسب بداية في مجتمعاتنا المعاصرة، يُضاف إليه البُعد النفسيّ والوجوديّ والاجتماعيّ؛ الشارة المعاصرة، تكسب الفرديّة؛ تأكيد الفرديّة التي لا تعود للغير. جسد الشخص الذي لا ينتمي إلّا إليه. يُعبّر عن انسلاخه كفرد، ذلك لأنّ مجتمعنا تغيّريّ في النزعة الفرديّة، جاعلة من الجسد أداة للانفصال وتأكيد الـ«أنا». كما إنّ الوشم والخرم يدلّان على تبدّل أنطولوجيّ، ويزيدان الثقة بالذات، والنضج الشخصيّ! تنطوي الشارات الجسديّة أيضاً على رغبة بلفت النظر، بصنع جماليّة الحضور، حيث يشعّ سطح الجلد بهالة خاصّة.
الشارة الجسديّة تعلن الانتماء إلى الذات. إنّها تترجم ضرورة إتمام جسم غير مكتمل بذاته، بمبادرة فرديّة، من أجل تجسيد الهويّة الشخصيّة (كما يرى الباحثان كاترين وجان كلود).
من يرد رؤية الكم من الوشم وتفشيه بين الشباب والشابات، عليه ارتياد المسابح أثناء الصيف حيث الأجساد تتبارى بوشومها كحلبة مصارعة: أنا الأقوى والأجمل والأرقى والأكثر حضوراً! لم يعد الجسد نظيفاً كما خُلقنا عليه، بل أصبح أداة للعب تأكيداً لجنوننا وعبثنا وضياعنا.
د. يوسف غزاوي
تعليقات: