التخزين الكهرومائي: بطارية عملاقة في جبال الألب

عمل في المشروع أكثر من 60 شركة، وبلغ عدد العمال في فترات ذروة البناء 650 عاملاً(Getty)
عمل في المشروع أكثر من 60 شركة، وبلغ عدد العمال في فترات ذروة البناء 650 عاملاً(Getty)


تواجه أنظمة الطاقة المتجددة تحدياً أساسياً يتمثل في عدم استقرار إنتاجها. فهي باعتمادها على مصادر غير منتظمة مثل الطاقة الشمسية والرياح، تنتج كميات متفاوتة من الطاقة في أوقات مختلفة. يمكن أن يؤدي هذا التباين في إنتاج الطاقة إلى نقص في قدرة التيار خلال فترات الذروة، وإلى إنتاج فائض من الطاقة في الأوقات التي يكون فيها الطلب منخفضاً.

لحل هذه المشكلة عموماً، يتم تخزين الفائض من الطاقة في بطاريات بأنواعها المختلفة لكي يتم استخدام طاقتها لاحقاً، لكن جميعها تشترك في أنها تلوث البيئة إن في مرحلة تعدين موادها أو صناعتها وصولاً إلى التخلص منها بعد إنتهاء صلاحيتها. كما أن هذه البطاريات تصلح بصفتها أنظمة تخزين طاقة صغيرة نسبياً، على مستوى منزلي أو منشآت صغيرة ولكن ليس على مستوى دول.

ولأن سويسرا تتجه نحو صفر انبعاثات كربونية في عام 2050، كان لا بد من حل بيئي أيضاً لمشكلة تخزين الطاقة. فقامت ببناء محطة "Nant de Drance" لتخزين الطاقة الكهرومائية، هذه المحطة هي واحدة من أكبر محطات التخزين الكهرومائي Pumped-storage hydroelectricity في العالم، بسعة تخزينية تصل إلى 20 جيجاوات.


كيف تعمل المحطة؟

تقع محطة "نانت دو درانس" على عمق 600 متر في تجويف صخري تم حفره ليكون بين بحيرتي Emosson و Vieux Emosson. تتميز المحطة بستة توربينات بقدرة 150 ميجاوات لكل منها، مما يعني أن القدرة القصوى للإنتاج في المحطة تبلغ 900 ميجاوات.

خزان Vieux Emosson العلوي الذي يقع على ارتفاع 2225 متر فوق سطح البحر، يحتوي على 25 مليون متر مكعب من الماء، أي ما يمثل سعة تخزينية تبلغ 20 جيجاوات. مما يعني أنه يمكن تشغيل المحطة بالقدرة القصوى (900 ميجاوات) من المياه المخزنة لأكثر من عشرين ساعة.

يتم ضخ المياه من خزان Emosson السفلي وهو على ارتفاع 1200 متر فوق سطح البحر، إلى الخزان العلوي في أوقات انخفاض الطلب على الطاقة، ثم يتم إطلاقها عبر الأنابيب مرة أخرى لتوليد الكهرباء في أوقات الذروة.


مشروع عملاق

شارك في تطوير مشروع محطة نانت دو درانس أكثر من 60 شركة، وبلغ عدد العمال على أرض المشروع في فترات ذروة البناء 650 عاملاً. استغرقت أعمال البناء 14 عاماً واحتاجت جهوداً هندسية جبارة في بقعة جبلية نائية.

يبلغ طول التجويف الصخري 194 متراً وعرضه 32 متراً وارتفاعه 52 متراً. تطلب ذلك حفر 400,000 متر مكعب من الصخور ونقلها إلى الخارج، وشق 17 كيلومتراً من الأنفاق. كما تم رفع سد Vieux Emosson بمقدار 21.5 متراً إضافياً مما ضاعف سعة البحيرة العلوية.

تم الافتتاح في عام 2022، وقد بلغت كلفة المشروع ما يعادل 2.1 مليار دولار أمريكي. بالإضافة إلى 25 مليون دولار لتعويض التأثير البيئي للأعمال الإنشائية، تم استخدام هذه الأموال في استصلاح محيط الموقع وتشجيع إعادة الحيوانات والطيور التي تهجرت، وزراعة أنواع النباتات نفسها التي كانت تنمو في المنطقة قبل بناء المحطة.


تقنيات وتحديات

أكثر ما يثير الإعجاب في محطة نانت دو درانس هو استخدامها لتقنيات حديثة في تصميمها وتشغيلها. إذ تشترك توربينات توليد الكهرباء ومحركات الضخ في أجزاء عدة وكأنها آلة واحدة. أنابيب المياه هي نفسها لحركة صعود المياه وهبوطها، وكذلك المروحة التوربينية هي نفسها مروحة المضخة ولكنها تدور في اتجاه مختلف بحسب وظيفتها. فعندما يتم ضخ المياه إلى الخزان العلوي تدور المروحة (مضخة) في اتجاه عقارب الساعة، وعندما يتم إطلاق المياه من الخزان العلوي تدور المروحة (توربينية) في عكس اتجاه عقارب الساعة مما يولد الطاقة الكهربائية. ورغم أن فعالية هذا النظام تبلغ 80% ويضيع حوالي 20% من الطاقة على شكل حرارة تنبعث من المحركات، لكن هذه الـ80% قيّمة جداً لأنه يتم استخدامها عند الحاجة في أوقات الذروة.

تلعب محطة نانت دو درانس دوراً مهماً في استقرار شبكة الكهرباء السويسرية، فهي متصلة على شبكة الطاقة المتجددة وتشكل عاملاً موازناً لها. يقوم نظام التحكم في المحطة بتشغيل محركات الضخّ أو التوربينات الستة وفقاً لبرنامج ذكي يراقب زيادة وانخفاض الطلب على الطاقة. على سبيل المثال، يمكن أن يكون هناك محرك واحد يعمل كمضخة وخمسة أخرى تولد الكهرباء كـ"توربينات".


بطارية المستقبل

تعدّ محطات التخزين الكهرومائي (PSH) الحديثة إنجازاً هندسياً وإبداعياً يعزز مستقبل الطاقة المتجددة. ورغم أن المبداً الهندسي نفسه (Hydropower) يعود إلى القرن التاسع عشر، إلا أن التقنيات الجديدة المرافقة والتكامل بين التخزين بواسطة الضخّ والطاقة المتجددة بواسطة الشمس والرياح، يجعل هذه المحطات وكأنها بطاريات ضخمة وقيّمة رغم كلفتها العالية، لكن الأهم أنها صديقة للبيئة وسوف تشهد العقود المقبلة إستحقاق كل قرش تم إنفاقه لبناء هذه المحطات، لأنه سينعكس إيجاباً على الصحة العامة والحياة البرية والمناخ.

لبنان ليس غريباً عن الطاقة الكهرومائية، فقد تعلمنا في الكتب المدرسية عن محطتي شارل حلو وبول أرقش وغيرها، وقد أنجزت هذه المشاريع في مرحلة لقّب بلدنا يومها بسويسرا الشرق. ولكن يبدو أننا بعدنا كثيراً عن إمكانية بناء السدود والبحيرات الاصطناعية من دون ثقوب بملايين الدولارات، هو تماماً بُعد المسافة بين المسيلحة ونانت دو درانس.

تعليقات: