«كرز» في بلدة إهدن، قضاء زغرتا
جاءت فترة الحجر جراء انتشار وباء كورونا، لتُعيد تصويب البوصلة. وجد الإنسان نفسه يلوذ بالطبيعة والريف والعادات الحياتية البسيطة بعيداً عن الاستهلاك. تدريجاً، سطع نجم هذه البيوت في لبنان، وفرضت نفسها لاعباً أساسياً في القطاع السياحي اللبناني وخصوصاً في الصيف المنصرم
في وقت تسير فيه البشرية نحو المستقبل بسرعة الـ 5G (يجري العمل والتخطيط لإنجاز شبكة الـ 6G، التي يُتوقع أن تكون أسرع بـ 100 مرة)، أعادت بيوت الضيافة في لبنان عقارب السياحة إلى الوراء، إلى زمن اشتاق إليه الناس، وظنوا أنه اندثر ولم يعد له أثر إلا في الحكايات، وكتب التاريخ. بيوت بثت الروح من جديد في القرية اللبنانيّة، معيدةً عادات وتقاليد وفولكلوراً حجبتها هجمة «التمدّن» وضياع الهوية عند قسم كبير من اللبنانيين، وأسهمت في الحفاظ على تراث معماري غني، حتى باتت محورية في إنقاذ المئات من البيوت التقليدية من القدر المحتوم.
في سرعة قياسية كرست بيوت الضيافة نفسها لاعباً أساسياً في القطاع السياحي اللبناني بشقيه الداخلي والخارجي. أثبتت قدرة على دمج الماضي بالحاضر، ونقل الزوار في رحلات عبر الزمن. مسار لم يكن لينجح لولا أن الكثير من هذه البيوت ذات طابع تقليدي، تخفي في حجارتها وقناطرها حكايات أزمنة ماضية تجذب إليها سياحاً تقودهم النوستالجيا إلى تراث غابر، وإلى عراقة في العمارة والهندسة، بعيدة من التوحش العمراني الذي يغزو معظم المناطق اللبنانية، وخصوصاً الساحلية منها.
الطابع التقليدي للبيت ركن من أركان هويته كبيت ضيافة، وإن لم يكن شرطاً حصرياً كما يفيد المرسوم الرقم 6298 الذي ينظم بيوت الضيافة. إذ تشير مادته الثانية التي تتناول مواصفات بيوت الضيافة إلى أنه «يُستحسن أن يكون البيت مبنياً على الطراز التقليدي، وأن يُظهر معالم البيت اللبناني، أو أن يكون ذا طابع خاص». وفي هذا السياق، توضح رئيسة دائرة الفنادق ومؤسسات الإقامة في وزارة السياحة سارين عمّار أن «بيوت الضيافة تعتبر مفهوماً جديداً لمؤسسات الإقامة التي برزت مع السياحة المستدامة والتنمية الريفية، وهي أداة للتنمية المحلية والثقافية والاجتماعية والمحافظة على التقاليد. ومن هنا يُعتبر البيت محورياً وصلة وصل لنقل هذه الثقافة والتقاليد عبر الأجيال».
إلا أنّ الحفاظ على البيوت التقليدية وصيانتها الدائمة، وحتى نفض غبار الزمان عن تلك المنسية والمهملة منها ليس بالأمر اليسير. لذلك، يظهر خيار تحويلها إلى بيوت ضيافة كأحد الحلول الأنجع والأفعل التي تضمن استمراريتها، وتُعيد بث الحياة فيها. الكثير من أصحاب بيوت الضيافة وجدوا صعوبةً بالغة في الحفاظ عليها، ما اضطرهم إلى تحويل وجهتها إلى مشروع استثماري عوض الإبقاء عليها كبيت عائلي صرف. وفقاً لرمزي سلمان، نقيب أصحاب ومشغّلي بيوت الضيافة، إن «العديد من بيوت الضيافة مملوكة من عائلات أو أفراد ورثوها ويريدون الحفاظ عليها. لكن كلفة صيانة هذه البيوت حوّلها إلى عبء على أصحابها. وبالتالي، فإن تحويل بيوت تقليدية إلى بيوت ضيافة هو حل منطقي وعفوي وعضوي لم يفرضه أحد، وخلاصة منطقية لا مفر منها في الكثير من الأحيان».
بيت Indira للضيافة
كلام يتطابق مع معطيات عمّار التي تؤكد «أنّ بيوت الضيافة أسهمت من دون أدنى شك في الحفاظ على البيوت التقليدية رغم وجود بيوت ضيافة غير تقليدية. ويعتبر المغتربون أكبر المستثمرين في بيوت الضيافة التي ورثوها وأرادوا الحفاظ عليها. عوض بيع هذه البيوت، حافظوا عليها وأسهموا في تنمية مناطقهم وأمّنوا مداخيل منها تدعم استمراريتها».
Indira، بيت ضيافة خلاب عمره أكثر من 200 عام في بلدة الكفور في قضاء كسروان، نجحت عائلة باز في إنقاذه من غياهب النسيان، وحولته من خربة، إلى تحفة معمارية تضمّ عشر غرف نوم، كلٌّ منها عبارة عن جناح خاص، إضافة إلى قبو من العقد تحوّل إلى piano bar تُقام فيه حفلات وعشوات، ومسبح جميل وباحة شاسعة حيث يجلس الزوار خارجاً، جاعلةً منه مقصداً سياحياً نشطاً منذ افتتاحه كبيت ضيافة قبل عام فقط.
تشرح داني باز، مديرة شركة استثمار Indira، أنها اشترت وزوجها البيت عام 1986، و«كان عبارة عن خربة حينذاك. رمّمنا البيت وسكنا فيه منذ عام 1988. لكن عملية الترميم والصيانة والعناية امتدت على مدار ثلاثة عقود. والعام الماضي، قررت ابنتي، وهي مالكة البيت حالياً، تحويله إلى بيت ضيافة، بعدما انتقلنا كعائلة إلى بيت آخر ورثته من والدي. لكن كانت لدينا رغبة وإصرار على الحفاظ على هذا البيت، ونفخ الروح فيه، ومنعه من الموت سريرياً، كما كانت الحال حين اشتريناه». وتقرّ باز بأن «خيار تحويل المنزل إلى بيت ضيافة لا غنى عنه للحفاظ عليه، نظراً إلى أن كلفة الترميم والعناية المستمرة مرتفعة للغاية، ما يصعّب الحفاظ على بيت بهذه الضخامة من دون مردود مالي واستثمار». وحول صعوبة الترميم من حيث الكلفة والدقة، تشير إلى أنّ «الكلفة العالية عائق كبير أمام كثيرين للحفاظ على بيوتهم التقليدية. ومن أبرز الصعوبات، وخصوصاً حين يكون البيت تقليدياً، هي كيفية الدمج بين ما هو قديم وما هو حديث ليتوافق مع متطلبات العصر. والترميم يجب أن يراعي أصالة البيت ولا يمكن القيام بشيء بخفة أو من باب التوفير وتقليل النفقات. وبالتالي، فنحن أمام مسار معقد جداً، وأنصح كل من يملك بيتاً تقليدياً وتعوزه الإمكانات الكافية لترميمه بشكل لائق أن يتركه على حاله عوض أن يرمّمه بشكل عشوائي ويفقده هويته وقيمته».
في بلدة مشمش في قضاء جبيل، دار ساحرة تمتد على مساحة 35 ألف متر مربع، استغرق بناؤها 25 عاماً، منذ مطلع العقد الثالث من القرن الماضي وتعرف حالياً بـ «بيت نون». بيت بناه الوزير الراحل إدوار نون، وشهد على جلسات وسهرات واجتماعات لنخبة البلد آنذاك، وقد قرّر ورثته وأحفاده تحويله إلى بيت ضيافة العام المنصرم.
تكشف ميا نون، مديرة البيت وابنة حفيد المالك المؤسس، أنّ «حلم جدي كان أن يحول المنزل إلى بيت ضيافة، لكن على نطاق أصغر، أي مجرد غرفة أو غرفتين. لكن حلمه بقي راسخاً مع أولاده، ومنهم والدي الذي قرر مع أمي تحويل المنزل إلى بيت ضيافة. وقد سرّع عملية التحول نحو بيت الضيافة، نشوب حريق في الطبقة العلوية من المنزل قبل ثلاث سنوات، ما أطلق الورشة وسرّعها. وقد استغرقت عملية الترميم عامين، وتمت بشكل دقيق للغاية للحفاظ على روحية المنزل، حيث تجنّبنا لمس الحجر أو التعديل في الهندسة الأساسية». وتشدد على أن «الترميم مكلف جداً ولدينا شريك في المشروع هو صديق والدي. ولم نكن نملك القدرة المادية للحفاظ على المنزل إلا من خلال تحويله إلى مصدر للدخل. مهما أنفقت من مال، فإن هذا النوع من البيوت التقليدية، وخصوصاً عندما يكون بهذه الضخامة، بحاجة إلى ضخ متواصل للأموال ورعاية مستمرة».
يُعتبر المغتربون أكبر المستثمرين في هذه البيوت التي ورثوها وأرادوا الحفاظ عليها
اللافت في حالة البيتين المذكورين وغيرهما الكثير من بيوت الضيافة التي بُعثت إلى الحياة في الأعوام الأخيرة، أن الاستثمار فيها كان شخصياً وغالباً من عائلات مقتدرة تملك الإمكانات لتحمل نفقات ترميم مكلفة. لا يعني خلو القطاع من بيوت تقليدية صغيرة نجح أصحابها في تحويلها إلى بيوت ضيافة ناجحة، لكن البارزة منها التي «تملك معايير عالية وخدمات راقية تعود ملكيتها إلى عائلات ميسورة» بحسب خبيرة في المجال. ورغم جزمها بأن «الفورة في بيوت الضيافة نجحت في إنقاذ العديد من البيوت التقليدية التي كانت منسية ومتروكة ومهجورة، إلا أنها غالباً بيوت يملكها أشخاص مقتدرون، وخاصة الكبيرة منها. لكن في الإجمال يمكن القول إنّ النجاحات التي حققها قطاع بيوت الضيافة شجع الكثير من الناس من مختلف الفئات الاجتماعيّة على التمسك بالبيوت التقليدية وعدم بيعها أو إهمالها». من جهته، يعتبر النقيب سلمان أن «هنالك العديد من بيوت الضيافة الصغيرة والمتواضعة التي تشهد إقبالاً كبيراً جداً. والأمر مرتبط برغبة الزوار. هناك من يبحث عن الفخامة وخدمات عالية الجودة وهناك من يبحث عن البساطة والتواضع».
ونظراً إلى الإمكانات الضخمة للقطاع ونموه المطرد، يرى كثيرون من الناشطين في المجال أنه باتت هنالك حاجة لظهور نوع من صندوق استثماري، تكون مهمته تمويل ترميم العديد من البيوت التقليدية التي تملك المؤهلات لأن تصبح بيوت ضيافة ناجحة، في مقابل حصة من الأرباح أو الملكية. رأي لا يرى النقيب سلمان أنّ هنالك إمكانية لنجاحه في لبنان «أقله في المدى المنظور. فصندوق مماثل يحتاج إلى استقرار طويل الأمد وثابت».
حصّة الأسد للشوف والبترون وجبيل
وزعت وزارة السياحة استمارة قبل حوالى ثمانية أشهر لمحاولة معرفة عدد بيوت الضيافة المنتشرة في لبنان، بغض النظر عن المرخّص وغير المرخص منها. وبحسب رئيسة دائرة الفنادق ومؤسسات الإقامة في وزارة السياحة سارين عمّار «أظهرت المعطيات وجود 160 بيت ضيافة ملأ أصحابها الاستمارة، ونحن نملك داتا مفصلة عنها. ولكن هنا يجدر التنبيه إلى أنه ليس كل من ملأ الاستمارة هو بالضرورة مرخص. أما عدد البيوت الحائزة لترخيص أو لموافقة مبدئية فيبلغ 60 بيتاً». أما أكثر المناطق ازدهاراً من حيث أعداد ونشاط بيوت الضيافة فيها بحسب إحصاءات الوزارة فهي الشوف والبترون وجبيل.
خطط النقابة: التعريف والجمع
من أولويات «نقابة أصحاب ومشغلي بيوت الضيافة»، التي تأسست حديثاً «تنظيم القطاع وجمعه» وفق ما يقول رئيسها رمزي سلمان. والخطوة الأساسية في هذا المسار تكمن في «تعريف بيوت الضيافة بشكل واضح ودقيق، كما نراها في لبنان، بغض النظر عن التعريفات في أي بلد آخر.
وقد وصلنا إلى الخواتيم في هذا السياق، وتوصلنا بشكل عام إلى أن بيوت الضيافة، هي بيوت يمكن أن تتألّف من غرفتين وثلاث غرف كحد أدنى وصولاً إلى مجمع بيوت ضيافة لكن شرط أن يكون هنالك شخص يستضيف الزوار». التعريف سيسمح بحصر عدد البيوت وبعدها ستعمل النقابة على «إطلاق موقع إلكتروني شامل يضم بيوت الضيافة كافة، يصنّفها ضمن فئات عدة تشمل السعر والخدمات المتوافرة والموقع الجغرافي وغيرها. وبالتالي نجمع البيوت كافةً في موقع واحد موثوق يضمّ كامل المعلومات عن كل بيت». وبعد إتمام الخطوات الآنفة الذكر «سيُفتح الباب للانتساب للنقابة».
«بيت البحر» في طبرجا (تصوير بيتر غنيم)
«بيت نون» في بلدة مشمش في قضاء جبيل
بيت Indira للضيافة
Indira في بلدة الكفور في قضاء كسروان
تعليقات: