ما زال الإجماع على إدانة الجريمة الزلزال التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وكل الجرائم المماثلة، من القوة بمكان تجعل الجميع متهيباً ومتوجساً من أي نقاش للقرار الدولي 1757 والقاضي بإنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي والخاصة بلبنان، خاصة أن الخلاف ليس على مبدأ المحكمة، وبالطبع ليس على ضرورة كشف الحقيقة ومعاقبة المرتكبين، وإنما حول بعض الآليات والاجراءات التي تثير المخاوف والهواجس.
ويزداد هذا التهيب مع جو من الضغط الاعلامي والسياسي يظهر كل مناقشة أو تحفظ أو اعتراض على نظام المحكمة، فيما قد يكون هدف المناقشة هو صون الحقيقة ذاتها والحيلولة دون استخدام السعي اليها لأغراض وأهداف كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري من أشد المتصدين لها وتداعياتها المحلية والاقليمية والدولية.
ومع ذلك لا بد من المغامرة في طرح أسئلة تنطوي على درجة عالية من القلق والتوجس حول هذا القرار الذي كشف عن عمق الانقسام الدولي، كما عن عمق الانقسام المحلي في الوقت ذاته.
أول الاسئلة المطروحة: هل المطالعات التي أبداها الممتنعون عن تأييد مشروع القرار (وهم يمثلون أكثر من نصف سكان العالم) هي مجرد تسجيل مواقف، أم انها مواقف متدحرجة يمكن لها أن تتصاعد مع كل آلية قد يجلس مجلس الامن مضطرا اليها في المسيرة الاجرائية لإقرار المحكمة.
ثاني الاسئلة المطروحة: هل امتناع الاتحاد الروسي أو جمهورية الصين الشعبية الديموقراطية عن استخدام الفيتو ضد قرار استرسل مندوبوهما مع الآخرين في تعداد جوانب الاعتراض عليه، نتيجة صفقات دولية جرت بين البلدين الكبيرين وبين الادارة الاميركية ام انه ايضا، كما يقول بعض المحللين، نتيجة رغبة دفينة لدى بكين وموسكو في رؤية واشنطن تنزلق في أتون معركة استنزاف جديدة لطاقاتها وقدرتها تستكمل الاستنزاف الهائل، العسكري والمادي والاخلاقي، الذي تعاني منه إدارة بوش في ساحات اخرى كالعراق وأفغانستان والصومال، وطبعا فلسطين، خصوصا اذا أدركنا أن الصين ومعها روسيا كانتا الاكثر استفادة من انغماس البيت الابيض في «وحول» الشرق الاوسط منذ أحداث سبتمبر/ايلول 2001 من أجل المضي قدماً في مخططهما لتقوية الذات اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وللتسلل المتدرج الى قارات الدنيا كلها من باب التفرج على فولاذ القوة الكبرى يذوب وسط حرائق بلدان المنطقة العربية والاسلامية.
ثالث هذه الاسئلة يتصل بمصير المحكمة ذاتها، واستطرادا بمصير الحقيقة الفعلية بالذات، فيما لو استمر البعض، داخليا وخارجيا، في السير بالنهج السائد في تجاوز الوفاق الداخلي، والاصول الدستورية، في قضية المحكمة أو غيرها من الاستحقاقات: ألا يعتبر هذا الانزلاق في سياسة الغالب والمغلوب، وفي سياسة استقواء فريق بما يسمى المجتمع الدولي على الفريق الآخر الشريك في الوطن، تعريضا خطرا لمسيرة كشف الحقيقة وإحقاق العدالة. وبالتالي ألا تحتاج الدعوة الى الحوار الى مبادرات عملية تعيد الثقة والحياة الى مسار العملية الحوارية التي توقفت لأكثر من مرة دون أسباب جوهرية معروفة.
رابع الاسئلة: ما هي الضمانات التي يمكن أن تحول دون تسييس المحكمة ذات الطابع الدولي، بل التي تحول دون استغلال آليات تشكيلها، والمدة الطويلة الفاصلة بين الانشاء والتشكيل (عام على الاقل) من أجل الاستمرار في الضغط على لبنان أو على دول وجهات اخرى في المنطقة لتقديم تنازلات تطال ثوابت وطنية وقومية كما من أجل إبقاء وطننا، ولعام آخر، أسير تجاذبات دفع ثمنها الكثير حتى الآن.
وما يشدد من أهمية هذا السؤال هو تاريخ أمتنا، ناهيك عن تاريخ لبنان بالذات، مع القرارات الدولية، حيث يدرك الجميع أن ما من دولة طوقتها هذه القرارات إلا وكان مصيرها الانفراط والزوال (حتى من دون الفصل السابع)، أليست هذه هي قصة ضياع فلسطين، ومحنة العراق، وأزمة السودان وتمزق الصومال، ألم تكن بعض القرارات الصادرة عن بعض مؤسسات المجتمع الدولي الواقعة تحت السيطرة الصهيو ـ أميركية، والناجمة عن صفقات إقليمية ودولية، هي البوابة التي دخلت منها كل الويلات الى تلك الدول، ومع تلك الويلات دخل العنف والتطرف والغلو بكل أشكاله؟
خامس هذه الاسئلة: ما الضمانة في ان لا يتحول القرار الدولي الجديد الى مدخل لتعزيز ظاهرة التدويل في الحياة اللبنانية. تدويل الامن والاقتصاد والسياسة والقضاء، في وقت يتذكر فيه اللبنانيون انه منذ أواسط القرن التاسع عشر (1960 وما تلاها) وحتى اليوم كان التدويل رفيق الفتنة، هو يغذيها وهي تبرر وجوده، وبالتالي ألن يعيد هذا التدويل ربط الازمة اللبنانية بالكثير من أزمات المنطقة الاقليمية والدولية، فيما كان الشعار السائد هو فصل أزمتنا عن تلك الازمات؟
سادس هذه الاسئلة يطرح استفسارا حول مفاعيل تطبيق هذا القرار تحت الفصل السابع على مستقبل لبنان، كدولة ومؤسسة وحتى كمجتمع، واذا كان الجميع يؤكد ان هذا الفصل لا يتضمن استخدام القوة العسكرية، فما هي الوسائل التي يستخدمها اذً؟
يقول البعض ان مجرد الادانة في التحقيق أو المحكمة تكفي لإخراج سياسيين ومسؤولين من المعادلة السياسية، وينسى هؤلاء ان هؤلاء السياسيين والمسؤولين داخل لبنان وخارجه قد تعرضوا منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى حملات واتهامات وإدانات سبقت التحقيق نفسه، على نحو يجعل أي قرار ظني أو قرار قضائي لا يتطابق بالنسبة لهؤلاء مع هذه الاتهامات كليا، أو حتى جزئيا، هو قرار مطعون به منذ الآن، بما يحوّل التحقيق، وبعده المحاكمة، الى مجرد مصادقة على هذا الاتهام عند البعض لينال تأييدهم، وبالتالي الى تسييس فاضح يخدم مصالح محلية وإقليمية وأجنبية عند البعض الآخر.
وسابع هذه الاسئلة يتصل بالعلاقة اللبنانية ـ السورية التي أقرت هيئة الحوار الوطني بضرورة فصلها عن التحقيق، وأعلن أكثر من شخصية من قوى الاكثرية النيابية، وآخرهم النائب سعد الحريري، عن تمسكهم بهذا المبدأ العقلاني والموضوعي.
فكيف سيترجم هؤلاء مبدأ الفصل هذا فيما الحملات ما زالت مستمرة ضد الاخوة السوريين، خصوصا انها تصل أحيانا الى حدود التدخل في الشأن السوري الداخلي، فيما الجميع يطالب القيادة السورية بعدم التدخل في شؤون لبنان الداخلية.
واخيرا وليس آخراً ثامن الاسئلة المطروحة هل سيقودنا هذا القرار فعلا الى الوصول الى الحقيقة، أم انه سيثير عواصف من الغبار وربما من التوتر، ما يجعل هذه الحقيقة خارج الرؤية وبالتالي خارج القدرة على المحاسبة والمعاقبة.
إن التمعن في هذه الاسئلة، والسعي لصياغة إجابات مقنعة عليها، يذكرنا بحالات مماثلة مر بها لبنان.
في هذا المجال أستحضر جلسة ضمتني بعد اتفاق السابع عشر عام 1987 مع بعض الاخوة في الشمال الى الرئيس الشهيد رشيد كرامي (الذي يفتقده اللبنانيون والعرب في الذكرى العشرين لاغتياله، بل الذكرى الكاشفة لحجم التوغل في سياسة الكيل بمكيالين في قضايا ذات حساسية بالغة لدى اللبنانيين) حين قال الرشيد بهدوئه وحكمته وصلابته: «المشكلة في هذا الاتفاق ان البعض يراه حلا لأزمة الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي للازمة اللبنانية، فيما هو مشكلة جديدة تضاف الى مشاكلنا».
فهل يكرر التاريخ نفسه... وهل نعيش هذه الايام ليلة أشبه بالبارحة؟
تعليقات: