عدم وجود أي نص قانوني يشرّع اعتماد سعر منصّة بلومبيرغ (علي علوش)
وفقًا لجميع المعطيات المتاحة، من المفترض أن تبصر منصّة بلومبيرغ النور قبل نهاية السنة الراهنة، لتحل مكان منصّة صيرفة سيئة الذكر، والتي فرملت قيادة مصرف لبنان الجديدة العمل بها فور مغادرة سلامة لمنصبه.
خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، أي في "الفترة الانتقاليّة"، ستكون الأمور تحت السيطرة نظريًا، بعدما وافق المجلس المركزي للمصرف خلال الشهر الماضي على تأمين الدولارات من السوق، لتسديد رواتب القطاع العام بالعملة الصعبة لشهرين، ما يفترض أن يلجم تدفّق الليرات إلى السوق في بداية كل شهر. أمّا وزارة الماليّة، فأمّنت قيمة هذه الرواتب بالليرة من الجباية، استعدادًا لتحويلها إلى الدولار في المصرف المركزي، من دون المس بالاحتياطات، طالما أن الدولارات يتم تأمينها من السوق (راجع المدن).
وإذا كانت معالم السياسة النقديّة واضحة للأشهر الثلاثة المقبلة على الأقل، فمعالمها ما زالت تتسم بالكثير من الغموض بالنسبة للعام المقبل، والذي يفترض أن يشهد انطلاقة منصّة بلومبيرغ. فالتحضيرات لإطلاق المنصّة تجري اليوم بالاستعانة بدعم تقني من قبل فريق خاص من صندوق النقد، ما يفترض أن يضع المنصّة كخطوة على مسار توحيد سعر الصرف وتعويمه، وبما ينسجم مع الإطار العام للاتفاق الموقّع مع الصندوق. ومع ذلك، تطول لائحة الأسئلة التقنيّة والقانونيّة المرتبطة بالمنصّة وعمليّة توحيد سعر الصرف، فيما تقل الأجوبة المتوفّرة حتّى هذه اللحظة، ما يجعل المشهد ضبابيًّا إلى حد بعيد.
أسئلة حول سياسة الامتثال
مصادر المصرف المركزي أشارت منذ البداية إلى أنّ منصّة بلومبيرغ ستعمل وفق ضوابط مشدّدة، بما يحصر عمليّات القطع بفئات وغايات محدّدة، بهدف الإمتثال لمعايير مكافحة تبييض الأموال. ببساطة، على المنصّة أن توازن في عملها بين أولويّتين يحرص عليهما مصرف لبنان: أولًا، استيعاب عمليّات القطع في السوق والحد من حجم السوق السوداء، الخارجة عن سيطرة المصرف المركزي. وثانيًا، عدم توريط المنصّة في عمليّات قد تثير هواجس وريبة وزارة الخزانة الأميركيّة.
مع الإشارة إلى أنّ الأولويّة الثانية تكتسب أهميّة استثنائيّة الآن، بعدما تم ذكر المصرف المركزي عدّة مرّة في بيان وزارة الخزنة الأميركيّة، الذي أعلن عن فرض العقوبات على شركة سايتاكس وصاحبها حسن مقلّد، الذي عمل على خط جمع الدولارات لمصلحة مصرف لبنان، أيام منصة صيرفة.
الحفاظ على التوازن بين الأولويّتين يفرض على المصرف المركزي الأخذ بالاعتبار عدّة اعتبارات. فتشديد القيود على عمليّات القطع، إلى حد حصرها بحلقة ضيّقة من عمليّات السوق، سيبقي هامشًا واسعًا من العمليّات خارج نطاق المنصّة، أي في السوق السوداء بالتحديد. وهذا ما سيعني العودة مجددًا إلى التباين الواسع بين سعر المنصّة وسعر السوق الموازية، ما يعني إحالة بائعي الدولارات إلى السعر الأعلى في السوق السوداء. وهكذا، ستفشل المنصّة في تكوين سعر عائم وحر للدولار، كما ستفشل في تنظيم العرض والطلب في السوق كما هو مأمول منها.
لكن في المقابل، وفي حال تم تخفيف القيود على عمليّات القطع أكثر مما يجب، وصولًا إلى حد فتحها بشكل شبه كامل، ستكون المنصّة قد زادت من مخاطر استعمالها في عمليّات تبييض الأموال، أو على الأقل في عمليّات مع أطراف غير مرضي عنها أميركيًا ودوليًا. كما سيؤدّي تخفيف القيود بشكل كبير إلى فتح المجال أمام عمليّات قطع غير مبرّرة، يمكن أن تكون واجهة للمضاربات على العملة المحلّية.
الإجابة على هذه التساؤلات، ستكون من مهمّة سياسة الامتثال التي سيضعها المصرف المركزي، والتي ستضع الشروط المرتبطة بتبرير عمليّات القطع وتبيان أهدفها، وصولًا إلى تحديد نطاق العمليّات التي ستقوم بها المنصّة خلال الفترة المقبلة. وهذا الجانب من عمل عمل المنصّة هو ما سيحدد ما إذا كانت المنصّة ستتمكّن من استيعاب عمليّات سوق القطع بشكل تدريجي، مع الحفاظ على الضوابط التي تمنع المضاربات وتبييض الأموال عبر المنصّة.
علاقة المنصّة بالمصارف والصيارفة
الأكيد حتّى هذه اللحظة هو أنّ المنصّة ستعمل من خلال 13 مصرفًا، أي المصارف التي تملك اشتراكات لدى شركة بلومبيرغ بمعزل عن وجود المنصّة. وحسب المعلومات المتوفّرة، من المفترض أن يعمل المصرف المركزي على إصدار التعاميم اللازمة لإلزام سائر المصارف بالاشتراك لدى شركة بلومبيرغ، لتمكينها لاحقًا من الاستفادة من خدمات المنصّة. وهذا ما يقلّص كلفة تشغيل المنصّة بالنسبة للمصرف المركزي.
السؤال الأوّل هنا يرتبط بعلاقة المنصّة بالمصارف، من الناحية التقنيّة. فمن الناحية العمليّة، سيملك المصرف المركزي خيار تحويل المنصّة إلى وسيط فعلي، من خلال فتح حسابات مقاصّة للمصارف لدى مصرف لبنان، لقيد عمليّات البيع والشراء وتصفية مراكز القطع السلبيّة أو الإيجابيّة في نهاية كل يوم. وهذا النمط من العمليّات سيسمح للمصرف المركزي بامتلاك هامش أوسع للتدخّل اليومي في عمليّات السوق، من خلال شراء الدولارات الفائضة، أو التدخّل بائعًا للدولار في حال وجود شح في المعروض النقدي بالعملة الصعبة.
أما الخيار الآخر، فهو أن يقتصر دور المنصّة على تسجيل العمليّات، وبحسب سعر الصرف المعلن من قبل مصرف لبنان، وهو ما يجعل فعاليّة المنصّة من هذه الناحية مشابهة إلى حد بعيد بفعاليّة منصّة صيرفة. هذا الخيار، سيقلل التعقيدات التقنيّة اليوميّة المرتبطة بعمل المنصّة، وخصوصًا تلك المتعلّقة بالتقاص في الحسابات المفتوحة لدى مصرف لبنان. إلا أنّ تدخّل المصرف المركزي في حجم المعروض النقدي سيكون محدودًا، بل سيكون الاستثناء، مقارنة بالخيار الأوّل.
السؤال الآخر، يرتبط بالجهات التي ستملك خيار استعمال المنصّة. ففتح باب العمليّات أمام الصيارفة في السوق سيسهّل عمليّة استيعاب تداولات السوق الموازية، لكنّه سيقلّص من قدرة المصرف المركزي على ضبط العمليّات ومراقبتها، خصوصًا أن شركات الصيرفة –وبخلاف المصارف التجاريّة- لا تملك الخبرة الكافية للتعامل مع معايير الامتثال. مع العلم أن حصر عمليّات المنصّة بالمصارف التجاريّة، غير المقتنعة بخيار بلومبيرغ أساسًا، سيرفع من احتمال استمرار التباين بين سعرَي صرف المنصّة والسوق الموازية، كما كان الحال أيّام منصّة صيرفة، بالنظر إلى ارتفاع نسبة عمليّات القطع التي تتم خارج المنصّة.
إشكاليّات قانونيّة
أخيرًا، تبقى الإشكاليّات المتعلّقة بعدم وجود أي نص قانوني يشرّع اعتماد سعر منصّة بلومبيرغ خلال مسار توحيد أسعار الصرف، تمامًا كما كان الحال بالنسبة إلى منصّة صيرفة. وكما هو معلوم، لجأ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري إلى الاستحصال على قرار من مجلس وزراء، لتغطية قرار مصرف لبنان بإطلاق المنصّة الجديدة، وهو ما يضع مسؤوليّة اعتماد سعر صرف المنصّة على عاتق الحكومة. إلا إن إلقاء المسؤوليّة على عاتق الحكومة لا يعني قوننة سعر الصرف الجديد، حسب النصوص الموجودة حاليًا في قانون النقد والتسليف.
وهكذا، سيواجه مجلس النوّاب إشكاليّة اعتماد سعر الصرف هذا عند إقرار قانون الكابيتال كونترول، أو عند إقرار أي تشريع يرتبط بعمليّات القطع أو سعر الصرف. وهذا الواقع، لن يحول دون اعتماد سعر المنصّة الجديدة في تقدير واردات الموازنات المقبلة، أو في عمليّات استيفاء الضرائب والرسوم، طالما أن هذه الإجراءات ترتبط بقرارات يتخذها وزير الماليّة، كما حصل عند تعديل سعر صرف الدولار الجمركي أو سعر الصرف المعتمد لجباية الضريبة على القيمة المضافة.
أخيرًا، تبقى الإشكاليّة الأهم عدم توفّر المظلّة الأوسع من الإصلاحات الماليّة، التي كان يفترض أن تتكامل مع عمليّة توحيد أسعار الصرف. وهذا ما سيحول مثلاً دون ورود التدفقات الماليّة بالعملة الصعبة إلى النظام المالي، وهو ما سيحد من قدرة المصرف المركزي على ضبط سعر الصرف بعد تعويمه وتوحيده. كما سيحول ذلك دون اعتماد سعر الصرف الجديد لإعداد الميزانيّات المصرفيّة وميزانيّات مصرف لبنان، بالنظر إلى امتلاء هذه الميزانيّات بالخسائر بالعملة الصعبة، وهو ما سيعني انكشاف الميزانيّات على فجوة كبيرة في حال اعتماد سعر صرف واقعي ومرتفع للتصريح عن الأرقام.
تعليقات: