التوك توك في البقاع: بديل النقل العام يعكس بؤس الأحوال

حل مبيع التوك توك في المرتبة الأولى بين الآليات بالنسبة لسوق البقاع (مصطفى جمال الدين)
حل مبيع التوك توك في المرتبة الأولى بين الآليات بالنسبة لسوق البقاع (مصطفى جمال الدين)


يطمئن أصحاب وسائقو "التوك توك" في البقاع الى أن القرار الذي إتخذته محافظة بيروت بمنع سير هذه الآليات على الطرقات غير قابل للتطبيق في هذه المحافظة. فعلى رغم تفهم هؤلاء لما قد تشكله هذه الوسيلة من خطورة على السلامة المرورية العامة، خصوصاً على الطرقات التي تشهد كثافة مرورية، فإنهم يعتبرون أن الخطوة تعكس عدم تفهم لظروف الناس التي جعلتها تقتني الـ"توك توك".

يقول أحدهم "والله لتندلع ثورة التكاتك إذا حاول أحد منعنا". ويبدو أن هذه "الثورة" التي يتحدث عنها، قادرة على توحيد الصوت بين لبنانيين ونازحين سوريين، فقد أصبحت وسيلة نقلهم "الفقيرة" شريكة بكل طرقات البقاع، السريعة منها والداخلية، بدءًا من أقسى شماله وحتى جنوبه.


بديل النقل العام

يقول أحد سائقي التوك توك "صحيح أن هناك من يتضايق من القيادة السيئة لبعض الشبان، وقد يكون هؤلاء محقين، ولكن الكل يقدّر أهمية هذه الوسيلة التي من دونها لن يصل الكثيرون الى مدارسهم وجامعاتهم، وحتى الى أعمالهم".

نستنتج أن وظيفة "التوك توك" الاولى باتت النقل العام، حتى لو وجد لها البعض وظائف متعددة. فإلى جانب نقل الأشخاص، هي أيضاً تستخدم لـ "الديليفيري" على أنواعه. كما أن سائقيها تحولوا الى معقبي أعمال وخدمات، وخصوصاً في مجال تبديل العملات والصرافة.

يعكس "التوك توك" صورة المجتمع في مواقع إنتشاره. تقول إحداهن ممن يزعجهن تفشي "التوك توك" بقاعاً، أنها "تستحلي الكزدورة" فيه بالبترون حيث له وظيفة سياحية. ليبدو نبذ الوسيلة في هذه الحالة، محاولة لابعاد صبغة البؤس على المجتمع الذي يحضر "التوك توك" بكثافة في يومياته.

فإنتشار الـ "توك توك" بالكثافة التي يشهدها البقاع، وليد حاجة. ولولا هذه الحاجة لما تفشى في معظم مجتمعاته، وحتى تلك التي لا تزال تحاول أن تخفي بؤسها وراء الأبواب المغلقة، كما يفعل الكثيرون في مدينة زحلة مثلاً.

لا يحاول مقتنو "التوك توك" نكران هذه الحقيقة، وإن كانوا يتحدثون في أوساطهم عن فئة هي اكثر بؤساً من الأخرى. إذ يميز هؤلاء بين مالكي "التكاتك"، وبين سائقيه، سواء مستأجريه أو عاملين لدى المالكين. والفئة الثانية هي طبعا التى يؤشر اليها بالأكثر فقراً. ولكل من هؤلاء قصة دفعته لإقتناء هذه الوسيلة، أو اللجوء إليها كمصدر عيش.


المضاربة بالأسعار

وسيم من أوائل من تملّكوا "التوك توك" منذ بدء إنتشار ظاهرته في البقاع كما يقول. إلتقيناه أمام جامع بلدة تعلبايا، حيث مجموعة من الشبان ترابض يومياً، في محاولة للحصول على الزبائن، الذين يتوجهون عادة إما الى شتورا أو يحاولون الإنتقال من الطريق العام الى منازلهم في الأحياء الداخلية. وسيم رب عائلة، ويعتبر بأن هذه الوسيلة أساسية في إعالة أولاده. كان يعمل سابقاً في ورش البناء. ولكن مع تراجع عدد الورش بعد الأزمة لجأ الى "التوك توك" لتأمين قوت أولاده. صحيح أن لا مداخيل ثابتة من مهنته الجديدة، ولكنها كانت كافية في بداية الأزمة. وذلك قبل أن يجتاح هذه المهنة "الجديدة" الشباب اللبنانيون والسوريون كما يقول.

ومع ذلك يرى ان الطلب المتزايد من قبل الزبائن يسمح للكل بالعمل، إلا أن المضاربة تكون بالسعر. ويعتبر أن "النازج الذي تتأمن له مداخيل جانبية من قبل الجهات المانحة، يقبل بتسعيرة تفوق قليلاً كلفة البنزين وقطع الغيار وتبديل الزيت التي يجب إحتسابها"، بينما بالنسبة للسائقين اللبنانيين "نحتاج لنؤمن إحتياجات العائلة التي باتت كلها باهظة الثمن."

ولذلك يتشارك وسيم مع سائر اللبنانيين الهواجس من سعر البنزين الذي يرتفع يومياً، ويشكك في غش بنوعيته "يترك إنطباعاً بأنه يطير في الهواء".

محمود وجول شابان في مقتبل العمر، توجها الى قيادة "التوك توك" بعدما تعذر عليهما إيجاد عمل. ليس لدى أي من الشابين رخصة قيادة، وعلى رغم إمتهان أحدهما المهنة منذ أكثر من سنة، فهو يستأجر التوك توك ويقوده من دون رخصة. يتقاسم الشابان مع صاحب "التوك توك" ربحاً صافياً، يبدأ بثلاثماية ألف ليرة يومياً، على كل منهما الإجتهاد لتوفيره اولاً مع ثمن البنزين الذي سيحتاجونه خلال اليوم ليبدآ بتأمين المداخيل الإضافية التي تغطي كلفة إحتياجاتهما بالحد الأدنى المسموح بها للشباب في أيامنا هذه.


الأكثر مبيعاً

عامر وعلي كانا يقفان في فيء شجرة على طريق عام سعدنايل. زبائنهما، كما يؤكدان، مختلفون. هم هؤلاء الذين يريدون التنقل بين قراهم المتغلغلة في وسط السهل وشتورا أو زحلة أو غيرها من المدن الأساسية. وبالتالي وظيفتهما هي كالتاكسي الذي يؤمن وصول الزبون الى بيته، وبكلفة لا تتجاوز المئة الف ليرة.

عباس أيضاً كان معلم عمار، باع كل عدّته وما كان يتاجر به من خشب لينتقل الى "التوك توك". كان في البداية يخجل من الجلوس خلف مقوده، ولكنه عندما رأى ان تأجير "التوك توك" لن يؤمن له المداخيل التي تعينه على إعالة عائلته، قرر أن يعمل كـ "تاكسي الفقراء."

الصعوبات التي يتحدث عنها عباس وعلي تأخذ طابعاً عاماً. إذ يكشف هؤلاء عن تضييق مستمر يتعرضون له من سائقي الفانات على الطرقات العامة، والذين يرفضون مزاحمتهم على الزبون نفسه. ولذلك فهم يخشون التوجه الى ساحة شتورا حيث تكثر "الخناقات" اليومية بين سائقي الفانات و"التكاتك". كما أنهم يتجنبون الطرقات العامة التي قد تنصب عليها القوى الأمنية حواجز لهم. خصوصاً أن معظم "التكاتك" مع أنها سدّدت كلفة التسجيل عند شرائها، غير مسجلة في النافعة التي أغلقت أنظمتها أمام تسجيل الآليات منذ أشهر طويلة. هذا فضلاً عن تجنبهم نقل الزبائن الى زحلة، التي يقولون أن بلديتها إتخذت قراراً بمنع تجوّل "التوك توك" على بولفارها، وعلى رغم خرق القرار بتوصيلات سريعة، لا يعرف متى يتشدّد أحد شرطة البلدية لمنعهم مجدداً.


يحتل "التوك توك" مساحة واسعة في أحد معارض السيارات في شتورا.

2950 دولار هو سعر التوك توك الجديد، ويتضمن السعر تسجيل المركبة، بالإضافة الى تأمين بعض "الأكسسوارات" الضرورية". السعر يبدو مقبولاً إذا ما قيس بثمن وسائل النقل الأخرى، ولكنه يفوق قدرة "عامل" كما قال لنا زبون سوري كان يستعرض الخيارات.

اللافت هو إصرار الأخير على إقتناء وسيلته الخاصة، مع أن انظمة السير اللبنانية تمنع تسجيل المركبات إلا بإسم مواطن لبناني. "المسألة محلولة" كما قيل لنا، "يكفي تأمين إفادة سكن من أي مختار مع بطاقة هوية لبناني، ويصبح "التوك توك" ملكاً لمن يدفع ثمنه، ولكن ليس رسميا"ً. وهذا ما جعلنا نعتقد بإننا أمسكنا بخيط من خيوط الفوضى الذي تتسبب به هذه "التكاتك" التي تسجل بنسبة كبيرة على أسماء لبنانية وهمية. إلا أن هذا ليس الواقع، لأن أي ملكية "توك توك" أو سيارة خاصة لم تسجل رسمياً في النافعة منذ أكثر من عام بسبب توقف الأخيرة عن العمل، وعليه فإن الفوضى ليست محصورة فقط بإقتناء السوريين لها، وإنما بمعظم من إقتناها منذ سنة وأكثر. هذا في وقت تشير أوساط العاملين في المعرض إلى ان الطلب على "التكاتك" في تزايد مستمر منذ أكثر من عامين، بحيث حل مبيع "التوك توك" في المرتبة الأولى بين الآليات بالنسبة لسوق البقاع.


ترتبط هذه الظاهرة بشكل مباشر بتغيّر الواقع الإجتماعي والاقتصادي للبنانيين. فهي ليست فقط مهمة بالنسبة لمن إقتنوها ليشغلوها، وإنما أيضاً لمن باتوا يعتبرونها وسيلة إنتقالهم الوحيدة. وهذا ما يعيدنا الى أحد إجتماعات مجلس الامن الفرعي الذي إنعقد في محافظة البقاع، والذي ناقش خلاله الحاضرون ظاهرة "التوك توك" وتفشيه في المنطقة، وقد إنتهى الإجتماع الى تأكيد صعوبة مكافحته أمنياً. فبين أصحاب هذه "التكاتك" ومستخدميها أيضاً عناصر في قوى الأمن والجيش اللبناني لم تعد رواتبهم كافية لإعالة عائلاتهم.

وعليه، فإن تفشي ظاهرة "التوك توك" انعكاس للفقر وسوء الحال، وأحد مظاهر بؤس أحوالنا.

تعليقات: