انتهى حريق مستودع الأقمشة على طريق المطار، ومعه بدأت عملية «غسل الأيدي» والتنصل من المسؤوليات. «القضاء والقدر» هو السّبب، حتى المتضرّرون غير راغبين برفع الصّوت عالياً. في حين، قد يكون صاحب المستودع مسؤولاً عن التعويض للسّكان، ولكن مَن المسؤول عن السّماح له وللمئات غيره ربّما بوضع «قنابل موقوتة» بين البيوت في المناطق السكنيّة.
صنّف قانون البناء المناطق إلى صناعية، تجارية وسكنيّة، ولم يسمح بأيّ حال من الأحوال بإدخال المواد الخطرة إلى الأحياء واستخدامها بين الناس معرّضاً حياتهم للخطر الشّديد. ولكن، في لبنان الاستثناء هو القاعدة. والجملة الأقوى، «شو وقفت عليي» حاضرة دائماً لتبرير وجود الغازات السامة، والمواد الشديدة الاشتعال، وحتى خزانات المازوت داخل الأبنية السكنيّة، ومخالفة أدنى قوانين السّلامة العامة بغياب أنظمة إطفاء الحرائق بشكل شبه كامل عن هذه الأماكن. ويدفع الجشع أصحاب بعض هذه المستودعات إلى استغلال كلّ المساحات الممكنة عبر تكديس أكوام البضائع، وسدّ الممرّات بينها، ما يُعيق الحركة داخلها في الأوقات العاديّة، فكيف الحال عند وقوع الحريق، وانتشار الدخان الأسود؟ هل يكون «القضاء والقدر» عندها مسؤولاً عن قتل رجال الإطفاء وتهديد عشرات العائلات بالتشرد؟
حريق «طريق المطار» ليس قضاءً وقدراً
زينب حمود
نجح فوج إطفاء الضاحية الجنوبية، فجر أمس، بمساعدة عناصر في الدفاع المدني، في إخماد الحريق الذي التهم مستودعاً للأقمشة والبرادي في طريق المطار. الشّارع أشبه بمنطقة منكوبة، تعبق رائحة الدّخان في أرجائه، ويغطّي السّخام معالمه. رجال الإطفاء منهكون بعد أكثر من أربعة أيام من العمل المتواصل، خسروا خلالها الشهيد محمد الديدي. أمّا مبنى الحريق فمهجور، لا يعرف سكّانه ما إذا كان صالحاً للسكن.
لا تزال التحقيقات جارية لمعرفة أسباب اندلاع الحريق الذي وُصِف بـ«المخيف»، وبـ«منظر من مناظر جهنّم»، إذ خرجت النيران من تحت الأرض، وامتدّت بطريقة «نادراً ما تحصل في عالم الحرائق»، بحسب رئيس فوج إطفاء الضاحية الجنوبية حسين كريم، وبالكاد انطفأت حتى تساءل كثيرون عما يخزّنه هذا المستودع. وبعيداً عن ملابسات الحادثة، لا بدّ من طرح السؤال الآتي: بأيّ وجه حق ووفق أي قانون يوجد مستودع يخزّن كمية كبيرة من القماش والبرادي الخارجية داخل مبنى سكني من دون ترخيص، ومن دون تركيب نظام مكافحة الحرائق؟ صاحب المستودع اشترى العقار المؤلّف من طبقتين، ثم استحدث طبقة ثالثة تحت الأرض. وعندما اندلع الحريق شكا عدم قدرته التعويض على المتضررين لأنه لم يؤمّن ضدّ الحوادث!
المتضررون جرّاء حريق مستودع الأقمشة هم سكان المبنى وتعاونية العاملية التي دخلتها ألسنة اللهب بعدما هدمت الحرارة المرتفعة الحائط الذي يفصل بينها وبين المستودع. خسائر صاحب التعاونية يوسف حمود «كبيرة، فهناك بضائع وتجهيزات وديكورات وتكييف ومكاتب وإنشاءات تضرّرت، وحتى الجزء الذي لم يلحق به الحريق نال نصيبه من مخلّفات النيران وسنقوم بتلف كمية كبيرة من البضائع، عدا إقفال التعاونية لأيّام ريثما ينتهي الترميم»، لكنه أكّد لـ«الأخبار» أنه ليس في وارد تقديم شكوى ضد صاحب المستودع لأنّه «لم يتقصّد أذيتنا، ولدينا تأمين ضدّ الحوادث».
أطلقت تعاونية العاملية عملية الترميم فور إخماد الحريق، لكنّ سكان المبنى غادروه ريثما تتأمّن كلفة الترميم. يقول صاحب المبنى وأحد سكانه علي إبراهيم: «لا يمكننا العودة إلى منازلنا قبل ثلاثة أشهر بالحد الأدنى لأنّ المبنى يحتاج إلى ترميم قساطل المياه وإمدادات الكهرباء، وإصلاح البلاط والمصعد ومولدات الكهرباء، عدا أن واجهة البناء أصيبت بأضرار». هذا كلّه «هيّن» أمام فرضية تضرُّر أساسات البناء، ما يجعله غير قابل للسكن. فالمهندسون لم يضعوا تقريرهم حول سلامة البناء بعد، وهناك من طمأن سكان المبنى بعدما ألقى نظرة أولية على البناء من الجهة العليا، من دون النزول إلى الجهة السفلى حيث اندلع الحريق لفحص متانة الأساسات.
البلدية تتحمّل قسطاً كبيراً من المسؤولية، سواء أكان المستودع مُرخَّصاً أم غير مُرخَّص
يؤكد مالك إحدى الشقق أن سكان المبنى لم يرغبوا في رفع دعوى وقرّروا ترميم بيوتهم على أن يتحمّل صاحب المستودع مسؤولية ترميم الأقسام المشتركة المتضررة: «تفاوضنا على مبلغ أولي لنبدأ من الترميم ريثما نحدد الكلفة الفعلية، لكنّه استكثر الرقم الذي وضعناه، ما جعلنا نفكّر في التوجه إلى القضاء». وهذا ما دفع صاحب المستودع إلى توكيل محام لتسوية الأمور «حبيّاً».
كل جهة «غسلت يدها» من إغاثة المتضررين. بلدية برج البراجنة شكت من «أننا بالكاد نسدّد رواتب موظفينا»، ورئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير أبلغ البلدية صراحةً بأن «لا قدرة للهيئة على الدفع للمتضررين»، علماً أنه سيعاين المبنى اليوم.
لا يمكن النظر إلى هذه الحادثة على أنّها قضاء وقدر ما دام هناك مثل هذا المستودع «عشرات المستودعات والمخازن والمصانع تخزّن زيت النفط والكاز والورق والكلور وغيرها من المواد المشتعلة في مبانٍ سكنية من دون التفات إلى خطورتها على السلامة العامة»، كما ورد على لسان رئيس بلدية برج البراجنة عاطف منصور الذي تبرّأ من مسؤولية البلدية بالإشارة إلى أن المستودع مصنّف «مؤسسة فئة ثالثة تحصل على الترخيص من وزارة الداخلية والبلديات والمحافظ أو وزارة الاقتصاد بحسب نوعها، فيما تنحصر صلاحية البلدية بإبداء الرأي بمنح الترخيص لها». وهذا ما يدحضه أمين سرّ نقابة المهندسين توفيق سنان الذي يؤكد أن مستودع الأقمشة هو مؤسسة صناعية تندرج ضمن الفئة «أ» أو «ب» بحسب الكمية المخزّنة، وليس «ج» أو فئة ثالثة كما قال منصور، لأنّه ليس محلاً تجارياً للبيع. وفق هذا التصنيف، يخضع إشغال المستودع لمرسوم السلامة العامة الرقم 7963/2012 الذي يَمنع إقامته في مدينة غير صناعية. «تقع الكارثة عندما نرخّص لإشغال مستودع كهذا في منطقة سكنية أو يُشغل المستودع من دون ترخيص أصلاً»، محمّلاً المسؤولية في الحالتين للبلدية.
من جهته، يلوم منصور سكان المبنى الذين «لم يكترثوا لكميات القماش الكبيرة التي تدخل على مرأى ناظرهم وتُخزَّن في المبنى الذي يشغلونه». لم يشتكِ أيّ منهم، على حدّ قوله، ولو فعلوا لـ«أرسلنا دورية إلى المكان وألزمنا صاحب المستودع بوضع نظام مكافحة الحرائق». لكن، لماذا لا تتحرّك البلدية من تلقاء نفسها وتكشف على سلامة البناء واستيفاء المخازن شروط السلامة العامة؟ يجيب منصور عن ذلك: «هناك آلاف المؤسسات والمحالّ وحوالي 36 ألف وحدة بين سكنية وتجارية في برج البراجنة، كيف يمكن أن تقوم البلدية بهذه المراقبة الواسعة بإمكاناتها المتدهورة؟».
قنابل موقوتة في مبانٍ سكنية
فؤاد بزي
1750 متراً مربّعاً مساحة كلّ طابق من الطوابق الثلاثة للمستودع الذي اشتعل على مدى خمسة أيام على طريق المطار. أكثر من 5 آلاف متر مربع من النيران استعرت في «ملجأ مبنى سكني، كُدّست فيه الأقمشة والمواد الكيميائية المرافقة لصناعتها، والوقود، والزيوت»، قبل أن تتمكن أفواج الإطفاء من السيطرة عليها وإخمادها. «مساحة المكان الهائلة تستوجب وجود أنظمة مكافحة حرائق»، يقول المختص في أنظمة مكافحة الحرائق المهندس هادي تقي، إنّما «لا أثر للأنظمة»، بحسب إفادة مدير فوج إطفاء الضاحية حسين كريم. عمليّة الإطفاء كلّفت أرواحاً، إذ استشهد الإطفائي محمد الديدي من فوج الدفاع المدني في حارة حريك، بالإضافة إلى «إصابات طفيفة لإطفائيين من فوج إطفاء الضاحية»، وتهجير سكّان منطقة سكنيّة بأكملها.
الحريق انتهى فجر أمس، وتجاوزت معه المنطقة كارثةً محققةً، ليس أقلّها «انهيار المبنى»، بسبب وجود منشأة منع قانون البناء ومرسوم السّلامة العامة وجودها في منطقة سكنيّة. اليوم، تستمر عمليات التبريد، على أن تدخل الفرق الهندسيّة المبنى المنكوب لتحديد الأضرار والكشف على مدى تأثر العناصر الإنشائية، كالإسمنت والحديد بالحريق والحرارة العالية.
يعيد أمين سر نقابة المهندسين المهندس توفيق سنان «وجود ورش أعمال خطرة مثل الحدادة والبويا» إلى «غياب الدولة بكلّ أشكالها، ولا سيّما السلطات المحليّة المتمثلة بالبلديات، ما حوّل هدف ملاجئ الأبنية من خدمة السّكان، إلى منشآت صناعية». ويشير إلى أن «مواصفات الأبنية السكنيّة مغايرة لتلك الصناعية، من ناحية نوعية الإسمنت، وغياب الأبواب المقاومة للحرائق والقادرة على تأمين عزل تام بين أجزائها، والتوصيلات الكهربائية الملائمة للبيئة الصناعية»، ما يجعل الأبنية السّكنية غير قادرة على الصمود أمام الكوارث الصناعية. فـ«بعد حريق يدوم لأكثر من 3 ساعات، يصبح هناك خطر على الأساسات»، بحسب تقي.
مواصفات الأبنية السكنيّة من ناحية نوعية الإسمنت مغايرة لتلك الصناعية
خلال حريق مستودع الأقمشة، «الحرارة لم تتجاوز 500 درجة مئوية»، يؤكّد كريم، ورقم 1500 درجة مئوية الذي تناقله بعض الإعلام «غير دقيق، وإلّا كنا سنشهد انصهاراً للحديد وانهياراً للمبنى». وعلى الرغم من ذلك، لا يجزم رئيس لجنة السّلامة العامة في اتحاد المهندسين العرب، المهندس علي حنّاوي بـ«سلامة المبنى وصلاحيته للسّكن قبل الكشف الهندسي عليه، ومعرفة حالة الحديد والإسمنت فيه». في حين، يؤكّد كريم «المعاينة البصرية للتصدّعات في القشرة والبلاط، وظهور تموّجات الحديد في السّقف والأرضيّة، إنّما لا تزال عواميد الأساس على حالها، وتقييم وضعها متروك للفحص التقني».
في المباني السّكنية، لا يسمح القانون بسوى «إقامة المؤسّسات التجارية العادية كالمحال، والصناعات الخفيفة، بشرط مراعاة السّلامة العامة»، بحسب حنّاوي. إذ يُمنع وجود أماكن تشكل خطراً على الناس في المناطق السكنيّة. ويحيل القانون إنشاء مستودعات المواد الخطرة، والقابلة للاشتعال، إلى المناطق الصّناعية، وضمن شروط صارمة، «لا تُحترَم أيضاً». ويشير إلى أنه في خلال فترة الكشف على الأبنية والمستودعات بعد زلزال تركيا، «تبيّن أن واحداً فقط من أصل 20 مستودعاً لتخزين البضائع يحترم أصول المناولة، أي يحتوي على ممرات واسعة، ويوزّع المواد بحسب قابليتها للاشتعال»، لافتاً إلى أن «الناس نسيت أثر الزلزال، كما لم تستفد من كارثة احتراق معمل السجاد في زفتا العام الماضي، والذي بلغت خسائره 12 مليون دولار فيه، بسبب عدم احترام مبدأ فصل المصنع عن المستودع». المشكلة الأساسيّة، بحسب حنّاوي، سببها «تقصير لجنة إدارة الكوارث في القيام بعملها، إذ لا تعمل على زيادة الاحتياطات، أو تطبيق مرسوم السلامة العامة بشكل دقيق».
الفوضى العارمة تحكم قبضتها على لبنان، حتى المصانع والمستودعات البعيدة عن المناطق السكنيّة لا تحترم فيها أصول التخزين، إذ «لا توجد داتا تشير إلى محتويات المكان، أو كيفية توضيب البضاعة، وفصل المواد القابلة للتفاعل عن بعضها». وهذه المعايير يصفها تقي بـ«الدفاع السّلبي ضد الحرائق، وتدخل ضمن تصميم نظام مكافحة الحرائق الفاعل». فخلال حريق مستودع الأقمشة الأخير، ونتيجة «التكديس، وعدم وجود ممرات بين البضائع، وعشوائية المكان، في ظل الدخان الأسود الناتج عن مواد تشتعل بشكل بطيء، تأخّرت مكافحة النيران».
تذاكٍ على أنظمة الإطفاء
يشير المهندس المختص في أنظمة مكافحة الحرائق هادي تقي إلى أن «الحد الأدنى من أنظمة مكافحة الحرائق في المصانع والمستودعات هو وجود جهاز إنذار موصول على هاتف ينذر أقرب مركز للدفاع المدني. وهذه الفكرة ليست من المثاليات، بل موجودة ومركّبة بكثرة في المصانع والمستودعات على الأراضي اللبنانية»، مشيراً إلى «أنّ شركات التأمين تطلب وجود هكذا نظام لقبول وضع عقد ضمان».
أما أنظمة الإطفاء الموجودة في المصانع والمستودعات، فيراها هادي «تذاكياً على الحماية، ولا تحمي، فأغلبها مكوّن من مطافئ السقف، سعة 6 كيلوغرامات، معزولة عن بعضها البعض، ولا تعمل بشكل متزامن، وتفتح عند ارتفاع الحرارة كثيراً، أي بعد فوات الأوان، من دون فعالية جيّدة». في حين، «يستوجب نظام مكافحة الحرائق وجود مرشّات مياه موصولة على خزانات كبيرة، تعمل بشكل متزامن ولفترة طويلة، ما يسمح بتبريد الحريق بانتظار وصول فرق الإطفاء».
وحول دور البلديات، يؤكّد تقي «عدم لمسه جدّية لدى بلديات الضاحية، مقارنةً ببلديات أخرى، في التأكيد على الالتزام بمرسوم السّلامة العامة. فبلدية بيروت مثلاً، تفرض حدّاً أدنى من التجهيزات لمكافحة الحرائق».
تعليقات: