مشهد من سهرات الجبل الصيف المنصرم
«ما إن يطل شهر أيلول، فجأة وبسكتة قلبية سريعة يتوقف نبض الحياة». بهذه العبارة يمكن تلخيص حالة بلدات الاصطياف الجبلية ما ان ينتهي الموسم تتسع الطرق، وتفرغ غرف الفنادق ومنازل الإيجارات، وتختفي زحمة المطاعم، وتتحول ليالي السهر إلى ما يشبه مدن الأشباح. إنها معضلة دور هذه المناطق الذي لا يزيد عن خمسين يوم عمل فعلي خلال السنة
تحت شعار الاستفادة من الموسم السياحي يتوقف كل أمر. تؤجل الانتخابات النيابية ويمدد المجلس لنفسه كي لا تتزامن العملية الانتخابية مع موسم السياحة، تحت الشعار نفسه يعطى التيار الكهربائي بأفضلية مطلقة لمناطق الاصطياف، وتلام المقاومة ويحمّلها قسم من اللبنانيين مسؤولية تعطيل الموسم السياحي. ولا شك في أن لبنان أصبح بلداً سياحياً، ولديه من المقومات المتميزة ما يؤهله ليكون في مقدمة مقاصد الجذب السياحي في الوطن العربي وعلى الصعيد الدولي أيضاً. فمن المرجح أن عدد السياح لهذا العام تجاوز، حسب تقديرات وزير السياحة السابق جو سركيس، مليوناً ونصف مليون سائح. أما مردود الموسم فقد بلغ حسب الوزير نفسه 3،5 مليارات دولار أميركي. ولقد عاشت أسطورة الكيان اللبناني منذ الاستقلال على «مقوّمات» أيديولوجية تتلخص بعبارات من نوع «لبنان حلقة وصل بين الشرق والغرب» و«ثنائية البحر والجبل» و«لبنان مهد الحضارات وجامعها» وغيرها من الأساطير الدعائية. بينما في الحقيقة يتركز العمود الفقري للسياحة اللبنانية أولاً على الطبيعة وهبة المناخ وموقع لبنان الجغرافي، وبالتالي المقومات الطبيعية هي الأولى. ثم جاء الدور المرسوم للكيان في تعزيز قطاع الخدمات على حساب كل القطاعات الأخرى.
وفي الصيف تزدهر منطقة الجبل ومراكز الاصطياف الشهيرة وتستقطب سنوياً مئات الآلاف من السياح، وخاصة العرب. ويتجدد موسم الاصطياف سنوياً بالمهرجانات والاحتفالات وغيرها من فعاليات الترفيه والمتعة، كل ذلك تخدمه بنية سياحية متفاوتة القدرة والتقدم بين منطقة وأخرى، ووعي سياحي عند اللبناني إلى حد ما.
لكن، هل تكفي العناوين العريضة للسياحة ومقوماتها على أرض الواقع، من فنادق ومطاعم وكازينوهات ومسارح مع خدمات مساندة كالاتصال والنقل ومراكز التسوق الفاخرة، لنقول بأولوية قطاع السياحة على غيره؟ ما هي الآثار المترتبة لطغيان هذا القطاع على غيره في مناطق الاصطياف أولاً؟
قضاء عاليه يمثّل نموذجاً واضحاً لهذا التفاوت الفاضح بين الفصول والقرى والطبقات وحتى ... الطوائف. فقد مثّل هذا القضاء، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مركز استقطاب للسياحة الصحية.
فهو يمتلك كل المقومات: إن لجهة صحة المناخ من جفاف وبرودة، وإمكان لاستضافة «المصطافين» لمدد قصيرة لا تزيد عن شهري الصيف. أما المصطافون فقد كانوا بمعظمهم من اللبنانيين، وتركزت مناطق اصطيافهم في صوفر، بحمدون، عاليه، سوق الغرب، شملان، عيناب وأعالي بلدات الجرد الأعلى وغيرها من المناطق.
أما التغيرات التي حصلت بعد نهاية الحرب الأهلية في عام 1990، فقد كانت كبيرة. فقد شهدت المنطقة هجمة كبيرة على شراء الأراضي. ما تسبب بتغير عام في واقع المنطقة وشكلها، انعكس على واقعها الاجتماعي.
يصف نجيب أبو فراج (50 عاماً) من بلدة بعلشميه الوضع بالقول «لقد تغيّر واقع بلداتنا وقرانا منذ العقود الماضية. مثلاً أنا أهملت أرضي الزراعية وعلاقاتي مع أصدقائي وأقاربي والواجبات العائلية، وخاصةً في فصل الصيف، حيث أعمل سائقاً عند عائلة خليجية. وقد كانت هذه القرى والبلدات تتميز ببنية اجتماعية متماسكة وتقاليد ومهن زراعية خاصةً، جعلتها «سياحة الصيف» تتراجع إلى مراتب ثانوية». هذا بالإضافة إلى التحول الوظيفي لأبناء هذه المناطق والقرى المحيطة بمراكز الاصطياف، وتحوّل معظمهم إلى قطاع الخدمات (مطاعم، ملاه، قيادة السيارات والحافلات الصغيرة، بيع بعض المنتجات الزراعية وقطاع الوساطة والسمسرة الصغيرة إلخ).
ولا تتوقف تحولات المنطقة المثيرة للجدل عند «بناء العمارات الشاهقة التي لا تتناسب أبداً مع سياق الطبيعة المحيطة بنا، التي اختلفت عن سابقاتها من أبنية تمثل المشهد القروي العام» كما يقول أبو فراج. فالتحولات العميقة، كانت في نظرة الأهالي إلى هذه المهن التي فرّخت على جوانب «المؤقت» السياحي المتحول إلى ثابت غريب. فكثير من هذه المهن تحرّمه تعاليم المذهب التوحيدي الدرزي، السائد هنا في عقيدة السكان. ما أثار نقاشاً حاداً بشأن هذا التحول في ذهنية الناس وتفكيرهم، وقد ارتفع منسوب التوتر حين أقدم بعض المتمولين على افتتاح مرابع ليلية في مدينة عاليه، ما أثار زوبعة استنكار، وخاصة لدى رجال الدين.
هذا من جهة الواقع السكاني، أما من حيث بنية هذا القطاع فهي هشة أصلاً. إذ ترى شارعاً قد تحول إلى سلسلة مطاعم ومقاه هي بمجملها فروع لمؤسسات ضخمة تتمركز في العاصمة أو مدن الساحل، وبالتالي فإن مردودها الحقيقي يعود إلى الشركة الأم لا إلى أبناء المنطقة. أي إن محصّل الأموال لا يعاود دخوله في دورة الإنتاج المحلية التي من المفترض أن تشجع المواطن على البقاء في أرضه. كما تشهد الأسعار ارتفاعاً غير طبيعي يوازي أغلى المناطق في العالم. ويبرر أحد أصحاب المطاعم باسل ع. ذلك بقوله «الموسم هارب وعلينا أن نستغل كل لحظة وكل زبون فيه».
بالمقابل، لم يؤد هذا الاكتظاظ خلال فصل الصيف إلى أي بنية تجمع الناس خارج «المؤقت الصيفي»: لا مراكز ثقافية، لا مسارح.. كل النشاط ينحسر خلال فصل الصيف القصير جداً وتتحول البلدات إلى مدن أشباح خلال الفصول الأخرى.
أما الأثر البيئي فهو، حسب الخبير البيئي د. سميح وهبي، خطير. ويؤكد الأخير خلال مؤتمر إنمائي للمنطقة عقد في بلدة «شملان» أن «قطاع السياحة يترك أثراً سلبياً جداً من خلال انتشار العمران العشوائي وتمركزه في المناطق المرتفعة وعلى منابع المياه. ما يسبب تلوث المياه والوديان والأنهر، كما في وادي «لامارتين» في منطقة حمانا أو نهر «الغابون» في بيصور. حيث تحمل الأنهر من عاليه والقرى المجاورة مياه الصرف الصحي والردميات وحتى النفايات الصلبة». ويضيف أنه إلى التلوث هناك أثر بادٍ على البيئة هنا، حيث تراجع العمل في القطاع الزراعي واستبدل بالعمل في قطاع الخدمات الموسمي، وإقامة المنتجعات والمشاريع السياحية والسكنية في المناطق الطبيعية. وأضاف وهبي أن «الأمر يتطلب دراسة ميدانية في كيفية التوفيق بين الحاجات الإنمائية والاقتصادية، والحفاظ على الطبيعة وجمال هذه المناطق وتنوعها البيولوجي الواسع. فتلك التحولات مع تزايد الضغط السكاني وحصره في هذه المنطقة، يؤدي إلى تدمير المحيط فعلياً، وبالتالي النتيجة سلبية جداً لجهة الأثر البيئي».
نمو مشوه
يصف الخبير الاقتصادي غالب أبو مصلح لـ«الأخبار» هذه الحالة بـ«النمو المشوّه الذي يسبب التخلف» أي «نمو قطاع اقتصادي محدد وتهميش بقية القطاعات، ما يسبب تفاوتاً في المداخيل والثروات الوطنية، ويؤدي لاهتزاز السلم الأهلي، وتعزيز قطاع السياحة يأتي على حساب قطاعي الصناعة والزراعة وبقية القطاعات الأخرى» وهذا ما أثبتته الأيام
تعليقات: