الكثير من المؤسسات تفتقد الحد الأدنى من المقومات لاستقبال الأطفال (Getty)
"غياب موجب الرقابة، اصطحاب قاصرات إلى ملاهٍ ليلية، تهديد قاصرات بالسجن في حال التحدث أمام المحكمة، التزوير والاتجار بالبشر".. هي عينة من الجرائم التي ارتكبتها جمعية "قرية المحبة والسلام" بحق الأطفال منذ تأسيسها في العام 2020 إلى اليوم. أُقفلت الجمعية، بقرار القاضية المنفردة الجزائية في بعبدا، جويل بو حيدر، الناظرة في قضايا جنح الأحداث والأحداث المعرّضين للخطر في جبل لبنان (راجع "المدن").
حسب كتاب العلم والخبر الذي قدمته لوزارة الداخلية، الجمعية "إنسانية وتنموية واجتماعية تسعى لاستقبال وتأهيل المعرضين للخطر من جميع الأعمار لا سيما الفئة العمرية لغاية سبع سنوات". على الرغم من معرفتها، تسترت "المديرة" نورما سعيد عن تحرش المدعو جورج كالي الجنسي بقاصرتين وتعاطي المخدرات، وهي التي تعرّف عن نفسها كأكاديمية اجتماعية سابقة في إحدى الجامعات العريقة.
كعادتنا، ننتظر الكارثة لتقع، أو لتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لنتحرك. على فضيحة جمعية "قرية المحبة والسلام"، أن تُقابل بمتابعة كافة المؤسسات المعنية بتقديم الرعاية. لا نقصد بالمتابعة الكشف عن قضايا التحرش والاستغلال وسوء المعاملة فقط، فعدد كبير من هذه المؤسسات تفتقد الحد الأدنى من المقومات لاستقبال الأطفال نتيجة الأزمة الاقتصادية. يضاف إلى ذلك، هجرة المتخصصين العاملين في هذه المؤسسات، وتحديداً في دور الأيتام، بحثاً عن فرص ومداخيل أفضل.
كحال اللبنانيين
على المقلب الآخر، وفي تقرير سابق نشرته "المدن"، برزت ظاهرة تخلّي الأهل عن أولادهم لمؤسسات الرعاية، لعدم قدرتهم على تأمين الحد الأدنى من حاجاتهم الأساسية. خلال جولتنا الحالية، يجمع عدد من رؤساء دور الأيتام على تنامي الظاهرة، وباتت شبه يومية، رغم الأوضاع الكارثية التي تواجهها مؤسساتهم في السنوات الماضية، والتي تعيش على دعم الجمعيات الخارجية، وتنتظر المناسبات الدينية لجمع بعض التبرعات، وتحديداً من المغتربين.
تظهر أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية للعام 2022، أنّ في لبنان حوالى 170 مؤسسة رعاية تقدّم التعليم الأكاديمي والمهني (داخلي وخارجي) للأطفال اللبنانيين والأطفال المولودين من أمّ لبنانية. نحو 36600 طفل يستفيد من هذه الخدمات، 950 منهم بعمر ما بين صفر وثلاث سنوات. تخضع هذه المؤسسات لرقابة الوزارة، على عكس الجمعيات المسجلة في وزارة الداخلية كحال "المحبة والسلام"، والتي لا تنسيق بينها وبين "الشؤون".
رغم تآكل قيمتها، تعجز وزارة الشؤون عن تسديد المبالغ المستحقة لمؤسسات الرعاية منذ 2020. حسب نائب رئيس المجلس الوطني للمؤسسات الإجتماعية سلوى الزعتري، "حال هذه المؤسسات كحال اللبنانيين. إذ تأثرت بحجز المصارف لأموالها ما أجبر أربع منها على الإقفال النهائي، وتعليق عدة مؤسسات خدمة الرعاية الداخلية مكتفين بالرعاية النهارية، حيث يعود الطفل إلى منزله بعد انتهاء الدوام".
وتشير رئيسة جمعية "العطاء الخيرية" رندة بركات إلى أن "العقد مع وزارة الشؤون الإجتماعية بات شكلياً، إذ تتقاضى جمعيتها، والتي تضم 46 طفلاً، ما بين 15 و18 مليون ليرة كل ثلاثة أشهر". المبلغ الذي كان يساوي أكثر من 10 آلاف دولار، تحوّل اليوم إلى 170 دولاراً تقريباً، ما أجبر الجمعية الطرابلسية للجوء إلى دعم إحدى الجمعيات الخارجية التي تغطي الجزء الأكبر من النفقات.
"تروما" الأطفال
"اتصل ببعض الأهالي لزيارة مركز المؤسسة ورؤية أطفالهم، لكنهم يرفضون لعدم امتلاكهم بدل النقل"، تضيف بركات لـ"المدن". لم تشهد الجمعية إقبالاً كهذا من الأهالي لتسجيل أطفالهم في الميتم، إلا أن إمكانياتها المحدودة تمنعها من قبول بعض الطلبات. وحسب بركات، سيحرم العاملون في الجمعية من إجازة دور الأيتام السنوية بسبب رفض بعض الأهالي استلام أولادهم في أوقات الإجازة لعدم قدرتهم على تأمين الطعام لهم.
خلال جولة "المدن" على بعض دور الأيتام، أجمع المسؤولون فيها على الواقع النفسي الصعب الذي وصل إليه الأطفال خلال الفترة الأخيرة. فإلى جانب البيئة الجديدة التي لم يتأقلم معها الطفل وإبعاده عن محيطه الأسري، تتفاقم المشكلة في حال قلة أو انعدام زيارات الأهل. تستلزم هذه الحالة عرض الأطفال على خبراء نفسيين متخصصين، وهي خدمة مكلفة فقدتها غالبية الدور نتيجة الأزمة الاقتصادية.
توضح مديرة برنامج الحصانة والمرونة في جمعية حماية، روز حبشي، أنّ "ابتعاد الطفل عن والديه هو نوع من "التروما"، ويختلف التأثير من فئة عمرية لأخرى. ففي هذه الحالة، لا يستطيع أحد تفسير سبب الانفصال، تحديداً عند الأطفال المدركين للواقع، ليؤمنوا أن المركز سلخهم عن أهلهم، خصوصاً إذا انقطعت الزيارات".
بالتوازي، تلفت سلوى الزعتري إلى أن العمل اليوم يتركز على إعادة تفعيل البرنامج التوعوي بالتعاون مع المجلس الأعلى للطفولة وبالتنسيق مع البلديات ووزارة الشؤون. يهدف هذا البرنامج إلى توعية الأهل على أهمية دور الأسرة، ما له من تأثيرات إيجابية على حماية الأطفال خصوصاً في البيئات الهشة.
يعيدنا الواقع الحال إلى بداية الأزمة اللبنانية، حين حذّر الخبراء من نتائجها على الفئات الاجتماعية كافة وتحديداً الأطفال. يبدو أن هذه التحذيرات بدأت تتحول واقعاً، فالأطفال الذين حرموا العيش بين أسرهم، يواجهون اليوم تحدي صمود مؤسسات الرعاية وتحدي أن يمتلك بعض الأهالي تكلفة التنقلات لرؤيتهم مرة واحدة في الأسبوع.. أو الأسبوعين.
تعليقات: