على أي أساس بنى الأمن العام اللّبنانيّ إحصاءاته لأعداد اللاجئين؟ (ريشار سمور)
في سياق متابعة ملف اللجوء السّوريّ وتعقيداته مُتعدّدة الأوجه، في لبنان، أشارت "المدن" في عددٍ من تقاريرها السّابقة، إلى الأسباب التّي تمنع المفوضيّة من تسليم البيانات الشخصيّة أو "داتا معلومات" اللاجئين، للحكومة اللّبنانيّة، أكان نسبةً للجدليّة الحقوقيّة، المُرافقة لتسليم هذه الداتا (التّورط بخطّة مواربة، تُعرض آلاف اللاجئين للخطر: راجع "المدن")، أو لجهة العراقيل اللوجستيّة والفنيّة (راجع "المدن")، التّي تجعل من هذه "الداتا" فاقدةً للجدوى الحقيقيّة، التّي يختمر فيها الحلّ العمليّ والإنسانيّ والجديّ، الذي يُراعي وضع اللاجئين الإنسانيّ، ويُنصف لبنان الدولة والشعب (لا الحكومة)، المُتضرّر الأكبر من المقتلة السّوريّة، والصراع السّياسيّ والأزمة الاقتصاديّة والبؤس الاجتماعيّ العموميّ، المُتمخّض عنها.
ما هي "داتا المعلومات"
وبإعلان المفوضيّة السّاميّة لشؤون اللاجئين، في 8 آب الفائت، نيّتها تسليم "داتا معلومات" اللاجئين الأساسيّة فقط (لم تُسلم بعد)، للسلطات اللّبنانيّة، وفق المعايير الدوليّة لحماية البيانات، عادت الجدليّة، لتُعزز المخاوف الإنسانيّة، بشأن عزم السّلطات اللّبنانيّة على إيجاد معبر سريع ومُخاتل لحلحة الملف، عوضًا عن الحلول والأحكام الرشيدة، واستغلالها لهذه الداتا بما يصب بمصالحها وبطموحات الأسد، للعودة إلى السّاحة الدوليّة، كرئيسٍ شرعيّ لا مُجرم حرب. خصوصًا أنّها لم تأنف حتّى اللحظة عن استكمال ترحيلاتها العشوائيّة للاجئين (أشارت مصادر "المدن" في المفوضيّة لكون عدد حالات التّرحيل في شهر آب وحده 6,000). أو حتّى تجييش الشارع اللّبنانيّ طائفيًا وسياسيًا وإثارة أحقاده السياسية- التّاريخيّة.
أما في الأصل، ومع تحول الثورة السّوريّة من الطور السّلميّ إلى الطور المُسلح آواخر عام 2011 ومطلع عام 2012، وتدفق اللاجئين السّوريّين إلى لبنان في أعقابها، قامت المفوضيّة، بجمع بيانات هؤلاء اللاجئين أثناء عملية تسجيلهم. وتشمل المعلومات الأساسيّة التي يُطلب من اللاجئين السّوريين تقديمها: اسمهم ولقبهم وعدد أفراد أسرهم وأعمارهم. وبالإضافة إلى ذلك، تتضمن هذه البيانات معلومات شخصيّة تفصيليّة حول حياتهم، مثل أسباب لجوئهم وظروفهم أثناء اللجوء. كما وقد تشمل هذه البيانات معلومات حول وضعهم الأمنيّ والسّياسيّ في سوريا.
"داتا معلومات" اللاجئين
اليوم، يبلغ عدد اللاجئين السّوريين حسب آخر تحديث لبيانات المفوضية 795.322 لاجئًا مسجلًا فقط، بما في ذلك 186.585 أسرة مسجلة بأكملها. فيما تتفاوت أعدادهم بين المناطق اللّبنانيّة، حيث يُشكل سهل البقاع نسبة 35.5 بالمئة من الانتشار، يليه شمال لبنان 28.0 بالمئة، ثمّ بيروت 22.3 بالمئة، وأخيرًا الجنوب 11.2 بالمئة. فيما تتحدث الأرقام الرسميّة عن وجود ما يناهز المليون ونصف المليون (بعضٌ يجنح لاعتبار عددهم يفوق المليونين). لا توجد للآن مخيمات رسميّة لاستقبال اللاجئين السوريين في لبنان، نتيجة لخلافات بين الفرقاء السّياسيين بشأن مواقع إقامتها، وذلك استنادًا إلى المخاوف اللّبنانيّة، خشية التأثير على التّوازن الديمغرافي، أو المخاوف من التّوطين، أو مخاوف تكرار سيناريو لجوء الفلسطينيين.
والمفارقة أن هذه الأعداد سُجلت حتّى نهاية عام 2015 ولم يتمّ تحديثها منذ حينه، نتيجة القرارات العاطفيّة التّي اتخذتها الحكومات اللّبنانيّة المدفوعة بالحالة العونيّة ومخاوف التغيير الديمغرافيّ والتّوطين، خصوصًا القرار الصادر في عام 2015، الذي منع المفوضيّة (UNHCR) من قبول المزيد من طلبات تسجيل اللاجئين لديها. ونتيجة لذلك، زاد عدد اللاجئين غير المسجلين الذين يعيشون حاليًا في لبنان، مما يجعل من الصعب تحديد عددهم الإجماليّ وبالتّالي يضعف أي محاولة لحلّ أوضاعهم كما تزعم السّلطات.
هذا القرار جعل اللاجئين، بما في ذلك الأفراد والجماعات المضطهدة والهاربة، بالإضافة إلى المهاجرين الاقتصاديين، غير محميين وعُرضة للاستغلال في ظلّ تعقيدات نظام الكفالة وغياب الحماية القانونيّة الموفرة بموجب معاهدة جنيف للجوء 1951 (لم يُوقع عليها لبنان). لذا، بقي أمام اللاجئين خياران فقط: إما تعرضهم للاستغلال وفقًا لأنظمة الكفالة أو التّقدم بطلب لجوء غير قانونيّ في لبنان، مع الامتناع عن أي إجراء يمكن أن يكشف عن وضعهم غير القانوني، مثل الحصول على وثائق رسميّة أو التّوثيق المدني.
اللاجئون المُسجلون
وناهيك بازدياد أعداد اللاجئين غير المُسجلين في المفوضيّة (لا يُعرف عددهم الإجماليّ كما باقي دول اللجوء)، يُضاف هذا الواقع، حرمان الآلاف من السّوريّين وتحديدًا الأطفال المولودين في لبنان، من حقّهم البديهيّ وهو التمتع بالشخصيّة القانونيّة. هذا الحقّ المنصوص في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يلتزم به لبنان من دون تحفظات.. ليس فقط لكون الإجراءات مُعقدة بصورةٍ جعلت الآلاف يستغنون عن التّوثيق المدني (تسجيل الولادات، الزواج، الوفاة...)، لتكاليفه الباهظة تارةً أو لكونه يُشكل خطرًا على أمنهم ويجعلهم تحت خطر الاعتقال والتّرحيل القسريّ طورًا، بل يعود أيضًا لسببٍ أساسيّ آخر، وهو ضعف المعالجة التّشريعيّة، لجهة عدم تناسق المستندات المطلوبة لتسجيل التّوثيق المدنيّ والرسوم والأنظمة المطلوبة في دائرة الأحوال الشخصيّة في كل محافظة لبنانيّة (بالرغم من إصدار الأمن العام عدّة تعاميم لتسهيل التّوثيق المدني بين عام 2017 و2018 و2019). وهذا حسب ما أشار البحث القانونيّ الذي أعده المركز اللبناني لحقوق الإنسان والمجلس النرويجي للاجئين منذ نحو الشهرين، حاملًا عنوان: "مقارنة حول تسجيل الزواج، والولادات والوفيات بين بيروت، لبنان الشمالي، البقاع وجبل لبنان".
هذا البحث أشار إلى التّحديات التّي تواجه اللاجئين السّوريّين في لبنان عند محاولتهم الحصول على وثائق رسميّة مثل شهادات الميلاد والزواج والوفاة، فيما اُعتبرت الفوارق في الرسوم التّحدي الأكثر شيوعًا بين مناطق الولادة وتحديدًا بين البقاع الشمالي والأوسط والشمال اللبنانيّ.. مقرونًا باختلاف المسارات في تسجيل الولادات في هذه المناطق أكان عند المخاتير والأطباء والمشافي ودوائر النفوس. هذا الأمر الذي يرتبط أيضًا بتسجل الزواج أكان لدى السفارة السّوريّة أو المحاكم الشرعيّة، حيث يُمثل تثبيت الزواج المعرقل الأساس في عملية تسجيل الأطفال. وبالتّالي نكون أمام جيلٍ من آلاف الأطفال السّوريّين مكتومي القيد. فيما اُعتبر تسجيل الوفاة الإجراء الأقلّ تنفيذًا من قبل اللاجئين والمنظمات. كما وتختلف المستندات المطلوبة لتسجيل الوفاة بين المناطق.
تبعات القرار المتهور
وأمام هذا الواقع، يبدو ملّحًا التّساؤل: في حال قررت الحكومة اللّبنانيّة ولدى تسلمها الداتا، الأخذ بالاعتبار التّوصيات القانونيّة، للتفريق بين اللاجئ الأمنيّ أو المهاجر الاقتصاديّ، أو حتّى استكمال ترحيل اللاجئين اعتباطيًا، وفي كلتا الحالتين، ما هو معيار التّرحيل أو التّفريق، للجيل الذي لا يملك أي أوراق قانونيّة تدّل على أنّه سوريّ الجنسيّة؟ كما وعلى أي أساس بنى الأمن العام اللّبنانيّ إحصاءاته لأعداد اللاجئين في ظلّ هذا الواقع؟ وهل بالداتا ستُحل أزمة اللجوء في لبنان؟
أما الحتميّ، أنه لا يوجد للآن أي إجابة لهذه الأسئلة، فبالرغم من تواصل "المدن" مع عدد من المسؤولين في وزارة الشؤون الاجتماعيّة ووزارة الداخليّة والبلديات، والمديريّة العامة للأحوال الشخصيّة، لم تحظ "المدن" بأي إجابة شافيّة، فيما ينحصر الترقب اليوم، بتسليم المفوضيّة للداتا، علمًا أن الدولة اللبنانيّة لتاريخه لم تول أي اهتمام يُذكر لما تطرقنا إليه آنفًا في هذا التّقرير، بل لا تزال معالجة الملف المُعقد ومُتعدد الأوجه والمشكلات، معالجة بدائيّة وترقيعيّة، فيما سيقع لبنان واستحقاق تسلم الداتا، أمام مأزقٍ كبير وعلى عكس ما يتوقع، يتناسل عنه، معضلة حقوقيّة، وأخرى لوجستيّة.. ليبقى "الحلم" بإعادة اللاجئين إلى سوريا وفورًا، بعيدًا.
تعليقات: