اللاجئون الفلسطينيون في لبنان وقعوا في خيارات بائسة (Getty)
وفي اليوم 43 لبداية المعارك في مخيم عين الحلوة بين حركة "فتح" و"الشباب المسلم"، ما زالت المواقع العسكرية للطرفين المتحاربين شبه ثابتة رغم كثافة النيران، وسقوط اتفاقات وقف إطلاق النار، مع إدخال أسلحة ومسلحين قادمين من المخيمات الفلسطينية الأخرى، بما يرجح استمرار معركة عين الحلوة، وإن تخللتها بعض الهدن لالتقاط الأنفاس، وتعزيز المواقع، في وقت بلغت حصيلة القتلى حوالى العشرين، إضافة إلى عشرات الإصابات.
تهريب الأسلحة والمقاتلين
وفيما فشل آخر اتفاق لوقف إطلاق النار غروب يوم السبت في الساعة السابعة، كان لافتاً كثافة الأسلحة المستخدمة، بما يؤكد الأنباء عن إدخال أسلحة متنوعة. وبرز استخدام حركة "فتح" بكثافة كبيرة لسلاح b10 الذي يتميز بخفة وزنه، وسهولة التنقل به في المناطق الضيقة داخل زواريب المخيم. وبدرجة ثانية، كان استخدام "الدوشكا"، أما الشباب المسلم فقد استخدم بدرجة أقل هاون من عيار 60.
وطرحت كثافة النيران والأسلحة المستخدمة عدة تساؤلات واستنتاجات، من بينها أن القوى المتصارعة استخدمت كل تلك القوة النارية غير المسبوقة لاطمئنانها إما إلى حجم التخزين، أو للسهولة النسبية في الإمدادات العسكرية. وكذلك فإن هذه القوة التي استُخدمت في فترة زمنية قصيرة كانت تعبيراً عن حاجة حركة "فتح" تحديداً إلى حسم سريع، وهي تعلم أن إطالة أمد المعركة غير مسموح بها، لا من القوى السياسية الرئيسية في لبنان، ولا من الأجهزة الأمنية، وأن فترة السماح لا تتعدى أياماً في العادة، توجب استراحة، كما أنها أرادت تعويضاً عن خسائرها الكبيرة حيث إن 14 قتيلاً كانوا من مقاتليها.
ومع سيطرة "الشباب المسلم" على مركز لحركة "فتح" في حي الرأس الأحمر، سرت مخاوف شعبية على الأقل من أن يكون ذلك بداية لسيطرة "الشباب المسلم" على المخيم، بما يدفع لنهاية شبيهة بنهر البارد، لكن هامشية هذا المركز، ومعاودة "فتح" الهجوم، بددت هذا الاستنتاج، خصوصاً أن العدد المتداول لعناصر "الشباب المسلم" لا يتجاوز 100 عنصر، وبالتالي من المستبعد سيطرتهم على أكبر المخيمات الفلسطينية.
استبعاد الحسم
لكن من الناحية الميدانية، ووفقاً لأكثر من مطلع على أحوال المخيم العمرانية والتوزع السياسي والعسكري، هناك استبعاد كبير أن يستطيع أي طرف الحسم العسكري لصالحه، رغم الاختلال العددي بين "فتح" و"الشباب المسلم" لصالح الأولى، إلا إذا دخلت عوامل جديدة على ساحة المعركة.
فحروب المخيمات غالباً ما كانت تنتهي باتفاق، مهما بلغ التوازن أو اختلاله بين المتقاتلين. وفي حالة هزيمة طرف يكون بعد تدمير شبه كامل لمناطق نفوذه، وهو غير متوافر حتى اللحظة. أما العوامل التي يمكن أن تُغير من اتجاه المعركة فهي: دخول الجيش اللبناني بشكل مباشر وكثيف في المعركة، من خلال مدفعيته وأسلحته المتنوعة، وهو ما يرفضه حتى الساعة. كما أن سيطرة "الشباب المسلم" على المخيم، وهو مستبعد جداً، ربما يدفع باتجاه توافق سياسي فلسطيني لبناني بغطاء إقليمي ودولي يقود إلى هزيمة "الشباب المسلم".
إضافة إلى أنه حتى الآن، هناك قوى كثيرة لم تدخل المعركة، وهي تسيطر عملياً على أحياء واسعة في المخيم، أبرزها "عصبة الأنصار"، الحركة الإسلامية المجاهدة، جناح من "فتح" بقيادة منير المقدح، التيار الإصلاحي (دحلان)، وهناك حركة "حماس" المتواجدة في أحياء مختلفة بالمخيم. وأي قوة من هذه القوى تدخل المعركة فإن مسارها سيكون مختلفاً تماماً. يُضاف أن هذه القوى جميعها، والتي تتصدّر الوساطة، تُفضّل التوازن العسكري القائم، لأنها تخشى من أن تكون بداية هيمنة أي طرف من طرفي الصراع بداية لمحاولة سيطرته على المخيم كله، بما يعني الإمساك بالقرار الفلسطيني في لبنان.
انقسامات المتقاتلين
الانقسام أيضاً واقع في الطرفين المتناحرين، فحركة "فتح" التي استقدمت عشرات العناصر من المخيمات الفلسطينية الأخرى، هناك تيار فيها يريد استئصال "الشباب المسلم"، أولاً في محاولة لمداواة الجرح النرجسي التي خلفته الخسائر الأخيرة، واستعادة هيبة الحركة، وثانياً لعدم تضرر الثقل السياسي للحركة في أكبر مخيمات لبنان. وهناك تيار آخر يرى استحالة الحسم العسكري، ولا بد من سلوك طريق المفاوضات، أو العمل الأمني الموضعي. أما الانقسام في جهة "الشباب المسلم" فيتمثل، وفق مصادر لـ"المدن"، في وجود تيار يمثّله هيثم الشعبي ولا يرى ضيراً في تسليم بعض العناصر، فيما يرفض تيار بلال بدر ذلك الطرح، ويعتبره مقدمة لتصفية جماعته، كما نقل وسطاء.
هناك الكثير من الأسئلة تبدو معلقة، يطرحها السياسيون الفلسطينيون في مجالسهم المغلقة: ما هو الموقف الحقيقي للقوى اللبنانية الرئيسية، كيف وصل بعض من "الشباب المسلم" إلى المخيم، في حين لا يمكن للاجئ فلسطيني أن يُدخل كيساً من الإسمنت، ما دواعي "الجدار" إذا كان السلاح يدخل بهذه الكثافة، وإذا كان المسلحون من الطرفين المتصارعين يتسربون إلى المخيم، هل الهدف من ذلك هو "تفخيخ المخيم" بانتظار لحظة التفجير المناسبة؟ هل هناك دور إسرائيلي ما في المعارك بعد اتهامات عديدة وجهتها لفصائل فلسطينية بالعمل المسلح ضدها من لبنان؟
تهميش التيار المدني
ربما السؤال الأهم، الذي يجب أن يُطرح، كيف وصل الفلسطينيون في لبنان إلى هذه الأوضاع، وكيف سلك بعضهم مسارات يائسة؟ قد تكون إحدى الأجوبة أن التيار المدني داخل معظم الفصائل الفلسطينية في لبنان، بمعنى ذلك الذي لا يؤمن بأن السلاح وحده يصنع التغيير، قد تراجع دوره خلال العقود الماضية، وأخلى مقعده لأشخاص تبوؤوا مواقع، ولا يرون غير ثأرهم الشخصي من مجتمع حمّلوه مسؤولية تهميشهم وماضيهم. غالباً كان المناضل اليائس يترك مسؤوليته فيتولاها انتهازي طامع غير مهتم بمخاطر استخدام السلاح، الذي هو قوته الوحيدة.
كما أن الفلسطينيين في لبنان الذين كانوا يوماً أحد الروافد الرئيسية للعمل السياسي الفلسطيني، صحوا قبل ثلاثين عاماً، مع توقيع اتفاق أوسلو في مثل هذه الأيام، فإذا هم على هامش المشروع الوطني الفلسطيني، بل إن معارك مخيم عين الحلوة الأخيرة لم تستثر متظاهراً واحداً في الضفة الغربية وقطاع غزة لينزل إلى الشارع محتجاً على هذه المأساة أو متعاطفاً مع ضحاياها. وكنتيجة فشل إبقاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بمتن المشروع الوطني، كانت خيارات بائسة، ليعيش مخيم عين الحلوة تهجيراً صامتاً بدأ منذ سنوات، فتناقص عدد سكانه من حوالى 80 ألفاً إلى ما يقارب 55 ألفاً قبل اندلاع المعارك الأخيرة منذ 43 يوماً.
في هذه الأجواء، من المتوقع أن يستقبل المدير العام للأمن العام اللبناني بالإنابة اللواء إلياس البيسري الإثنين أعضاء "هيئة العمل الفلسطيني المشترك" في لبنان، لكن الآمال لا تبدو كبيرة في إحراز وقف إطلاق نار دائم، للأسباب المذكورة، وتداخل الأزمة العسكرية مع شعور ثأر عائلي مكتوم، لكنه يعبّر عن نفسه برايات فصائلية وشعارات دينية.
تعليقات: