يشكل التمديد للمفتي بالنسبة لكثيرين خيار افضل الممكن
اختار المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى تمديد ولاية مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان لأربع سنوات. والمفارقة أن ولاية المجلس الحالي تنتهي خلال فترة شهر، وكانت قد وجهت الدعوات لاجراء انتخاباته. جملة ملاحظات يمكن تسجيلها حول ما جرى، وهي تدخل في تفاصيل "صراعات" مراكز القوى والنفوذ على الساحة السنية "الفارغة" نسبياً إلا من الصراعات البينية المستمرة منذ سنوات.
ولكن، اختصاراً لواقع الأمر، فإن التمديد يأتي في سياق "تجنّب الفراغ" بمعناه السياسي وليس بمعنى الشغور، إذ أن ولاية المفتي لم تشارف على الإنتهاء. وتجنّب الفراغ بالمعنى السياسي هنا له أكثر من دلالة ومعنى في ظل الظروف التي تمرّ بها البلاد عموماً والطائفة السنية خصوصاً.
محاكاة للسياسة اللبنانية
في محاكاة صورية للمشهد اللبناني، فإن التمديد هو ابتداع اللبنانيين إما للتهرب من الإستحقاقات وإما لتثبيت مراكز النفوذ. على هامش التمديد، برزت ملامح معركة غير واضحة، بين مجموعات متعددة، وسط غياب لأصحاب مواقع سنية أساسية، إذ لم يظهر موقف لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ولا لرؤساء الحكومة السابقين باستثناء فؤاد السنيورة الذي أعلن رفضه ذلك على قاعدة أن لا حاجة للإستعجال، فيما وجهت الأنظار إلى الرئيس سعد الحريري وهو الصامت الأكبر حول تأييد التمديد للمفتي.
في كل الأحوال، بعيداً عن الدخول في تفاصيل وتنوعات المواقف، فإن التمديد قد وقع، ويكاد بالنسبة إلى كثيرين في الداخل والخارج أن يشكل خيار "أفضل الممكن". لا سيما أن المفتي دريان، عرف كيف يوازن مواقفه بشكل لا يستفز أي طرف لا داخلي ولا خارجي. ولم يضع السنّة على سكة أي انقسام سياسي، لا في ظل الصراع "السني الشيعي" ولا في ظل الإختلاف في التوجهات بين المسلمين والمسيحيين.
اختار دريان سياسة "تدوير الزوايا". والحرص على تقديم صورة الإعتدال لدى الطائفة السنية مع التشديد على ضرورة التمسك بالدولة وكل الشعارات التي مارسها السنّة تاريخياً. فيما يأتي دريان في ظل ظروف استثنائية تعيشها البلاد، أهمها الإنهيار المالي والإقتصادي، بالإضافة إلى التدهور السياسي.
تشظيات سنيّة
يأتي المفتي دريان من تجارب خبرها من سبقوه بمرارة. على قاعدة أن السنّة في لبنان هم أهل دولة لا أهل قتال وميادين وحروب. من تجربة الرئيس صائب سلام الذي غادر بيروت بعد سيطرة ميليشيات الأحزاب عليها، إلى المواقف التي اضطلع بها المفتي الشهيد حسن خالد، والتي كانت مدوية سياسياً وذات فعالية عالية، فدفع حياته ثمناً لها، وهو الذي كان من أبرز المتصدين لما عرف قبل اغتياله بمحاولات توقيع الاتفاق الثلاثي برعاية دمشق والذي تم تغييب السنّة عنه.
من مرارات التجارب أيضاً، عملية اغتيال الرئيس رشيد كرامي، بما يمثل من موقعه ومواقفه. وصولاً إلى حقبة اسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي بالشارع، وبنتيجة سياسات تداخل فيها الواقع الداخلي سياسياً ومعيشياً مع الواقع الإقليمي. أما الضربة الأكبر التي تلقاها السنّة في حقبة ما بعد الحرب، كانت عملية اغتيال رفيق الحريري، وهي نتاج لمسار خارجي انعكس على الساحة الداخلية، فيما كان قد بدأ بإسقاط صدام حسين واغتيال ياسر عرفات، ما ادى الى تشظيات سنية كبيرة جداً. فتح اغتيال رفيق الحريري طريق تغيير وجه لبنان وظروفه وموقعه، فيما كان المفتي الذي سلف دريان، أي محمد رشيد قباني، ذات موقف سياسي واضح في إحدى الحقب، وتحديداً بعد اغتيال الحريري وارتفاع حدّة الإنقسام السنّي الشيعي، مروراً بتطويق منزله في تلة الخياط، ما أدى إلى تطويعه فيما بعد، فانفض السنّة من حوله، ودارت بحقه اتهامات بالفساد أو بتغيير مواقفه السياسية، وصولاً إلى طلبه المساعدة من حزب الله في فترة السعي لإقالته.
لا بد لكل هذه التجارب أن تكون قد حضرت في ذهن دريان مع توليه منصبه، ورافقته طوال ولايته، والتي لم يعد من بديل بالنسبة إليه سوى بتمديدها، تجنّباً للفراغ، مستنداً على علاقات متوازنة مع كل القوى، فهو المحسوب عملياً على تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري وقد اشتهر بعبارة "لا تخف فأنا معك"، لكنه في فترة اعلان تيار المستقبل تعليق عمله السياسي ورفض المشاركة في الإنتخابات أصدر دريان موقفاً معاكساً داعياً الناس إلى التوجه لصناديق الإقتراع.
عندما دعا البطريرك بشارة الراعي إلى عقد قمة روحية للمطالبة بحياد لبنان لم يستجب دريان لما اعتبره استفزازاً لشريحة أخرى من اللبنانيين والمقصود بذلك الطائفة الشيعية التي رفضت.
هي محطات من مسيرة مفتٍ وطائفة، بالتمديد له، سيبقى المسار متبعاً على وقع أزمة سياسية وبنيوية مديدة تطال البلاد ككل، حيث لا مشروع ولا أفق، ولا طريق إلاّ "بجانب الحائط ويا رب الستر".
تعليقات: