تطويع صيدا التي تتوه بين المايوه والنفايات (Getty)
لا يمكن النظر إلى ما يجري في مخيم عين الحلوة على أنه محصور في تداعياته السياسية والاجتماعية داخل المخيم. ولا مجال للتعاطي مع كل هذه الوقائع المتفجرة والخطرة بأنها جزء من صراعات النفوذ والطموح في السيطرة فقط.
عاصمة الجنوب
تمثّل أحداث المخيم امتداداً لمسار طويل من انكسارات كثيرة لجماعة أو أكثر. بعيداً من التفاصيل اليومية، والتي أصبحت معروفة في محاكاة الاشتباكات ووقائعها. فالمخيم يقع ضمن منطقة جغرافية ذات بعدين، بعد ضيق ومحلي هو البعد الصيداوي، وبعد أوسع وذات مدى أبعد باعتبار صيدا عاصمة الجنوب. وهذا جزء من صراع لطالما تجذّر في كل من بيروت وصيدا، بوصف الأولى العاصمة التي تحتضن الجميع، لكنه احتضان كان على حساب أهلها الذين هجروها باتجاه مناطق الأطراف. وبوصف الثانية عاصمة الجنوب، وبوابته واحتضانها أيضاً لفئات اجتماعية من مكونات مختلفة، بالتزامن مع تغذية نزعات متطرفة مناطقية أو دينية أو مذهبية أو حتى داخل المذهب الواحد، في انقسامات متعددة سياسية وغير سياسية. وكان آخرها الحفلة المعيبة والمهينة في الاعتراض على المايوه.
مدن السنّة
يقع مخيم عين الحلوة بين كل هذه الوقائع والهواجس الاجتماعية. وهو في الداخل يضج بأحداث مشابهة، تتخذ طابعاً أعنف، وذات بعدي سياسي وأمني وعسكري وعقائدي، أو ذات بعد استثماري بعقائد كثيرة من قبل أجهزة أكثر. والحالة الاجتماعية المترهلة في صيدا، المتجلية في الصراع المستمر على كيفية إدارة ملف النفايات مثلاً، والفشل الدائم في ذلك، الذي دفع برئيس بلديتها إلى الاستقالة، له ما يقابله من صراعات داخل المخيم بين الفصائل المتنوعة أو داخل الفصيل الواحد. في السياسة والأمن، الأكيد أن ما يجري يهدف إلى كسر حركة فتح المنخورة من الداخل وتتجاذبها صراعات كثيرة. فيما تجد القوى الإسلامية فرصتها لشد عضدها وبسط نفوذها وتوسيعه. لكن ذلك كله يبقى تفصيلاً، فلا بد من العودة إلى الصورة الأوسع.
صورة صيدا، وداخلها عين الحلوة، هي صورة مصغرة عن حال لبنان، وبالتحديد عن حال بيروت، وعن حال مدن سنّة الاعتدال في كل المنطقة، من الموصل إلى الرقة وحمص ودمشق وحلب. كل هذه المدن الكبرى، لها صدى في ما يجري بعين الحلوة، كل هذه المحافظات التي تبتلع مساحاتها مساحة لبنان، خاضت تجاربها من قبل في منطقة عبرا، وهي منطقة مسيحية في الأساس التاريخي، هُجّر أهلها في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، تقع على أطراف صيدا الشرقية، شهدت في العام 2013 اختباراً عسكرياً لحالة أحمد الأسير، والتي تحاكي الكثير من الحالات امتداداً من عبرا إلى طرابلس وعرسال، وحالياً عين الحلوة.
إلى غزة وجنين
كلها مشاهد واحدة، لانهيار مفهوم الدولة ببنيتها الوطنية ومؤسساتها، لتتوالد على حوافها مجموعات تدعي اختزالها ووضعها على طريق الهداية. وقبل الذهاب إلى المشاهد الأبعد، لا بد من الرسو عند خلاصة، وهي محاكاة صراع الأخوة في عين الحلوة لصراعات سابقة حصلت في غزة، وقابلة لأن تحصل وتتطور بين الأخوة في جنين وكل الضفة. ومن الخلاصات أيضاً، المساعي الدائمة لعزل المخيم عن لبنان، وجعل المخيمات بؤر ومحميات لتنظيمات مستعدة للتحرك غب الطلب، من دون إغفال احتمال محاولات استدراج الجيش اللبناني للانخراط في هذا الصراع، كما حصل من قبل في مخيم نهر البارد، وإن كانت الوقائع والظروف مختلفة. أو إقحامه في صراع كما كان يراد له أكثر من مرة في طرابلس أو عرسال.
وهنا ثمة مفارقتان سورياليتان، الأولى أن لا يكون الجيش قادراً على التدخل على غرار عجزه في أحداث 7 أيار 2008. والثانية، أن منظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت إلى جانبه في أحداث نهر البارد، لا تجد من يقف إلى جانبها في مواجهة هذه الأحداث أمام صراع الداخل فيها، وصراعها مع تنظيمات إسلامية أخرى.
المايوه والنفايات
من شأن أحداث عين الحلوة أن تضعف المخيم أكثر، وتهز منظمة التحرير او السلطة الرسمية الفلسطينية، وتسهم في تهشيم فتح. لكن النتيجة الأبعد والأعم هي أن نتائج الاشتباكات ستؤدي إلى تطويع صيدا، وهي التي تتوه بين المايوه والنفايات، فيغادرها رئيس بلديتها. وللمصادفة أن بعد استقالته بأيام جاءت استقالة رئيس بلدية بيروت، بغض النظر عن الموقف منه، لكن السياق يأتي على وقع مطالب مرفوعة بتقسيم بيروت، وصراع بين جمعيات ونواب على مساحة عامة في الجميزة على الجهة الشرقية، أو صراعات مع البلدية من الجهة الغربية على تخريب البلدية لمساحات عامة كحديقة المفتي حسن خالد. وقبلهما كانت الأزمات المتوالية التي عاشتها مدينة طرابلس مع بلديتها، والصراع على الرئاسة والاشتباك المستمر مع المحافظ، كما هو الحال الأزلي بين بلدية بيروت ومحافظها.
إنها صورة عن صراعات متشابكة بين جماعات، وعلى مستوى السلطات المحلية، في خضم تنامي النزعات إلى تكريس هذه السلطات المحلية وصلاحياتها، باللامركزية أو الفيدرالية، من قبل جماعات أخرى. وكأن ذلك يعطي تصوراً واضحاً حول العطب السنّي، الذي يترنح بين مجالين، إما تقديم فروض الطاعة والتنازل لإثبات حسن النية، وإن انطوت على ممارسة ذمية سياسية تدفع إلى نقل مجلس الوزراء إلى الديمان، وهي امتداد لامتداح ميشال عون ذات يوم بالتمنن على رئيس الحكومة بترؤس جلسة حكومته في قصر بعبدا. إذ اضطر ساكنه يومها إلى المغادرة. وإما في المقابل، إنتاج مجموعات ذات متطرفة ينتج عن نشاطها وطيشها ودافع حماستها ما هو أخطر، بتصوير السنّة كأنهم صانعو التطرف.
الانهيارات الكبرى
ليس انهيار "السلطات المحلية" في المدن السنية الكبرى، إلا محاكاة لانهيار الحواضر الكبرى، وهي التي يهوى السنّة تسميتها بالأمة. فما يجري هو جزء من انهيار هذه الأمة، والذي يستمر منذ العام 2003 بدءاً من العراق مروراً بفلسطين ولبنان وصولاً إلى سوريا. ففي العام 2013، نشأت في صيدا ظاهرة أحمد الأسير، والذي حمل خطاباً متطرفاً، أسهمت صورته في العباءة، في تكريس الصورة المطلوبة لجعل الدماء تترقرق بين العمائم واللحى، وكان حينها المصير المعروف والخطط المشهودة في نصب الفخ الذي وقع فيه الرجل مقابل النجاح باستدراج الجيش. استكملت حلقات المسلسل في عرسال، بجعلها مستباحة من جماعات متطرفة روعت المدنيين واستهدفت الآمنين والعسكريين، والنتائج المتبقية معروفة. في الموازاة كان مسلسل طرابلس يعرض حلقات متوالية في تصويرها قندهار لبنان، واشتباكات مجموعاتها مع الجيش اللبناني. وكأن الصورة رسمت بعناية شديدة من العراق إلى سوريا فلبنان. وللمفارقة أيضاً أن بعضاً مشابهاً لمجموعات عرسال الإرهابية، يلقى عطفاً في مخيم عين الحلوة حالياً من قبل من أراد محاربة الإرهاب في الجرود ودحره.
إذا كانت أحداث طرابلس قد طوعت المدينة، وأنهت ما يسمى سياسة فيها. وكذلك فعلت أحداث 7 أيار في بيروت، فحالياً يستأنف الفصل الثاني من أحداث عبرا في مخيم عين الحلوة. فلا يمكن التغاضي عن نقطة أساسية تتصل بالعطب السياسي لدى "سنّة الاعتدال" غير القادرين على المبادرة، والمجبرين على تقديم فروض الطاعة في سبيل السلطة، والمتراجعين كثيراً أمام تقدّم المتطرفين، والمعروفة سلفاً نتائج تقدمهم ومآثرها التي تصب في صالح الآخرين، لا في صالحهم ولا في صالح مجتمعهم أو بيئاتهم.
"وحدة الساحات"
في مقابل التضعضع، والضياع، الانهزام والانقسام، تستمر الجماعات الأخرى في تأطير نفسها، بعضها بالانغلاق كما هو حال البيئة المسيحية، والتي تجتمع على اختلافاتها السياسية حول مسألة اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة. وبعضها الآخر بالسعي إلى التوسع والانفلاش جغرافياً بالمعاني الأمنية أو العسكرية أو الاجتماعية، وكذلك السياسية، من خلال تقديم الخدمات المالية والاجتماعية ورفع شعارات تمكنها من الاستقطاب، كما هو الحال بالنسبة إلى مصطلح وحدة الساحات، والذي يلقى صداه في لبنان كما في سوريا وفلسطين. ولشدة تأثير المصطلح، يتجه حزب الله إلى تأسيس مجموعة جديدة مشابهة لسرايا المقاومة، يطلق عليها اسم "شباب وحدة الساحات"، غايتها استقطاب شبان من طوائف مختلفة، لا سيما السنة والدروز، وخصوصاً في الجنوب، انطلاقاً من مشاهد تكريس معادلة جيش وشعب ومقاومة على الحدود، بالتظاهرات المتوالية أو بالمطالبة بانسحاب الاحتلال الاسرائيلي من الأراضي المحتلة. وهو ما سيكون له امتداده من الجنوب إلى بيروت، وطرابلس وعكار مروراً بصيدا، بمفعول رجعي، لمساعدات طبية، مالية، ومحروقات.. جهد الحزب على توزيعها طوال السنوات الفائتة، وقد وصل المازوت الايراني إلى عكار التي كُلمت في حادثة التليل، فخصص الحزب لأهالي الضحايا مبالغ مالية شهرية.
إنها حكاية بسيطة عن أحوال بلاد، وأهوال "أمة" كما يحلو للأخوة المتصارعين بتسميتها أو توصيفها. لا تجد لديها ما يردّها عن الوهن، فترتكس إلى وهم وأكثر، في لحظة شعورها باليتم، او بالوحدة، لا تجد من يحتضنها، لا سياسياً ولا وفق أي مقوم آخر، فترتمي في أحضان حزب الله. ومن يتخلف تتكفل به جماعات التطرف.
تعليقات: