لم يكن المحامي «حلّال المشاكل»، والجسم القضائي عموماً، بمنأى عن الأزمات المتتالية التي أرخت بثقلها على كل نواحي الحياة وزادت من الأعباء التي تكدست لدى كل مواطن وفي شتى أنواع المهن، بل قد يكون المحامون أكثر المتضررين من دون أي أفق واضح لمصير مهنتهم. فليس بالأمر الصعب اليوم حيازة إجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية أو من إحدى الجامعات الخاصة، ولكن المعضلة تكمن في الانتساب إلى نقابة المحامين، وكذلك الانتساب إلى معهد الدروس القضائية، إذ باتت تظهر معايير غير الشهادة ودرجة التفوّق للانتساب إليهما. ويبدو أن للصيغة اللبنانية حصة الأسد في الدخول إلى عالم المحاماة أو عالم القضاء.
فما هو حال مهنة المحاماة اليوم، وما هو مصير الخرّيجين الحقوقيين الجدد؟ وهل من حلول مطروحة لتحسين واقع المهنة وإمكانية الإضاءة على معاناة المحامين في ظل الأزمة الحالية بموضوعية ومن أجل الإصلاح وليس لتسجيل النقاط فحسب؟
ناهز عمر نقابتي المحامين في لبنان المئة عام، النقابة الأهم لجهة حملها راية الدفاع عن الحقوق وحمايتها من أي انتهاك. لم يكن الانتساب إلى النقابة أمراً سهلاً منذ نشأتها، لأنها تشترط على طالب الانتساب، بالإضافة إلى الحصول على إجازة في الحقوق، امتلاكه معايير شخصية وذاتية تُصاغ على أساسها شخصية المحامي التي لا تقتصرعلى علاقته بموكله في الدفاع عن حقوقه، بل تتعداها إلى دوره تجاه المجتمع بمهمة نشر الوعي القانوني والحقوقي لدى الأفراد للتعرّف على حقوقهم وحثّهم على أداء واجباتهم. ومن أهم هذه الصفات الجرأة والمناقبية والأخلاق والثقافة العامة ومناصرة قضايا الحق، لأن المحامي الناجح هو مزيج من كل المهن، وعليه أن يتقن ميزة تطويع النص القانوني لمصلحة ملفه وموكله من دون أن يخترق قاعدة العدل والإنصاف وأخلاقيات مهنة القانون.
محام «بالواسطة»
اعتمد بعض النقباء السابقين في النقابتين نهج تقليص عدد المنتسبين إلى النقابة بحجة الحفاظ على مهنة المحاماة. فتح هذا النهج، بالطبع، باب المحسوبيات بشكل أوسع وفقاً للصيغة اللبنانية لأن هذه القرارات تجعل من طالبي الانتساب إلى نقابة المحامين يواجهون أول امتحان في خرق قاعدة العدل والإنصاف. فغير المحسوب على جهة سياسية أو طائفية وازنة قد لا يتمكن من اجتياز امتحان الدخول بشقّيه الشفهي والخطي أو أحدهما إلا إذا استطاع تحصيل علامة مرتفعة جداً، علماً أن المحامي الذي يدخل إلى نقابة المحامين ليس على أساس كفاءته سيبقى مرتهناً للجهة التي منحته شرف حمل صفة المحامي، وستكون ثاني معاركه التحرر من هذه القوى، وهو غير وارد لدى القسم الأكبر من المحامين.
ما يحصل على أرض الواقع أن عدداً كبيراً من متخرجي كلية الحقوق يحرمون من حقهم في التقدم لامتحانات نقابة المحامين لأكثر من سبب. الأوّل، لعدم تمكنهم من تأمين مكتب يسجّلون على اسمه كشرط للتقدم لامتحانات الانتساب، وأن هذا التسجيل لا يقتصر على إفادة خطية من أحد المحامين في الاستئناف الذين أصبح بإمكانهم تسجيل متدرّجين على اسمهم وفقاً للمادة 12 من قانون تنظيم المهنة. بل أضيف إلى هذا الشرط بقرار نقابي الحصول على ورقة تعريف من محامين آخرين، إضافة إلى تأمين غرفة خاصة بالمتدرّج ضمن المكتب المسجل على اسمه، الأمر الذي يصعب توفره لأن عدداً لا بأس به من مكاتب المحامين يقتصر على غرفة واحدة ولا إمكانية لتسجيل أكثر من متدرّج أو اثنين، وخصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية، إذ لم يعد عدد كبير من المحامين قادراً على دفع إيجار مكتب واسع، كما أن المكاتب الكبرى معدودة والتسجيل على اسمها ليس متاحاً لأي طالب انتساب، سواء في طرابلس أو في بيروت، لأن هذه المكاتب تعتمد معايير خاصة بها في قبول تسجيل متدرّجين على اسمها، وللانتماء السياسي والمذهبي تأثير كبير عليها، وبات نهج معظم هذه المكاتب يعتمد على تأمين توازن طائفي أو ثقل انتخابي خلال اختيار محاميهم المتدرّجين.
والسبب الثاني، أنه بات معروفاً لدى معظم الراغبين بالانتساب إلى النقابة أن على الطالب تأمين «واسطة» لضمان اجتياز الامتحان الشفهي بشكل خاص. وهذا الأمر يختلف بطبيعة الحال بين النقابتين، كما يختلف باختلاف العهد النقابي ونهج كل نقيب. وعند سؤال بعض المحامين المنتسبين أخيراً إلى النقابة حول صحة هذا الأمر، أتى جواب إحدى المحاميات أنها تقدمت للامتحان أكثر من مرة ولم توفّق، إلى أن «عملت واسطة».
هذا الواقع، وإن كان يحدث فعلاً، يضرب روح المهنة ويصعب كثيراً الخوض في آليات الحلول لإعادة لقب «محام» إلى موقعه السليم شكلاً ومضموناً.
عدد كبير من متخرّجي كلية الحقوق يحرمون من حقهم في التقدم لامتحانات نقابة المحامين
المحامي «الشاطر»
فادي، خرّيج كلية الحقوق من إحدى الجامعات الخاصة منذ عام 2021، لم ينتسب إلى نقابة المحامين رغم مرور سنتين على تخرجه بسبب عدم إيجاد مكتب يسجّل على اسمه ليتدرّج فيه. وفقاً لنظرته المثالية لمهنة المحاماة، فهو لم ينزل على أرض الواقع ولم يختبر الفرق الشاسع بين ما تعلمه في الجامعة وما سيتعلمه بين أروقة قصور العدل والمخافر والسجون ودوائر الدولة، التي تختلف عن الواقع الذي بات يعتمد على الشكل بعيداً عن المضمون، ويعتمد على العلاقات والمعارف بعيداً عن تطبيق القانون. فادي ليس سوى نموذج عن مئات المتخرجين من كليات الحقوق الذين أُجهض حلمهم في اكتساب صفة «محام» نتيجة سياسات الأمر الواقع والقرارات النقابية التي يظهر أنها تحرص على التوازن الطائفي والمحاصصة السياسية أكثر بكثير من حرصها على تعزيز مهنة المحاماة ورفع شأنها.
المحامي «الشاطر» لبنانياً، هو الذي يملك (مفاتيح) القضاة والأجهزة الأمنية وموظفي الدوائر الرسمية من مالية وعقارية وغيرها. وأضيف في السنوات العشر الأخيرة، مفتاح جديد، وهو مفتاح الرأي العام، وتقنيات استخدام السوشيال ميديا والظهور الإعلامي، الذي شكّل مادة للمواجهة أخيراً بين نقيب المحامين في بيروت وبعض المحامين الناشطين في قضايا الرأي العام بإصداره قراراً يمنع فيه المحامين من الظهور الإعلامي من دون إذن مسبق من النقيب. (راجع «القوس»، 29 نيسان 2023، «التمسّك بالمبادئ للحفاظ على النقابة»).
هذه الميزات أو «المفاتيح» هي سلاح ذو حدّين لأنها مهمة وضرورية في تيسير عمل المحامي وتمكينه من اعتماد آليات التقاضي الاستراتيجي في عمله، في ظل واقع متهالك مؤسساتياً وقانونياً. وفي الوقت ذاته يفتح الباب واسعاً على فساد وسمسرات، يشترك فيها بعض المحامين، وهنا يأتي دور نقابتي المحامين في المراقبة والمساءلة والمحاسبة واتخاذ القرارات الجريئة بشطب المحامين المخالفين لقواعد أخلاق مهنة المحاماة.
العرف يُقدّم على القانون
لم يذكر قانون «تنظيم مهنة المحاماة» في مواده أي تقسيم مذهبي أو طائفي، لا في شروط الانتساب إلى النقابة ولا في شروط انتخاب مجلس النقابة. وهذا يدل على مدى رفعة هذه المهنة عن أي تصنيفات خارج السياق النقابي المهني، إلا أن التقسيم الطائفي الحاصل باختيار النقيب وأعضاء مجلس النقابة هو عرف قُدّم على القانون حماية «للنظام الطائفي». وأعطي بموجب هذا العرف لنقابة بيروت الصبغة الطائفية المسيحية لموقع النقيب على الدوام، وسمح لنقابة طرابلس بالمداورة بين المسلمين والمسيحيين لموقع النقيب، الأمر الذي ينسف قاعدة العدل والإنصاف من أهم استحقاق نقابي في النقابتين «انتخاب نقيب المحامين».
الترفّع غير القانوني
نصّت المادة 27 من الفصل الثالث من قانون تنظيم مهنة المحاماة «في انتهاء التدرج والتسجيل في جدول المحامين»، على أن يقدّم المتدرّج، بعد انتهاء مدة التدرج المحددة بثلاث سنوات، إلى مجلس النقابة طلباً مرفقاً بمستندات محددة تثبت أنه أنهى تدرّجه. لكن لم يُذكر أن على طالب الترفّع على الجدول العام أن يخضع لامتحانات، الأمر الذي بات معتمداً نتيجة قرارات نقابية من دون تعديل القانون. وأصبح معروفاً لدى معظم المحامين، في نقابة بيروت بشكل خاص، أن الترفّع على الجدول العام أصعب من امتحان الانتساب للنقابة لأسباب قد لا تكون دائماً حقوقية وقانونية بقدر ما هي انتخابية. لأن المحامي الذي يترفّع يصبح له الحق في الانتخاب، الأمر الذي يجعل من التوزيع الطائفي والسياسي لطالبي الترفّع أساساً في نجاحهم من عدمه لضمان سير شكل المعارك الانتخابية.
ذكر عدد كبير من المحامين أن تدرّجهم لم ينته بثلاث سنوات، لأنهم تقدموا لامتحانات الترفّع على الجدول العام مرات عدة ولم يوفّقوا. علماً أنهم محامون يمارسون المهنة ولديهم موكلون ويعملون بشكل جدي، إلا أن حسابات النقابة في معظم المجالس كانت مختلفة ولم يكن دخول المحامين الجدد في اللعبة الانتخابية أمراً ميسّراً، فكان المعيار مختلفاً ومخالفاً لما نصّ عليه قانون تنظيم المهنة.
المحامي الشاطر هو الذي يملك مفاتيح القضاة والأجهزة الأمنية وموظفي الدوائر الرسمية والرأي العام
انتخابات من دون إنتاجية
تنشغل نقابتا المحامين كل سنة في الانتخابات. وفقاً لقانون تنظيم المهنة، ولاية النقيب سنتان وولاية أعضاء مجلس النقابة ثلاث سنوات، تنتهي كل سنة ولاية ثلث الأعضاء، وبالتالي تبقى النقابتان مشغولتين بالانتخابات لإكمال مجلس النقابة الذي من الصعب جداً أن يكون منسجماً، لأن المعارك السياسية الطاحنة تضع النقيب في جهة وباقي أعضاء المجلس في جهة ثانية. مهما كان رأس النقابة دبلوماسياً ونقابياً، فإنه سيواجه عراقيل عدة نتيجة هذا التشرذم وعدم الاستمرارية لولاية كاملة لمجلس النقابة، فللمحامين كل سنة محطة انتخابية، سنة لانتخاب نقيب وعضوين، وسنة لانتخاب عضوين جديدين مكان المنتهية ولايتهما، فيصعب العمل وتصعب المحاسبة والمساءلة. إذ يجد النقيب نفسه خلال مدة ولايته غارقاً بين الأزمات الداخلية والمهمات الخارجية، والمهام المتعددة التي عليه تمريرها خلال سنتين مع مجلس نقابة، نادراً ما يكون منسجماً بشكل كامل ويمتلك رؤية وبرنامج عمل نقابي موحدين.
هذا الواقع يجعل تعديل قانون تنظيم المهنة أمراً ملحّاً وضرورياً، ولا بد من طرح هذا الاقتراح للنقاش على النقابتين وعلى المحامين النواب الذين تقع على عاتقهم مهمة تطوير القوانين، وعلى رأسها ما يتعلق بتحسين مرفق العدالة بدفّتيه: القضائية من خلال مشروع قانون استقلالية السلطة القضائية، والحقوقية من خلال تعديل وتطوير عمل مهنة المحاماة.
في كل مرة نسأل فيها المحامين المرشحين لموقع نقيب عن رأيهم في ضرورة تعديل قانون تنظيم المهنة وخاصة لناحية مدة ولاية النقيب ومجلس النقابة، يكون الجواب أن التعديل ليس أمراً سهلاً ويتطلب تحضير مشروع قانون وتوافق النقابتين ودخول في تفاصيل عديدة من الصعب جداً التوافق عليها.
تعديل تنظيم المهنة؟
ما هي النقاط التي قد تثير الجدل في تعديل المادتين 44 و45 من قانون تنظيم المهنة لجهة مدة ولاية النقيب ومجلس النقابة وآلية انتخابهم؟
إن وصول نقيب وأعضاء مجلس نقابة منسجمين ومتفقين على برنامج عمل ورؤية موحدة لولاية تصل إلى ثلاث سنوات، يجعل من مجلس النقابة أكثر فعالية، ومن المعركة الانتخابية نقابية إلى حد كبير لأنها ترتكز على البرنامج المقدّم من لائحة كاملة مؤلفة من نقيب وأعضاء، ولا تعتمد فقط على العلاقات الشخصية أو القرار السياسي للأحزاب في الخيار الانتخابي. كما تنهي آلية الانتخاب المرهقة للمرشحين وللناخبين في كل سنة، فضلاً عن المدة القصيرة لولاية النقيب حيث يدخل معترك النقابة منفرداً ليواجه غالباً بـ«بلوكات» سياسية تعمل من أجل حساباتها السياسية وليس النقابية.
قد يواجه هذا المقترح، أيضاً، بانتقادات مرتبطة حصراً بالتمثيل الطائفي. علماً أنه مقترح يُفعّل دور العمل النقابي، هذا الدور الذي بات مفتقداً منذ سنين طويلة، وأصبح المحامون يعيشون البطالة المقنّعة في ظل أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية غير مسبوقة. فالانهيار المؤسساتي الذي أصاب الدولة كان له انعكاسات كبرى على المواطنين والموظفين، ومن أكبر ضحاياها المحامون الغارقون في أزماتهم المتعددة.
المحامي كأي مواطن تراكمت عليه الاستحقاقات وبات غير قادر على دفع إيجار مكتبه أو رسوم التأمين واشتراكات النقابة، ولم يعد بمقدوره طلب أتعاب مرتفعة لأن الناس غير قادرين على تغطية التكلفة المرتفعة للتقاضي. إضافة إلى الإضرابات المتتالية للقضاة والموظفين التي دفع ثمنها المحامي بشكل كبير لأنه توقف نهائياً عن العمل ولا وجود لأيّ مرتّب أو دخل ثابت يغطي نفقاته الضرورية (وهنا لا نتكلم عن محامي الشركات الكبرى ومحامي المصارف).
مهنة المحاماة جوهرها وسبب وجودها الدفاع عن المظلومين والمضطهدين والمنتهكة حقوقهم للحفاظ على ميزان العدالة بين كل البشر، ولكن واقعنا السيّئ وأزماتنا المتتالية ونظامنا الطائفي جرّدوها من مكانتها السامية والمقدسة ووضعوها في وضع محرج، رغم بعض المحاولات لاستعادة مجد نقابة المحامين التي كان يحسب لها ألف حساب في كل القضايا الوطنية والقومية والعربية.
احتضان المتدرجين؟
من الضروري أن تتابع النقابة بنفسها مع المتقدمين للانتساب إليها، بعيداً عن شرط التسجيل المسبق على اسم مكتب، وأن تعمل على تأمين مكاتب للتدرّج عبرها وأن تشرف على سنوات التدرّج بشكل مباشر وفقاً للمادة 27 من قانون تنظيم المهنة والشروط المطلوب توفرها للترفّع على الجدول العام. وأن يعطى للمحامي المتدرّج الحق في تغيير المكتب الذي يتدرب فيه لأسباب مهنية أو شخصية بكل سهولة ومن دون أي تعقيدات (المادة 23).
قد يواجه هذا الاقتراح بالكثير من الانتقادات، ولكن بالمقابل سيراه البعض إنقاذاً لمستقبلهم المهني نتيجة معاناتهم خلال سنوات التدرّج من ممارسات بعض المحامين، ويضع النقابة في واجهة المسؤولية عن تدريب وتخريج محامين قادرين على الاستقلالية والنجاح وفهم معنى أن يكونوا محامين مدافعين عن قضايا الحق بامتلاكهم أهم تقنيات أدوات المواجهة في المجتمع باستخدامهم سلاح القانون.
تعليقات: