"شحدت" الحكومة اللبنانية المليارات من الصناديق الدولية، والمؤسسات المانحة في العقدين الأخيرين، ومن الدول الصديقة والشقيقة، وأهدرت ما يوازيها من ودائع المصارف على خطط الكهرباء، وأوهام بناء معامل جديدة وشبكات متطورة، لتأتي النتيجة مزدوجة العلّة: تقنينٌ لا يرحم ومستدام، وعجزٌ مالي لا يُردم ويتفاقم.
ولكن في سياق تعداد أزمات الكهرباء، ليس كل ما فيها غير قابل للمعالجة، أو عصيّ على المواجهة. فأزمة الفقدان التاريخي للتوازن المالي في مؤسسة كهرباء لبنان لا تعود برمّتها الى عدم انتظام الجباية فحسب، أو الى وجود مناطق مرتفعة الإستهلاك، ممنوع بحكم الأمر الواقع الجباية الطبيعية فيها، بل إن الخلل في التوازن مردّه الى تقاعس قديم العهد وغير مبرر، وحجج ملتبسة كان أهل الكهرباء والأوصياء عليها، يضعونها عقبة أمام زيادة الجباية وتحصيل حقوق المؤسسة، فيما كان من الممكن والمقدّر أن تتمكن مؤسسة كهرباء لبنان من جباية عشرات ملايين الدولارات (قبل الأزمة) وثلثها تقريبا حاليا، لو أنها استجابت أو سعت جدياً إلى تركيب عدادات ذكية، وتنفيذ عشرات آلاف الطلبات التي تقدم بها مواطنون، لتركيب ساعات كهربائية، يبتغون الإستهلاك عبرها تحت سقف القانون، ومستعدون لدفع قيمة استهلاكهم وفواتيرهم كاملة.
لم تتوافر العدادات الذكية المطلوبة، ولم يتأمن التمويل، في ظروف مليئة بالإلتباس، ولا يمكن لأحد الجزم بالأسباب الحقيقية لما حصل، فاستمر ضياع ثمن ملايين "الكيلوواطات" من الجبايات من طريق مؤسسة تغطي كامل مساحة لبنان. في السياق إستطاع صاحب "موتور الحيّ" (غير المرخص، وغير القانوني)، تركيب العدادات الإلكترونية الشبيهة تقنياً بالذكية، وتمكن من التحكم والسيطرة على حركة الإنتاج والإستهلاك لديه، والأهم من كل ذلك تفعيل الجباية الشهرية المنظمة والمربحة وبالدولار.
ما ينقص كهرباء لبنان الجرأة في الوقوف على رجليها، والإقدام من دون اعتبار للمصالح السياسية والطائفية والمناطقية، والدفع الى توسيع قاعدة المشتركين لديها، وضم عشرات آلاف الراغبين بأقصى سرعة ممكنة إلى جداول الإستهلاك والتحصيل لديها، خصوصا أن هؤلاء متصلون بالشبكة بطريقة غير شرعية، ولا يسددون ثمن استهلاكهم للكهرباء، بحجة واقعية هي أن المؤسسة لم تركّب لهم الساعات والعدادات التي طلبوها، وتاليا من حقهم الحصول على الطاقة الى حين تنفيذ هذا الأمر.
وهذا ما أضاء عليه النائب قبلان قبلان، إذ اكد لـ"النهار" أن "أولى الخطوات المطلوبة لمشكلة عجز الكهرباء تتعلق بوجوب وقف التعديات، والعمل على تركيب عدادات للمشتركين الجدد بما يدرّ على المؤسسة أموالا كبيرة، خصوصا ان ثمة 200 ألف طلب جديد تقبع في أدراج المؤسسة، وتاليا بما أن المؤسسة تتقاعس عن دورها في تركيب عدادات لهؤلاء فإنهم مضطرون للتعدي على الشبكة لمدّهم بالتيار، ولو أن نية هؤلاء سرقة التيار لما كانوا تقدموا بطلبات للافادة من كهرباء الدولة. لكن المؤسسة لا تنفك عن القول إنها عاجزة، وفي المقابل لا تقوم بواجباتها للحد من العجز ووقف التعديات".
كذلك أوضح قبلان أن "تذرّع المؤسسة بعجزها عن تركيب عدادات جديدة لعدم توافرها لديها أمر غير مبرر، إذ بإمكانها محاسبة المشتركين بطريقة "المقطوع"، أو الاستعانة موقتا بعدادات صينية أو كورية أو ايا كان نوعها، وتحصيل أجرة تركيبها من المشتركين". وسأل: "لماذا في امكان أصحاب المولدات تركيب العدادات لعشرات المباني، فيما مؤسسة الكهرباء عاجزة عن القيام بخطة مماثلة؟".
وإذ أشار الى ان المؤسسة تصر على تركيب عدادات ذكية، فيما هي غير متوافرة حاليا، أكد ضرورة إزالة التعديات قائلاً: "اقترحت مرارا أن نواكب فرق المؤسسة لازالة التعديات في البقاع الغربي والجنوب، ولكنهم يرفضون دائما، فهم يريدون التذرع بالتعديات كمبرر لعجزهم وفشل إدارتهم".
وتطرق الى موضوع طباعة الفواتير خارج مؤسسة كهرباء لبنان. وسأل: "مَن سمح لمؤسسة كهرباء لبنان بتكليف مقدمي الخدمات طباعة وإصدار فواتير الكهرباء للمواطنين، وما هي الضمانة حول صدقية هذه الفواتير"، مطالبا بإعادة التدقيق فيها كونها صادرة عن مطابع خاصة وبإشراف شركات خاصة وليس بإشراف مؤسسة الكهرباء.
بالنسبة الى الفواتير المضخمة وبعضها يراوح ما بين مليار وملياري ليرة، بما ينذر برأيه بأزمة معيشية إنسانية إقتصادية كبرى، سأل قبلان: "أي مؤسسة تستطيع أن تحمل فواتير كهرباء بالمليارات، فهل المطلوب أن نقول لأصحاب هذه المؤسسات أقفلوا مؤسساتكم"، مؤكدا أنه "مع الناس في رفض دفع فواتير الكهرباء إلى أن تُحسم هذه المسألة".
من جهته، نصح المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه غسان بيضون بإلغاء بدل التأهيل لعدم وجوده ضمن العناصر القانونية للتعرفة، لاسيما أن وزير الطاقة أقر بذلك، وتحديد التعرفة بالليرة شرط عدم تجاوز سعر صرف السوق، وربط رسم العداد بعدد ساعات التغذية. كما أشار الى إدراج خيار ثالث أو شريحة أخرى للتعرفة اضافة الى تعرفة الـ 10 سنتات او 27 سنتا التي أقر وزير الطاقة بأنها لتغطية الهدر والسرقة والتعديات، لافتا الى اعتماد اجراءات غير منطقية وغير قابلة للتنفيذ كمثل أن يتم تركيب عدادات على مداخل مخيمات النازحين.
وفي غياب الاحصاءات الصادرة عن مؤسسة الكهرباء عن عدد الذين الغوا اشتراكاتهم أو جمّدوها على خلفية ارتفاع رسوم الاشتراكات والتعرفة، أكد بيضون أن نسبة هؤلاء كبيرة، وإلا لما لجأت المؤسسة الى رفع رسوم الالغاء والتجميد للحد من هذه الموجة.
بيضون أشار ايضا الى الهدر غير الفني الذي كانت تقدّر نسبته في فترة 2019 و2020 بنحو 25% فيما يؤكد البعض ان نسبة الهدر تناهز الـ 66% حاليا، بما يعني أنه يتم تحصيل 34% فقط من قيمة التيار الذي يوضع على الشبكة، علما أن التأكد من نسبة الهدر أمر بسيط جدا، وبرأيه "يكفي أن تقدر مؤسسة الكهرباء حجم الكيلوواطات التي وضعتها على الشبكة وتقارنها مع الكيلوواطات التي تمت فوترتها، لتحصل على الفارق"، مستغربا من جهة أخرى، عدم تشغيل معملي الزوق والجية مع أن كلفة الانتاج فيهما 11 سنتا فيما تقدر الكلفة في دير الزهراني ودير عمار بـ14 سنتا.
وأشار الى أنها ليست المرة الاولى التي يحصل فيها تلاعب بالفواتير أو اهمال جبايتها، فقد سبق (قبل تسلم مقدمي الخدمات مهامهم) ان تمت سرقة فواتير قيمتها كبيرة من المؤسسة وعُرض على اصحابها تحصيل نصف قيمتها. وتم حينها الزام مؤسسة الكهرباء باجراء جردة بالفواتير غير المسددة والتي تناهز قيمتها ملايين الليرات في ذلك الوقت. كما تم مرات عدة اكتشاف ضبط اختلاسات أموال وتلاعب بالقيود، بما قاده الى الاستنتاج أن تسليم الكهرباء للقطاع الخاص ليس أفضل حالا.
وبرأيه ثمة فارق بين تعديل عناصر تكوين التعرفة، كإضافة بدل التأهيل على ثمن المقطوعية ورسم العداد المفترض ان يتناسب مع ساعات التغذية، وبين تعديل قيمة هذه العناصر، فالأول يستوجب صدور مرسوم عن مجلس الوزراء، فيما يُكتفى بالثاني بمصادقة سلطة الوصاية وموافقة وزارة المال، مشيرا الى أنه بتاريخ 7/12/1995 أقر مجلس إدارة كهرباء لبنان بدل التأهيل لسبع سنوات فقط لتعويض كلفتها على عملية إعادة التأهيل الشاملة لشبكاتها بعد الأضرار الكبيرة التي تعرضت لها خلال الحرب. وقد صدر الأمر التنظيمي لتنفيذ القرار بتاريخ 13/3/1996، بحيث تكون مدة تطبيقه قد انتهت خلال العام 2004!
تعليقات: