حواجز طيارة في الشوارع: العنف ضد اللاجئين سينفلت

وصلنا إلى الدرك الذي لا رجوع عنه (Getty)
وصلنا إلى الدرك الذي لا رجوع عنه (Getty)


ماذا يعني أن يتفشى العنف الشعبيّ تجاه الآخر، بهذه الصورة العشوائيّة؟ ماذا يعني أن يقوم مواطنٌ بإقامة حاجزٍ "أمنيّ" لغايةٍ زجريّةٍ وقمعيّة، بتزكية من الدولة؟ ماذا يعني أن يُحتجز مجموعة من البشر، ساعات في مبنى، تحت خطر التعنيف والاعتداء والقتل، فقط لكونهم من أصحاب جنسيةٍ ما؟ ماذا يعني أن تصدر شائعات عن مصادر رسميّة، تتهم فيها مجموعات لاجئة بحيازة كميات ضخمة من السّلاح؟ وهل هذه الظواهر، هي تجلٍ صريح وعلانيّ لانحلال هذه الدولة، وتحول أطوراها الديمقراطيّة- الحقوقيّة لأخرى ديستوبيّة (فاسدة ومنحلة)؟


عنف السّلطة وعنف الشعب

لطالما كان مبدأ "التّحرر من الخوف" واحداً من المداميك الأربعة لشرعة حقوق الإنسان، في محاولةٍ لتكريسها كحقٍّ على كل إنسان في هذا العالم التّمتع به، ولجعلها عقيدة النظام العالميّ بعد الحرب العالمية الثانية. وفيما اختلف المحلّلون في تفسير وتحوير هذا المبدأ، إلا أن آراءً ليبراليّة رجحت أخيرًا، اقتران هذا الحقّ، حصرًا بوجود "دولة تحتكر العنف المشروع".

في لبنان اليوم، حيث تفشل الدولة ومؤسساتها، بوضع هيكلٍ متين لسلطتها واحتكار الشرعيّة، وفرض انتظامٍ عام على مواطنيها، بل وصياغة سياسة دبلوماسيّة واضحة ولائقة مع المجتمع الدوليّ في مختلف الموضوعات وتحديدًا ملف اللجوء السّوريّ، وتطبيعها الرديء مع نظام الأسد بما يصب بمصالحه حصرًا، وإهمالها المقصود لوضع خريطة طريق لحلٍّ حقيقيّ لما تُسميه الأزمة -كبش المحرقة- المنوطة بحمل كل خطايا النظام اللّبنانيّ المُخاتل والمارق. يبدو أن الشارع اللّبنانيّ المُتأجج بأحقاده، والعاجز أمام تغيير واقعه المأزوم، عاد لأساليبه القديمة، واعتماده لما يُسمى في الأدبيات السّياسيّة حكم الغوغاء، أي عقاب الأشخاص المشتبه بهم من دون اللّجوء للإجراءات القانونيَّة، بحقّ اللاجئ والمُعارض والمثليّ، والمُختلف، وكل ما تفشل السّلطات في معاقبته أو الأسوأ في حمايته.


حواجز "طيارة"

الآن إذ تمشي في بيروت وضواحيها الشرقيّة، من تخوم الأشرفيّة، والرميل ومار مخايل النهر، وصولًا لبرج حمود والدورة والدكوانة والبوشريّة والمناطق المحيطة، لا بد أن تستشعر هذه العودة القسريّة لحقبةٍ ظننا أنها اختفت، حقبةٍ مضمخة بالأحكام العرفيّة الميدانيّة، من التّوجس من البشرة السّمراء واللكنة المختلفة، من القيافة، من الشكل والهيئة. اللاجئون وجلون، المواطنون مُتأهبون للنيل منهم، ومن كل من سبب في أزمتهم كما يزعم محضروهم، سائق "توترز" والديلفري بات ندًّا وعدوًا، المتسول في الطريق بات خطرًا على الأمن القوميّ، الشابة بحلق أنفٍ، ساحرةٌ تُلقي اللعنات، يجب حرقها، الشاب بتسريحة شعرٍ طويل، "مُخنثٌ"، لا بد من رجمه، حتّى الموت.

الطرقات العموميّة مغمورة بشيءٍ من القنوط والغضب، المحال التّجاريّة التّابعة ملكيتها للسوريين أو حتّى التّي تُشغل سوريين، مُقفلة، الحانات على امتداد الجميزة ومار مخايل فرغت من روادها الدوريين. لم تعد بيروت مثل ما كانت حتّى قبل شهرين من الآن. هكذا أرادوا بيروت مدينة فوضويّة عشوائيّة همجيّة، مدينة متزمتة، هوموفوبيّة، عنصريّة، لا سلطةً تعلو فيها عن سلطة أشاوس العنف والعصبيّة، حالة الهلع والرهبة، والخواف، تسللت لكلٍ منزل، كل مواطن صار عنصرًا أمنيًّا مُتأهباً للقتال، كل مواطن صار جنديًا للرب، إلهيًا، أخذ على عاتقه مهمة الحساب والعقاب. أما السّوريالي درجة المصيبة، هو أن من احتضن الحملات العنصريّة في بداياتها مطلع شهر نيسان الفائت، في المناطق نفسها، مُدعيًا أن أسبابه وطنيّة، الرافض لاحتلالٍ سوريّ جديد هو نفسه من اعتنق منهاج الاحتلال السّوريّ في إقامة الحواجز "الطيارة" وتعنيف كل "هجين" على أساس الهويّة والجنسيّة والانتماء، ناشرًا أساطيل الدراجات الناريّة، والعصابات الشوارعيّة، متشفيًّا من حقبة لم يتعلم منها شيئًا.


الحقّ الذي لا يجتزئ

لسنا هنا في معرض الدفاع الأعمى عن اللجوء السّوريّ، الذي لم تتمّ معالجته بالصورة الجديّة والحقيقيّة بالأخذ بالاعتبار إشكاليته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والبنيوية، كما فعل شطرٌ من الدول الأوروبيّة، نتيجة التقاعس الدوليّ حينًا في المؤازرة، وأحيانًا أخرى كنتيجة حتميّة للفساد اللّبنانيّ والخطاب البروباغنديّ العاطفيّ. لكن من الصعب إنكار أن كل المخاوف التّي عبّرت عنها الجهات الإنسانيّة والحقوقيّة وأخرى الموزونة والعقلانيّة سياسيًّا، منذ بداية الحملات الفجائيّة، قد بدأت بالتّمظهر جليًّا. كل المخاوف بتخلف لبنان الرسميّ والشعبيّ عن مواكبة التّوجه العالميّ، لتنظيم اللجوء السّوريّ والأوكرانيّ وغيره، ظهرت للعلن.


أخيرًا، وصلنا إلى الدرك الذي لا رجوع عنه، إلى الهاويّة التّي لا يجوز للبنان الموغل في المروق، توقع أن ينتشله منها أحد، عندما تقع المصيبة الكبرى، حيث يجد لبنان الرسميّ والشعبيّ والسّياسيّ نفسه، في ورطةٍ أمنيّة وحقوقيّة واقتصاديّة ودبلوماسيّة دوليّة. وعند هذا الحدّ، فليستمر لبنان في قمع معارضيه من الصحافيين، والقضاة والمحامين والناشطين، ومن مواطنيه من مجتمع ميم- عين، ومن لاجئيه من السّوريين...

تعليقات: