في الأزمنة الصعبة نلجأ إلى الذاكرة علّها تزوّدنا ببعض من عبق الأيّام الغابرة من حياتنا ومن تاريخ الوطن..

تحتلّ الذاكرة حيّزاً مهمّاً في أعمالي الحاليّة، وأعني بها ذاكرة ما غاب عنّا من تراث وهويّة وعادات وتقاليد أعطت للوطن بعضاً من رونقه وعبقه وتفرّده. وهناك الهمّ الأكبر في الذاكرة، وهو الغربة، وما تتركه من آثار سلبيّة على الوطن بشكل خاصّ.

الكلّ في هذا الوطن هو مشروع هجرة وغياب دائمين؛ مفكّرون، فنانون، شعراء، أدباء، أطباء، مهندسون.. يبحثون عن وطن بديل، هرباً من المأزق المعيشيّ. يفرغ الوطن من هذه الطاقات. يُقتل ببطء! نتركه عرضة للرياح والعواصف التي يمكن أن تحمله إلى أمكنة ومطارح لا عودة منها. نبحث عنه فلا نجده بعد فوات الأوان.

رمزتُ للذاكرة والغياب بالسلّم والطائر؛ السلّم يتلاشى رويداً رويداً، كما يظهر في الأعمال. فهو رمز للتراث والزمن (الجميل) الذي عايشه أجدادنا، قياساً لزمننا الحاليّ. السلّم هو نتاج حرفيّ كما كان حال الكثير من الحرف التي وسمت حياتنا الريفيّة والطبيعيّة وعاداتنا الجميلة كاستعمال إبريق الفخار للشرب، وجرن الكبّة والجاروشة، وخبز الصاج، وغيرها الكثير الكثير. هذه الأشياء التي غابت وتغيب شيئاً فشيئاً، ممّا يعني قتل جزءٍ هامٍّ من تاريخنا وثقافة عيشنا وهويّتنا. لا أعني هنا العيش في الماضي، بل الحفاظ على بعض هذه العادات والتقاليد والحرفيّات التي شكّلت جزءاً هامّاً من تاريخ وطننا، ومن طفولتنا، لا أن تصل الأمور بالحداثة ونتاجها إلى قتل هويّتنا وتراثنا إلى غير رجعة! يقول المثل العامّيّ: «من لا ماضٍ له لا مستقبل له»، وهي مقولة صحيحة نابعة من تجارب تاريخيّة لها دلالاتها وأفقها. ما يُبقي على الأوطان متجذّرة وقويّة هو تاريخها الذي يُمكننا أن نشبّهه بجذور الشجرة التي لا يُمكنها العيش من دونها.

الطائر، بدوره، على علاقة قويّة بالسلّم، فهو رمزٌ للهجرة الداخليّة والخارجيّة. أمّا الداخليّة فتعني ترك الريف والقرى باتجاه المدن، وعلى حساب الوطن. فهل يُمكننا تصوّر وطن أو مدن من دون ريف ومزروعاته ومنتوجاته وطبيعته وجماله وإنسانيّته...؟ أمّا الهجرة الخارجيّة فتعني ما تعنيه من ترك للوطن، سواء كانت هجرة مؤقتة، أم دائمة، كما تكونه في معظم الأحيان.. عناوين الأعمال تفصح عمّا أقول: عبور نحو الوطن، حنين، رسائل الريف، شوق المكان، ما زال الطائر وحيداً، بانتظار غودو، كلّنا للوطن، الخروج من الجنّة، خوف الغياب، هونيك في شجرة..

الهجرة مقتل للوطن. نحبّ وطننا شفهيّا، قولاً، لا فعلاً، لكن للأسف لا نرى هذا الحبّ يُترجم عمليًّا عند السواد الأعظم من الناس.

أعمالي هي دعوة للتشبّث بالوطن، وتحمّل الصعاب، والعمل على تغيير ما يجب تغييره لتكون حياتنا الفكريّة والعلميّة والتربويّة والسياسيّة والدينيّة في خدمة الوطن والمواطن، وليس الهرب الذي سندفع ثمنه غالياً، أقلّه فقدان هذا الوطن بعدم وجود مرقد عنزة به. لم يعد للطائر في وطننا، ككائن، ذاك الوجود الذي كانه سابقاً. ندرت الطيور في بلدنا، والسبب الصيد العشوائيّ وقلّة الخير في الأرض. يقول المثل: «ما في خير، ما في طير». والخير يوجد حيث يوجد الريف.

السلّم هو انتقال من الأرض نحو الفضاء، هذه الحركة يُكملها الطائر عبر تحليقه التصاعديّ، فينتج عن ذلك خط تصاعديّ، ينطلق من طفولتنا التي رمزتُ إليها ببعض أعمالي، وصولاً إلى النهاية الكونيّة التي تختزنها هذه الحياة. أعمالي الحاليّة هي امتداد بمفهومها ورؤيتها لأعمالي السابقة، ولا سيّما المرحلة الباريسيّة التي كان رحابها الفضاء، حيث أثبتت صور النازا Nasa، مؤخّراً، صحّة ما قدّمْتُه من أعمال حينها. كان الفضاء ملاذي حين أصبحت الأرض لا تُطاق، والحياة عليها مستحيلة بسبب جرم الإنسان وقساوته.. بلادنا هي موطن الأنبياء والرسل والديانات السماوية، فلماذا نخذلها ونخونها؟ المفكّر الكبير والفيلسوف ميخائيل نعيمة، ترك الغربة وكلّ ما فيها ليعود إلى الوطن، إلى قريته الشخروب في بسكنتا، ليرعى قطيعاً من الماشية! هل هناك أجمل من هذا المفكّر الكبير الذي عرف قيمة الوطن، ولو بعد حين؟! فلنتعظ منه ومن أمثاله..

السلّم، تلك الوسيلة البدائيّة والبسيطة كان لها الحضور المهيمن على الحياة حينها قبل اختراع الدرج من الباطون والحديد وسيطرة المصعد الكهربائيّ في عصر التكنولوجيا. السلّم الخشبيّ قصيدة شعريّة وروحيّة قبل اختراع نصوص الوسائل الحديثة للصعود. السلّم ينقلنا من الأرض إلى السماء. ألم يصعد سيّدنا عيسى المسيح، وهو طفلٌ، السلّم عندما رأى أطرافه توصل إلى السماء الزرقاء، إلى حيث الإيمان؟

لا يقتصر معنى السلّم، في مجتمعنا، على هذه الوسيلة المنزليّة التي كانت تُستعمل قديماً، بل استعيرت لمعانٍ أخرى، فهناك السلّم الموسيقيّ، والسلّم الوظيفيّ، والسلّم الاجتماعيّ، الخ.. وكلّها تدلّ على إيجابيّة وجمال هذه المفردة الكلاميّة التي تعني تغيير الأمكنة والحالات والانتقال..

الطائر في العمل، إذاً، على علاقة بهذا السلّم. وهذا الكائن ليس بحاجة لسلّم للارتقاء والانتقال، بعكس الإنسان. جناحا الطائر هما السلّم. لم يحتمل الإنسان حرّيّة هذا الطائر، فحجزه في قفص ووضع له سلّماً ليقف عليه، داخل هذا القفص! قد نغبط الطائر في حركاته وحرّيّته. فهو، على سبيل المثال، ليس بحاجة لجواز سفر وفيزا لعبور الأوطان، أو التمتّع بجمالات الأرض والكوكب.. وهناك أيضاً خيالات الأشخاص والوجوه التي ترمز إلينا بغياب تفاصيلها ودوالها.. والألوان والمساحات والأشكال وتداخلها، التي ترمز للأرض والسماء والطبيعة والأمل والحزن والمخاض..

من الناحية الجماليّة، الأسلوب تجريديّ غنائيّ، مطعّم بتعبيريّة تخدم النصّ الفنّيّ ودلالاته. وهناك الكتل والمساحات اللونيّة المنوّعة بين المنير والمعتم، والحار والبارد، وتداخل الخطوط، لإقامة توازن شعريّ وموسيقيّ بينها. تأليفيًّا: البناء التأليفيّ في لوحتي يُحاكي فنّ العمارة، كما كان حال الفنّ في الشرق، وفي الحضارات القديمة كالسومريّة والفرعونيّة وبلاد ما بين النهرين والفنون البيزنطيّة والفنّ الإسلاميّ باستخدامه المسطّحات ذات المستويات المختلفة (علاقة الفنّ بالسكن والأمكنة).. السلّم هو توازن بين العموديّ والأفقيّ. تختلف أرجل السلّم الخشبيّ بين الدائريّ والمستطيل، وقد يكون الإثنين معاً. وألوانه تختلف بين الفاتح والغامق تبعاً للون الشجرة المأخوذ منها جسد هذا السلّم. ويمكن أن تتعدّد أشكاله ودرجاته. أمّا الطائر، فجناحاه هما الريشة والقلم، يرسم بهما أثناه طيرانه وملامسته للفراغ. السماء هي قماشته ولونه..

إذن، أحاول في أعمالي إقامة توازن بين المستويين، الجماليّ والدلاليّ..

يبقى السلّم في الذاكرة، ويبقى معه الحنين إلى زمن جميل مضى، نعشقه، نحتاجه، ونهرب إليه من خلال ذاكرتنا.. يقول الفنان خوان غري Jean Gris: «إنّ عظمة الفنان تتوقّف على عمق الماضي الذي يحمله في ذاته».. أمّا الطائر فهو رمز لهذا المواطن، أكان صديقاً أم أخاً، أم عنصراً عزيزاً من العائلة، يتركنا، ونتركه، لنعيش في بلاد استعرناها بانتظار الغياب.. فلنرحم هذا الوطن..

(المعرض في غاليري «إيسكايب» Escape في الأشرفيّة حتى 23 أيلول).

*الفنان التشكيليّ يوسف غزاوي