"قصقص ورق ساويهم ناس، سمّيهم مسؤولين وحاكيهم كأنّهم ساسة للناس"، هذا القول، بتصرّف، يصحّ في قضيّة حكم قضائيّ بإخلاء مخيّم "للنازحين" السوريّين قائم على ملكيّة خاصّة، يستعصي على أصحاب الملكية تنفيذه، نظراً للتبعات الإنسانيّة لإخلائه من قبل القوى الأمنيّة والعسكريّة، وتخلٍّ من قبل السلطات الحكوميّة والإداريّة عن مسؤوليتها عمّا سيؤول إليه مصير العائلات من قاطنيه، في ظلّ قرار منع إنشاء مخيّمات جديدة.
في المنطقة العقارية- معلّقة أراضي- التابعة لمدينة #زحلة، مخيم، "للنازحين" السوريين، اتّخذ هذه الصفة في مرحلة تحوّل مخيمات للعمال الزراعيين الموسميين السوريين إلى مخيمات للاجئين، حين التحقت العائلات الهاربة من النزاع المسلّح في سوريا بأماكن سكن أقاربها في لبنان، وفي ظلّ انقسام السلطة اللبنانية وتخبّطها في كيفية إدارة الملفّ.
المخيم المعنيّ، كان قائماً منذ العام 2009، بصفته يضمّ ورشة زراعية تابعة لمستأجر سوري للعقارين 1000 و2986 بموجب "عقد زراعي"، مستصلحاً الأرض بزراعة البطاطا. ومع تدهور الاوضاع الامنية في سوريا، توّسع المخيم تدريجياً ليضم منذ العام 2019، ما يزيد عن 40 خيمة، يقطنها اكثر من 400 نسمة من العائلات التي نزحت إليه، من مواطنها في حلب، بفعل صلات القربى، فأضحى مخيماً للنازحين، منحته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان رقم "09"، وحاز على الخدمات المقدمة من الجهة الاممية والمنظمات العاملة تحت إشرافها، وسط قبول ضمني لكلّ الاطراف المعنية بالتطور المستجدّ، مع استمرار العقد زراعياً.
استمرت الحال الى أن حصل نزاع بين أصحاب الملكية والمستأجر السوري، تعدّدت أسبابه من مطالبة المستأجر بتعديل قيمة الإيجار من 40 ألف دولار الى 10 آلاف دولار، تبعاً لتضخّم سعر صرف الدولار في لبنان، الى ملاحقة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني لأصحاب الملكية قضائياً بجرم تلويث النهر. ومهما كانت أسباب النزاع، فقد رغب أصحاب الملكية بفضّ العلاقة التي استمرّت 14 سنة واستعادة ملكيتهم، فلجأوا الى المرجع المختصّ، وتقدّموا من قاضي الامور المستعجلة في زحلة بدعوى لإخلاء العقارين، وحصلوا على قرار "نافذ على أصله، معجّل التنفيذ" بإلزام المدعى عليه بإخلاء العقارين فوراً وتسليمهما الى الجهة المدّعية شاغرَين من أيّ شاغل، تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها مليون ليرة لبنانية عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ من تاريخ التبليغ.
إلّا أنّ المشكلة التي تعيق تنفيذ الحكم القضائي تكمن في متن القرار القضائي نفسه في العبارة التي أشار فيها الى أنّ "وكون استحالة نقل المخيم لا تبرّر التمادي في التعدّي المرتكب من قبل المدعى عليه افتئاتاً على حقوق المدّعين". ذلك أنّه رغم قدسية الملكية الخاصّة، وسموّ القرار القضائيّ، إلّا أنّ الأمر الواقع عند التنفيذ، يطرح إشكاليّة: ما مصير نحو 400 نسمة بعد إخلائهم المخيّم؟
وعليه على الرغم من حصول الجهة المدّعية صاحبة الحقّ قانوناً على قرار بالتنفيذ من دائرة تنفيذ زحلة، والتأكيد عليه بالموافقة على طلب الجهة المدّعية الاستعانة بالقوّة العامّة لتنفيذ الحكم، وتكليف النيابة العامة الاستئنافيّة في البقاع بتاريخ 17 أيّار من العام الجاري آمر فصيلة درك زحلة بالتنفيذ، إلّا أنّ هذه القرارات بقيت لغاية اليوم حبراً على ورق، بفعل إشكاليّة التبعات الإنسانيّة التي ستنجم عن التنفيذ.
فبعد تبلّغ فصيلة درك زحلة طلب تنفيذ الإخلاء، استدعت المستأجر السوريّ واستمعت إليه فصرّح بأنّه لا يمانع الاخلاء، وبأنّه سبق وحصل على موافقة أصحاب قطعتي أرضٍ واحدة في برّ الياس والثانية في الدلهمية لنقل المخيّم، واتّفق مع أصحابهما على البدل الماليّ لقاء استئجار الأرض، إلّا أنّ ما يعيق انتقال المخيّم، وبالتالي الإخلاء الطوعيّ للعقارين موضوع الحكم القضائيّ، هو عدم حصوله على موافقة من محافظ البقاع بنقل المخيم إلى واحد من العقارين المتاحين في ظلّ قرار عدم السماح بإنشاء مخيّمات جديدة.
وقد رفعت فصيلة درك زحلة محضر تحقيقاتها مرفقاً بقرار تكليفها بتنفيذ الإخلاء إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخليّ لإتخاذ القرار المناسب للتنفيذ، نظراً للطابع الأمنيّ ميدانيّاً والحاجة لمؤازرة قوّة من الجيش إذا اقتضى الامر.
وهكذا لبث أصحاب الملكية مع قرار يسمو قانوناً ومعطّل التنفيذ ميدانيّاً، وهم يطيلون حبل السماح. إلى أن حصل تطوّر جوهريّ في القضيّة من قبل محامي الجهة المدّعى عليها بتصريحه المدوّن في المحضر المؤرّخ بتاريخ 22 حزيران من العام الجاري، بأنّه "تمّ الاتّفاق مع المدّعى عليهم إخلاء العقار ضمن مهلة أقصاها 15/7/،2023 وأن يتمّ تسليمه في هذه المدّة".
إلّا أنّ تاريخ المهلة انقضى في 15 تموز الجاري ولا يزال المخيم قائماً حيث هو. فماذا يفعل أصحاب الملكية، ولمن يتوجّهون لاستعادة حقّهم بعد أن استنفذوا كلّ الطرق القانونيّة؟
الأمر الذي يستجرّ أسئلة أخرى: ماذا لو نُفّذ الإخلاء بالقوّة العامّة بعد أن أصبح وجود المخيّم مصادرة لملكية خاصّة؟ وإذا ما تمّ تجاوز إقحام العسكر في وجه عائلات من أطفال ونساء وشيوخ يعجّ بهم المخيّم، ماذا سيكون مصير ما يزيد عن 400 نسمة؟
بالنسبة إلى سكّان المخيم، العودة إلى سوريا متعذّرة لأسباب انعدام الأمان وغيرها، من بينها "الخدمة العسكرية الإجبارية"، وبين شاغلي المخيم من الذكور من هم مطلوبون إمّا للخدمة العسكرية الإجبارية وإمّا كاحتياط. وهم يرغبون بالانتقال معاً الى مخيّم آخر، لروابط النسب بينهم. ويقول مستأجر العقارين بأنّه ما أن يُمنح الموافقة على النقل فإنّه في غضون عشرة أيام يكون قد أخلى العقارين.
نقل المخيّم متعذّر، بفعل التزام محافظ البقاع عدم السماح بإنشاء أيّ مخيم جديد في المحافظة، على ما أُبلغ المستأجر السوريّ الذي قصده طالباً إذناً بالانتقال. وبفعل رفض المحافظ اللجوء إلى أيّ استثناء، في ظلّ وفرة طلبات النقل لديه، مع الإشارة إلى اختلاف طبيعة الانتقال في هذه القضية لكونها ترتبط بحكم قضائيّ ملزم بالإخلاء.
فبالنسبة إلى محافظ البقاع، ثمّة فصل للسلطات، وبالتالي فهو كسلطة إدارية لا علاقة له بالقرار القضائيّ وبآليّة تنفيذه من قبل القوى الأمنية.
ماذا عن التبعات الإنسانية لتنفيذ القرار القضائيّ، لجهة مصير مجموعة بشريّة من بضع مئات؟
ففي ظلّ التوجّه الحكوميّ لإعادة #النازحين السوريين إلى بلادهم عبر مفاوضات مع الحكومة السورية، وفي ظلّ قرارات المجلس الأعلى للدفاع المتعلّقة بالنازحين السوريين، فإنّ الترخيص بنقل المخيم يعود إلى وزارتي الداخلية والشؤون الاجتماعية، أو الحصول على استثناء من الحكومة وحينها ينفّذ هو القرار.
لكن من هي الجهة صاحبة الصلاحية لمخاطبة الجهات الوزارية: أهي السلطة الإدارية المحلية الممثلة بمحافظ البقاع أم السلطة الأمنية لدرء وضعها في مواجهة النازحين أم مفوضية اللاجئين كونها المعنية بحفظ حقوق النازحين؟
تشير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان إلى مخيمات النازحين بـ ITS- Informal Tented Settlement، أي أنّ التسمية تعترف ضمناً بأنّ هذه التجمّعات السكنية غير رسمية وناشئة بفعل الأمر الواقع الذي قام لغياب السلطة اللبنانيّة سابقاً عن الإمساك بملفّ النزوح وإدارته، وانقسامها حوله، ما أفضى إلى العشوائيّة. لتقوم بعدها شراكة بين السلطات اللبنانيّة والجهات الأممية أسهمت في شرعنة الوضع القائم من خلال تدفّق الأموال لدعم المجتمع اللبنانيّ المضيف ومؤسّساته الرسمية في مقابل انتظام وضع المخيمات من خلال مدّها بأساليب الاستمرار خدماتيّاً من قبل الجهات الأممية، وإن بحدوده الدنيا، وتنظيم وجودها من خلال سلسلة قرارات حكومية في غالبها مقيّدة لشاغلي هذه المخيمات، لكنّها تبقى إقراراً بها وبمسؤوليتها عنها وعن شاغليها.
وفي حال المخيم المعنيّ، فإنّ الجهة الأممية توفّر له الخدمات، وتؤمّن تمثيلاً قانونيّاً في قضية الإخلاء. أمّا السلطات اللبنانية فهي أيضاً تقوم بدورها التنظيميّ للمخيّمات، فعلى سبيل المثال قام جهاز أمن الدولة مؤخراً بهدم خيمة شغرت في المخيم من قاطنيها إنفاذاً للقرار القاضي بهدم كلّ خيمة تشغر في المخيّمات.
وسط هذا الوضع المعقّد الذي يسمح بتقاذف المسؤوليات والتملّص منها، حكم قضائيّ معلّق بين الحقّ الذي هو إلى جانب أصحاب الملكية، تأخذ به السلطة القضائية دون سواه، ويقول باستخدام القوّة العامة لإحقاق الحقّ، وبين عدالة التنفيذ، التي تحرص على إحقاق الحقّ، وتلتفت إلى تداعياته الإنسانية المتعلّقة بمصير عشرات العائلات. عدالة مناطة بقرار وزاريّ- إداريّ- أمنيّ يسمح بنقل المخيم بسكّانه.
ليبقى ثالث الخيارات وهو الذهاب بالمعالجة الأمنية إلى نهايتها بما يعني ترحيل عائلات بكامل أفرادها. إنّما الخيار يحتاج إلى قرار وتحمّل مسؤوليّة، فهل من صاحب قرار في سدّة المسؤوليّة؟
فقد نفذ صبر أصحاب الملكيّة.
الخيمة التي تم هدمها
تعليقات: